صبحي حديديصفحات ثقافية

رباب ساره بايلن

null
صبحي حديدي
العنوان الفرعي لكتاب ‘قاموس الثقافة الكونية’ يسير هكذا: ‘ما يحتاج كلّ أمريكي إلى معرفته، من ديدرو إلى بو ددلي’، وكأنّ محرّرَيْ الكتاب، كوامي أنتوني أبيا وهنري لويس غيتس (وكلاهما من أصول أفرو ـ أمريكية)، استشعرا مسبقاً مقدار الجهل الثقافي الذي يغرق فيه السواد الأعظم من مواطني أمريكا. أو كأنّ فوز باراك أوباما ببطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي استدعى ضرورة تثقيف، لكي لا يقول المرء: تعليم، ذلك السواد ذاته (ابتداءً من السيدة سارة بايلن، حاكمة ولاية آلاسكا والمرشحة الجمهورية لمنصب نائب الرئيس، والتي كُشف النقاب مؤخراً عن حقيقة أنها كانت تظنّ أفريقيا دولة، لا قارّة).
والكتاب مرجع فريد في النطاق والأغراض والمنهج، يسعى إلى إنصاف ‘الثقافات المغيّبة’، ومنحها حقّ الحضور في الموروث الإنساني العريض، بغية التوصّل إلى ‘تفاهم’ جماعي حول نظام ثقافي كوني، يمارس فيه الغرب هيمنة أقلّ، وتمارس الشعوب الأخرى المزيد من المشاركة والإغناء والاغتناء. وهذه مهمة جليلة ونبيلة، ولكنها معقدة وإشكالية بالطبع، لأنها لا تستطيع تفادي ترجيح حصّة الغرب على سواه من العوالم (وهذا أمر يتضح منذ العنوان الفرعي الذي يربط الفلسفة الفرنسية، في شخص ديدرو، بالثقافة الشعبية الأمريكية، ممثلة بالمغنّي وعازف الغيتار الأفرو ـ أمريكي بو ددلي)؛ ولا مفرّ لها من الإفراط في الإستنساب والإنتقائية، من جهة ثانية.
ولنذهب، مباشرة، إلى أربعة أمثلة عمّا يقوله القاموس عن الثقافة العربية الحديثة:
ـ على امتداد القرن العشرين (بأسره!) لا يذكر المحرّران من أدباء اللغة العربية سوى طه حسين، يحيى حقي، يوسف إدريس، نجيب محفوظ، ونوال السعداوي (مقارنة، على الجانب الإسرائيلي، بأسماء مثل يوسف عجنون، عاموس عوز، أ. ب. يهوشواع)؛
ـ الشعر العربي، الجاهلي والأموي والعباسي والحديث والمعاصر، غير ممثّل البتة (نعم: البتة!)، وكأنّ الشعر ليس ‘ديوان العرب’، أو ليس ركيزة كبرى في تكوين الثقافة العربية؛
ـ علّة الإنتقائية تبلغ ذروتها في التركيز على أسماء حفنة محدودة من ‘النجوم’ في الفلسفة الإسلامية (ابن رشد، ابن سينا، الغزالي)، وإهمال تامّ لمنجزات الكبار من اللغويين والمؤرّخين والأدباء والمتصوّفة (الجاحظ، على سبيل المثال، يُشاد به عرضاً، ولكنه لا يحظى بمادّة مستقلة)؛
ـ الموسيقى العربية (بل والإسلامية أيضاً) لا تتمثّل إلاّ في آلة الرباب، وصوت أم كلثوم.
وكان الأمر سيبدو طبيعياً لو أنّ المحرّرَين كانا من ذلك ‘الرهط’ الإستشراقي الغربي المعتاد، الذي عوّدنا على أيّ شيء باستثناء الإلتفاتة المنصفة لثقافات الشعوب ‘الأخرى’. غير أنّ أبيا غانيّ الأصل وأستاذ الفلسفة والدراسات الأفرو ـ أمريكية في جامعة هارفارد، في حين أنّ غيتس أفرو ـ أمريكي ورئيس قسم الدراسات الإنسانية في الجامعة إياها. كلاهما خاضا سجالات طاحنة ضدّ ‘المركزية الغربية’، وكلاهما دافعا عن حقّ التابع في إسماع صوته ورواية حكايته. كذلك كان الأمر سيهون لو أنّ حظوظ الثقافات الأخرى تساوت مع حظوظ الثقافة العربية. غير أننا نقرأ موادّ مستقلة عن أسماء أفريقية من الصومال وكينيا وغانا ونيجيريا، وأسماء آسيوية من كوريا وأندونيسيا وماليزيا والباكستان، وطائفة ثالثة من أمريكا اللاتينية… ليسوا أرفع شأناً من ممثّلي الثقافة العربية، بل إنّ بعضهم لا يُقارن البتة بما أنجزته الثقافة العربية في الشعر والرواية بصفة خاصة.
والغبن، في الواقع، لا يقتصر على الأسماء وحدها. الثقافة ليست النتاج المكتوب في الأدب والفنون والفلسفة والعلوم فحسب، بل هي أيضاً التراثات الشفهية والأساطير والعادات والفولكلور الشعبي والأديان، الأمر الذي لا يتردد المحرّران في الإعراب عنه منذ المقدّمة. وباستثناء حكاية ليلى والمجنون (التي يعتبرها المحرّران ملحمة شعبية ذات أصول عربية ـ فارسية ـ أوردية!)، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، والمولد النبوي (في طقسه الشعبي المصري تحديداً) وشعائر الصيام والحجّ؛ فإنّ القاموس يغفل إسهام التراثات الشفاهية والشعائرية العربية في الموروث الإنساني.
وهذا الإهمال يثير استغراباً إضافياً حين يتذكر القارىء ما يعلنه المحرّران في المقدّمة، من أنّ اقتصاد وتكنولوجيا ودين وثقافة أوروبا لم تكن من صنع ‘الأبيض’ وحده؛ وأنّ عصر النهضة الأوروبي يدين بالكثير إلى منجزات الفلسفة العربية، خصوصاً بعد غرق أوروبا في ظلمات العصور الوسطى. وفي العدد الأخير من مجلة New York Review of Books، يسجّل أبيا المزيد من حقائق هذا الدَيْن، في مراجعته لكتاب دافيد لفرنغ لويس ‘بوتقة الله: الإسلام وصناعة أوروبا الحديثة، 570 ـ 1215’، الذي يستخلص أنّ فكرة أوروبا بدأت من، واعتمدت على، العلاقة الجدلية بين عاملين: إمبراطورية شارلمان، والثقافة العربية الإسلامية في الأندلس.
فهل تُلام ساره بايلن إذا جزمت ـ اعتماداً على طراز التثقيف السطحي، الـ ‘فاست ـ فود’ والـ ‘تيك ـ أواي’، الذي يدمنه تسعة أعشار الأمريكيين ـ أنّ الرباب هي آلة العرب الموسيقية الوحيدة؟ وأيّ قاموس للثقافة الكونية يمكن أن ينفع، إذا أخذها الفخار بالتراث الثقافي الغربي مأخذاً شديداً، فعكست الآية واعتبرت أنّ عرب بني هلال سرقوا فكرة الرباب من الغرب، وكانوا بذلك يقلّدون آلات الكمان والتشيلو والكونترباص؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى