قصائد للشاعر الفرنسي برنار مازو
هذا الغياب اللامتناهي
ترجمة: بول شاوول
برنار مازو من أبرز الشعراء الفرنسيين المعاصرين. له دواوين عدة، تعبّر عن غنى تجربته التي لم تنأسر لا باتجاه معين، ولا بمدرسة. خارج كل الأطر الجاهزة. ويمكن ادراجه من الخط الشعري المختزل، والمكثف، واللمّاح، والموحي، والخصب والمفتوح على الدلالات، من دون مباشرة، أو إطناب، أو تفسير. جمله الشعرية تشرق بكثافتها تضيء بغموضها المفتعل.
صدر له أخيراً “cette absence infinie” (هذا الغياب اللامتناهي) عن “دار لودي بلو”.
هنا ترجمة لعدد من القصائد:
لغز العالم اللامتناهي
ـ 1ـ
في ثنايا القصيدة
السرية
حيث يرقد
المعتم
يترنح
الصوت فجأة
ويصمت.
ـ 2 ـ
ولم أعد أملك كلمات
لأسائل العالم
وفي الضوء الصافي للصفحة
عبثاً
أحاول تسمية الأشياء
ـ 3 ـ
لا شيء من الآن فصاعداً
لنشير إليه
لنصفه
سوى لغز العالم
اللانهائي
انعطافه البائس
ـ 4 ـ
وكل هذه الكلمات التي كانت تغني
على شفتي
لن تصير قريباً
سوى رماد متناثر
في الريح..
ـ 5 ـ
والريح
الريح تمحو
قريباً
آثارنا
وجرحَ الشمس
وغبار الأيام..
وما عسانا نقول
عندما
يكون كل شيء قد قيل؟
يبقى الصمت
لكي نعززه
(2001)
طيور
أيتها الطيور التي ترافقني
إلى أبعد التخوم
خففي تعبي، كفكفي دموعي
فلتكن حياتي أخف!
كما لو ان
كما لو ان الوف الكلمات
ترنّ عبري
منذ ليل الأزمان
لتغني جمال العالم الهش
تحت أجفان الليل
ـ 1 ـ
انت لا تتكلم
انت تنتظر
الليل
عذوبته
حيث يتمدد
برده القاتل
ـ 3 ـ
ثمة من يتكلم
هناك
وقد أدار
وجهه شطر الليل.
ـ 4 ـ
لكن
لا نملك دائماً
الكلمات اللازمة
لكي لا نقول الأمل
المحفر
في ألم الأيام.
ـ 5 ـ
ويضيع الصوت
حيث استنفد كل شيء
لكنه بقي
بلا صوت
هناك حيث الصقيع
يفحم الحياة
ـ10 ـ
هناك
حيث لا شيء
يتحرك
سوى الليل
وعدوانيته الصماء
ـ 12 ـ
تبقى مستنداً
إلى جدار الكلمات
لكي لا تضعف
لكي لا تموت
ـ 13 ـ
ثم تنام
تنام أخيراً
متفلتاً من كل شيء
تحت أجفان
الليل
المغمضة
(2001)
انتظار لا يُملأ أبداً
ـ 1 ـ
قصيدة واحدة
يقول
كلية العالم
ما يفصلنا
عن الحياة المحلومة
وأنا بكل هذه الكلمات
على طرف الشفتين
لأصفها
فجأة
أبكم.
ـ 2 ـ
نحن الذين
نمضي في
الوقت
كعميان
من أين يأتينا
هذا التعب
الذي ينوء فجأة
بكل ثقله
على أكتافنا
كآلاف الحيوات
المتراصة؟
برنار مازو.. الكثافة المُضيئة تُؤْذينا في الصّميم
عبد اللطيف الوراري
غطّى بودلير ورامبو ومالارمي بوصْفهم الشُّعراء الحديثين الذّائعي الصّيت الّذين رجّوا شجرة نسب الشّعر ليْس في فرنسا وحدها فحسب، بلْ في أرجاء المعمور على مُنْجز كثيرٍ من مُواطني بلدهم ولا يزالون، فيما أظنّ، حتّى اليوم. ربّما الّذين خبروا نِداءَ القصيدة ممّن جاروهُمْ في نزعة التّجديد ومُغامرة الكشف والتّجاوز من قلائل الجيل التّالي ضمنوا لأنفسهم مكانا معلوماً وخاصّاً في درْس التّاريخ من أمثال سان جون بيرس وروني شار وهنري ميشو وإيف بونيفوا تحديداً. لكنّ شعراء كُثراً في فرنسا، في زخم الحركة الثّقافية الأكثر تقلُّباً وعمى الألوان حتّى، لم يأخذوا حقّهم من التّداول كما يجب، بلْ إنّ منهم قلّ أنْ تسمع باسْمِه حتّى وإنْ كان منجزهم الشّعري جديراً بالاعتبار، أمّا الّذين تحسّسوا بوطْء أقْدامهم، بلْه أقلامهم ألْغام الأرض، وآثروا السّلامة فإنّهم انْصرفوا إلى أجْناس أخرى من الكتابة، وأراضيَ ما تفْتأُ بكْراً. تلك فاتورةُ التّاريخ الّتي يُبهظُها الأوّلون ويؤدّي ثمنها ممّن تأخّر بهم وقْت الهِبات بلا حساب، ولنا في تاريخنا الشّعري الحديث درْسٌ من ذلك، ربّما يسطع أكثر في البِلاد ذات التّقليد الشّعري العريق. ولهذا نفْهم كيْف أنّ شعراء العراق ولبنان وسوريا ومصر وتونس والمغرب، بالتّرتيب وتمثيلاً لا حصْراً، يشْكون منْ الْحُجُب الشّفيفة أوالسّميكة لروّاد الحداثة، بحقّ ودُونه.
ومهما كان من أمر، فإن في فرنْسا حركة ثقافيّة (احتفاليّات، تظاهرات، أنطولوجيّات..) تعيد الاعتبار لأولئك المتأخّرين ممّن لم يجيدوا التّرويج لأنفسهم، وأغلبهم من ذوي الإيقاع الخفيض الّذي يميل، في العمق، إلى شعر يعيد إنتاج غنائية جديدة عبر كتابة لا تعتمد على اللّعب اللغوي، بل هي، بالأحرى، تكشف المعاني المتحدّرة من أعماق الأنا، والموحية بالنبرة الغائبة التي تكتنفها الأسرار الملغزة للوجود. ولكم كانت الغنائية غائبة عن الشعر الفرنسي حتّى ظنّ النّاس زوالها فعادتْ أقْوى وأصفى من غير ما فجاجة رومنطيقيّة مع هؤلاء الشعراء المعاصرين منذ نهاية القرن المنصرم: شارل جوليي، ألبان جيلي، مارك آلين، أندري فلتير، كلود استيبان، أنيز كولتز، جون ميشال بولبوا، و ليونيل راي، و برنار نويل وليْس آخرهم الشّاعر برنارد مازوBernard mazo.
تعبّر تجربة برنار مازو الشّعرية عن غناها وفرادتها الّتي تأتّت له من أسلوبه المائز واللافت في الكتابة الّتي تحتفي في صوْغ مفردات كوْنِها الشّعري بالمكثَّف، والمقتضب، والموحي، والمحتمل المفتوح على الدلالات حيْث تشرق جملها الشعرية بكثافتها الّتي تضيء بإشراقاتِها العابرة والمتقشّفة فضاء القصيدة، سُرعان ما تضعف وتنطفئ كأنّ الشّاعر عثر على الكلمة الأخيرة المطلقة الّتي توحي بالشّاسع وما فوق الوصف. يكتب برنار دائماً القصيدة نفْسها على نحْوٍ تامّ، دقيق وموجز؛ وفي كتابتِه تلك يبحث الطّرف الأقصى من الصّمت، وتخوم المكان القصيّ منذوراً للفراغ والخطر الّذي يتودّد إليه قبل أنْ يقتحمه تالياً. ما نعنيه أنّه يكتب الشّعر المرصوص، والمختزل والأبيض بقليلٍ من الكلمات وحبرها. يكتب بالسنتيمتر المربّع. ولهذا نفهم ما يقول عنه آلان بوسكيه بأنّه »المُوجِز في الكلِم، الّذي يبلغ الكثافة المضيئة الّتي يحسده عليها شعراء ذائعو الصّيت«، وعندما يحيّيه باتريس دلبورغ باعتباره يمثّل »الشّعر المؤثّر في أساسه الزّائل، والّذي يترنّح في نشوة الصّمت«؛ ومازو نفسه عبّر عن هذا ميتانصّياً: »في ثنايا القصيدة /السرية/حيث يرقد/المعتم/يترنّح/الصوت فجأة/ويصمت«.
وتُفْصح مجاميعه الشعرية عن هذا النّزوع الّذي لا يكلّ. من أواسط الستّينيات حتّى اليوم لا يكلّ في قوْل ما لا ينْقال، وهو ما يجعلها في نظر بول شاوول »تعبّر عن غنى تجربته التي لم تنأسر لا باتجاه معين، ولا بمدرسة، خارج كل الأطر الجاهزة«. ولعلّ أشهرها مجموعته اللمّاحة »الحياة المصعوقة« (١٩٩٩) الّتي قال مونيك بيتيون بصددها »هو ذا الشّعر العجيب حيْث يعبر الصّفاء المضيء، والتوّتر المستمرّ بيْن الكلام والصّمْت«، ثمّ مجموعته الأشهر »هذا الغياب اللانهائي في قلب الاشياء« (٢٠٠٣) الّتي تتجذّر في زمن الشّاعر، وتتعلّق بالوتر الحسّاس نفسه :الليل، الغياب، المرارة، الانتظار، اللّغز بلا نهاية، اللّغة المجهولة، التصدّع، رماد الكلمات. ويحدّد ذلك الفضاء الشّعري، ولا سيّما إذا أضفْنا ـ مثلما تكشف القراءة المنتبهة لماوراء المعنى ـ أنّ بعض الكلمات المُعادة تبنين المجموع كما لو كانت تقيم تناظُراً بين بيْن بنية اللاوعي وبنية القصيدة، بقدر ما تشرطها كتابيّاً أعماق الكينونة الّتي تتحدّر منها. من هنا، يمسُّنا الشّاعر في الصّميم، بل يُؤْذينا بسببٍ من نزعة قصيدته الميتافزيقيّة حيْث يصير كلّ مقطع فيها ضرْباً من المفتاح المجهول الّذي يشرع باب الكارثة المكتنفة بالأسرار. في أحد المقاطع نسمعه خافتاً يقول:
»هُناك/حيث لا شيء/يتحرك/سوى الليل/وعدوانيّته الصمّاء«
وفي ثانيها:
»رُبّما وحْدهُ/راوي/الجُمْلة/من أجْل أن ينحّي جانباً/أشْداق/الموت«،
مثلما في:
»العصافير التي تمضي فوق سطح البحر/تحلم بالشـواطئ البعيدة حيث يأخذها الموت«.
في هذا المناخ تفجّر القصيدة، أدائيّاً، المعاني اللامُتناهية وهي توحي دفْعةً واحدة بـ:النُّقصان، الفقدان، الصّمت، الموت، الضّياع، المطلق، العزلة، الجمال واليأْس(١).
في كتابته الشّعرية آثارٌ مُتصادية وشفيفة من نصوص الرومانسيّة الألمانيّة وبودلير وروني شار بسبب من هذه النّزعة، والقدرة على الوفاء بأكثر الأشياء هشاشة داخل غنائيّته الخاصّة ذات الشّفافيّة والتكثيف النقيّ المتحرّر من رطانات الكلام، وممّا سار إليه السورياليّون. ينظر إلى الشعر كـ»ثورة وخلاص في مواجهة العمل التدميري الذي تضطلع به تكنولوجيا الاتصال الحديث«، وتقوم وظيفة هذا الشّعر لديْه على »التّعبير عن معضلة الوجود الإنساني؛ عن انبهار الإنسان، وقلقه في العالم؛ عن هذا الوجود الهش، والعابر؛ والذي يملك الشعراء الكلمات للإفصاح عنه«(٢). إنّه، في نهاية المطاف، شاعرٌ يخصُّنا تحديداً، لا يتورّع عن أن يرجّ عصْـبنا الدّاخليّ، ويعلّمنا أنّ الشّعر لمّا يكتب بالحواسّ، وبالصّمت المتيقّظ والحيّ، وبالشّفافيّة اللافتة، وبالتّكثيف الضوئيّ، وبالفراغ المحدق، وبالموهبة من غير تكلُّف، وباليأس الّذي ينظِّف من الأمل الساذج فإنّه يؤذينا، ويجعلنا، مع ذلك أو بسببه، في محبّة الآخر والطّبيعة.
ثلاث قصائد:
السّيْف والمزْمــــار
إلى محمود درويش
[[
عَبَر من الْجِهة الأُخْرى لِلْجِدار
مِنْ غيْر أنْ ينتبِه لهُ فِعْلاً
هُنا كلّ شيْءٍ رماديٌّ
تحْت سَماءٍ واطِئة
هُنا وَسَط هذا الْحَقْل من الْخَراب
حيْثُ مزْمارُ الأَسْلاف لا يعْزف
ولا الرّيحُ الْخَرْساء تخْترقُ أشْجار الزّيْتون
يفْتقِر الأَمَل إِلى الدّم
هُنا الأطْفالُ يقْبَعون
تحْت الأَنْقاض
هُنا في غزّة
لا أَحَد يتَملْملُ
لا أَحَد يَتنفّس
مِن الصّحْراء ريحٌ جافّة
ولِلْمَوْت هذه الرّائِحة الثّقيلة.
كما لوْ أنّنا لنْ نَموت أبدا…
[[
على هذه الأرْض المنْذُورة لِلْفاجِعة
نتمسّك، نُقاوم
ونَثْبُت
في وجْه الرّياح والْمَدّ والْجَزْر
مُتحدّين شمْس الأَسْلحة
وسُطوعِها الْقاتِـل.
لأَنّـه يجِبُ أنْ نَسْتمِرّ، أنْ نَسْتمِرّ بِلا حـــدّ
في شَظَف الأيّام
كما لوْ أنّنا لنْ نَموت أبدا…
في هذه الْقَصيدة لسْتُ أنا منْ يَتكلّم إليْكُمْ
ولا صوْتي الذي تسْمعُونَه في تِلْك الْقَصيدة
لكِنّهُ مَنْ يَعْبُرني ويَرْعـــــاني:
الظِلّ الْيَائِس لِلْجَمال
ذلِك الأمَل اللانِهائيّ في قلْب النّاس
لأنّ بِأيْديــنا الّتي ترْتَجِف
بصيصاً مِن الأمَل
هُو مِصْباحٌ يسْهَرُ واهِــناً
في جُنْح اللّيْل الضّاري…
غيْر المُؤمَّل
[[
أنْت غيْر المؤمَّل
تشْغل المَكان
المَكانَ كلَّه
في حَياتي المُسْتعادة من جديد
ولَوْ أنّي أغنّي اليوْمَ
فإنّ بِالعالَم جَمالاً مُمزَّقاً
ذاكَ الّذي يتزوّجُ حرْفاً بحرْف
ختْمَ وجْـــهي
المُرصَّع على لحْمي.
لكنّ وجْهَك
البساطةَ الموجِعةَ
لوجْهِك
عذوبتَه المحْفوظة
أنّى لي بوصْف هذه المُعجِزة؟
لكنّ وجْهَك بيْن يديّ
وهُما ترْتجِفان
ثُمّ بِهذه اللّمْسة البسيطة
تَنْبعِث حُميّا العالم كلُّهــا
ووَجْــهُك كَما النّوْرس على البحر
كيْف لَنا أنْ نصِفَ ذلك؟
الغريبة
[[
تبْتسِمُ لَــنا
من الهزيع الأوّل للّيْل
تِلْك الّتي تُحاذي الصّمْت
والّتي لا تنْبس بِبنْت شفة
فَلا تُحدِّد شيْئاً
ولا يُبْهِرها غَيْرُ الْجَمـــال
ذي الشّفتيْن يُجوِّفُهما الدّم.
الكلمات الّتي يجب
[[
لِتَكُنْ لنا دائما الكلمات الّتي يجب
من أجْل أن نقول انْبِهارَنا
أنْ نكون هُناكَ معاً
في قلْب الشّموس جميعِها
فيما يأْتي..
[[
([) شاعر وناقد من المغرب[
(١) انظر ترجمة بعض نصوص الدّيوان أعدّها الشاعر بول شاوول في جريدة المستقبل ـ الثلاثاء ١٧ كانون الثاني ٢٠٠٦ ـ العدد ٢١٥٤ ـ ثقافة و فنون ـ صفحة ١٨
(٢) من حوار أجراه معه خالد النجار: »القصيدة لا تصف العالم إنما تقوله« في موقع »جهة الشعر«.