استعراب بائد
صبحي حديدي
انقرضت، أو توشك على الإنقراض، ظاهرة عُرفت في التاريخ الكولونيالي باسم عجيب الإشتقاق، ملتبس المعنى، طارىء الإختصاص، هو «المستعرب» Arabist. والنفر من هؤلاء قوم يختلفون، في التصنيف والتعريف، عن المستشرقين الذين تكفّل الراحل إدوارد سعيد بتفكيك مآربهم ومشاربهم وأجنداتهم وفضائل بعضهم وقبائح معظمهم. أو قلْ، في تسويغ اجتراح توصيف جديد يُفرد لهم خانة منفصلة أو مستقلة، إنهم تلامذة أبناء للمستشرقين الآباء، يسخّرون طرائق الإستشراق في خدمة الأغراض الجيو ـ سياسية والدبلوماسية والأمنية للقوى العظمى، الغربية غالباً. كذلك يمكن للبعض منهم أن يمتهن، بين حين وآخر، خدمة سلسلة من الأغراض «الثقافية» في الظاهر، تظلّ بريئة حسنة النيّة حتى تسفر عن أهدافها الباطنة، فتكشّر حينئذ عن أنياب جديرة بالضواري وحدها.
والمستعربون هؤلاء متعددو المنابع والأهواء والمواهب، فمنهم الأكاديمي أو السفير، ومنهم الأديب أو ضابط الإستخبارات، ومنهم المعلّق السياسي أو عالم الآثار، ويكفي للتدليل على «تعددية» تكوينهم أن يسرد المرء لائحة محدودة للغاية من أسماء كبارهم: ريشارد برتون، الليدي هستر ستانهوب (أو “ملكة البدو” في اللقب الظريف!)، توماس إدوارد لورانس (العرب)، جرترود بيل، هاري «عبد الله» فيلبي، دانييل بليس (مؤسس «الكلية البروتستانتية السورية» التي ستتحوّل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت). ثمّ، في اللائحة المعاصرة، ريشارد مورفي، هيرمان إيلتس، روبرت بلليترو، دافيد نيوتن (السفير ما قبل الأخير للولايات المتحدة في عراق صدّام حسين)، والسفيرة الشهيرة أبريل غلاسبي، التي أبلغت دكتاتور العراق بأنّ الولايات المتحدة ليس لها رأي في نزاعه الحدودي مع الكويت.
والإنحطاط لحق بهذه الفئة لاعتبارات عديدة، ولكنّ العوامل السياسية التي تلازمت مع ولادة الدولة العبرية، والإنحياز المطلق الذي اتسمت به السياسات الخارجية للولايات المتحدة والغرب إجمالاً لصالح أمن إسرائيل، كان في رأس تلك الإعتبارات. ذلك لأنّ هذه الفئة اتُّهمت مراراً بالإنحياز إلى العرب ـ صدّقوا هذا! ـ أو الخلط بين عشق اللغة العربية والإفتتان بحياة الصحراء، وبين الحماس للقضايا العربية أو السعي إلى تقهّم السخط العربي تجاه الغرب. هذه حال لخّصها مورفي بمرارة ذات يوم: «أصبحت كلمة مستعرب ترادف مواقعة العرب فكرياً ودبلوماسياً». وبعيداً عن هذا المعنى الرجيم، رأى مرفي أنّ المستعرب ـ في التصنيف الأمريكي المعاصر على الأقلّ ـ هو ذاك الذي “صار مختصاً باللغة العربية ومنطقتها، وصرف بعض سنواته الوظيفية عاملاً في، أو حول، الشرق الأوسط”.
من جانبه كان فرنسيس فوكوياما، دون سواه: صاحب صرعة “نهاية التاريخ”، قد خصّ ظاهرة الإستعراب بتحليل أكثر تهذيباً، واتكأ على معلّمه الفيلسوف الألماني هيغل لكي يعتبر المستعربين «ظاهرة سوسيولوجية، ونخبة داخل النخبة، ارتكبوا من الأخطاء المنهجية أكثر بكثير مما ارتكب زملاؤهم من المختصين بمناطق أخرى في السلك الدبلوماسي. والسبب في ذلك أنهم لا يتبنّون القضايا العربية فحسب، بل يتبنّون الميل العربي إلى إيهام الذات أيضاً»!
أم أنّ حكاية المواقعة والمضاجعة والنوم في فراش العرب… أقلّ وطأة من هذا التشخيص!
وليام كواندت، الباحث والمؤرّخ المعروف المختصّ بالدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، يميل إلى إنصاف هؤلاء، عن طريق وضع تصنيفاتهم التنميطية في سياق سياسي ملموس: “المستعربون لا يشبهون أمثالهم من أخصائيي المناطق، في المخيّلة الشعبية على الأقلّ. فإذا أشار المرء إلى أفريقاني، مثلاً، فإنّ الصورة الناجمة سوف تصف شخصاً مختصاً بتاريخ ولغات وثقافات أفريقيا، ممّن قضى في القارة ردحاً من الزمن، ولن تتبادر إلى الذهن تداعيات تدعو إلى ذمّ الرجل. لكنّ صفة المستعرب تستدعي، على الفور، دلالة سيئة: هو ذاك الذي صرف الوقت في تعلّم اللغة العربية، أو عاش زمناً طويلاً في العالم العربي، وهو معادٍ لإسرائيل بالضرورة”!
كلّ هذا لا يعني، البتة، عدم وجود مستعرب مستيقظ الضمير، ناقد لسياسات بلاده، مدرك لمخاطرها على المدى البعيد، مستعدّ للذهاب إلى حدّ الإستقالة من منصبه في سياق قناعاته تلك. هذه حالة نادرة للغاية، كما يتوجب التحذير، ولعلّ آخرها وأشدّها وضوحاً كانت استقالة جون برادي كيسلنغ من عمله في وزارة الخارجية الأمريكية، قبيل أسابيع من غزو العراق. وفي كتاب استقالته قال كيسلنغ، الذي سبق له أن عمل في إسرائيل والعالم العربي: “إنّ مسارنا الراهن سوف يجلب انهيار الاستقرار والمخاطر، وليس الأمن”.
وفي هجاء أمثال كيسلنغ، وقبله أمثال مورفي، كان الصحافي الأمريكي روبرت د. كابلان قد أصدر، منذ سنة 1993، كتابه الشهير «المستعربون: رومانس نخبة أمريكية»، والذي كان بمثابة مسمار أخير يُدقّ في نعش تلك الفئة العجيبة. وكاتب هذه السطور ينضوي في عداد فئة (لعلها ليست أقلية) ترى أنّ ذلك المحاق فأل خير، وليس نذير خسران، لأنّ قضايا العرب لن تفقد الكثير من وراء تشييع استعراب ساد حقبة من الزمن، ثمّ باد واندثر، أو انقلب إلى ضدّه تماماً. وفي نهاية الأمر، كان وزير الدفاع الإسرائيلي الشهير موشيه دايان هو صاحب القول المأثور: «كلما زاد أصدقاء العرب في الإدارات الأمريكية، توطّد أمن اسرائيل أكثر من ذي قبل»!
خاص – صفحات سورية –