السياسة المصرية في مأزق العدوان على غزة
ياسر الزعاترة
كان مثيرا للدهشة أن تلجأ الدبلوماسية المصرية لتركيا من أجل طرح مبادرة بشأن ما يجري في قطاع غزة، فمصر التي رأت نفسها على الدوام المحور الأكثر أهمية في الإقليم تبعث بوزير خارجيتها إلى أنقرة للاستنجاد برئيس وزرائها على أمل الخروج من مأزق اتهامها من قبل الجماهير العربية والإسلامية -وبعض الأنظمة كذلك- بالتواطؤ مع العدوان على قطاع غزة.
الأتراك أنفسهم أصيبوا بالدهشة، كما عسكت ذلك صحافتهم وتصريحات بعض سياسييهم. وقد كشفت بعض المصادر التركية كيف كال وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط أقذع الشتائم لحركة حماس، ما اضطر الأتراك إلى الرد عليه.
لا خلاف على أن القاهرة في مأزق، الأمر الذي تعكسه وصلات الردح السياسي اليومية في الصحافة والمحطات التلفزيونية ضد منتقديها، وقد وصل الأمر بصحيفة قومية أن تكتب في عنوانها الرئيسي “العميل رقم واحد”، وذلك في وصف السيد حسن نصر الله، وبالطبع على خلفية مطالبته المصريين بالخروج إلى الشوارع احتجاجا على سياسة نظامهم حيال الفلسطينيين في قطاع غزة، بينما رد أبو الغيط شخصيا على نصر الله والإيرانيين بطريقة مثيرة تتحدث عن تدمير حزب الله للبنان وهزائم إيران وإمكانات الجيش المصري الكبيرة!!
في هذه الأجواء كان من الطبيعي أن تتجاوز القاهرة الأعراف الدبلوماسية وتغامر بطلب النجدة من تركيا التي لم يجد رئيس وزرائها بدا من اهتبال الفرصة رغم انشغاله بالحملة الانتخابية لحزبه (العدالة والتنمية) في البلديات، حيث طار سريعا إلى عدد من العواصم لمتابعة الملف، وذلك في سياق ما قيل إنه مصالحة عربية (نعم مصالحة عربية!!)، مع أن الهدف الرئيسي هو إيجاد مخرج لاستمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
في هذه الأجواء وبعد زيارة أبو الغيط لأنقرة، جاء خطاب الرئيس المصري ليزيد في مشاعر الخيبة التي تعتمل في نفوس المصريين، حيث أصر الرجل على عدم فتح المعبر إلا بالتوافق مع السلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي، في حين يؤكد قضاة وحقوقيون مصريون أن القانون الدولي لا يفرض على مصر إبقاء المعبر مغلقا، مع العلم أنهم منعوا من تنظيم مؤتمر لهذا الغرض، في حين يعلم المعنيون أن اتفاق المعابر الذي وقع بترتيب من محمد دحلان بموافقة الرئيس الفلسطيني محمود عباس عام 2005 كان بين السلطة والدولة العبرية والاتحاد الأوروبي.
الرحيل إلى أنقرة من زاوية النظر المصرية -وإن بدا جزءا من مساعي الخروج من مأزق العدوان على غزة- هو من جانب آخر محاولة لاستقطاب تركيا في المواجهة مع إيران التي تشعر مصر بتمددها المستمر في المنطقة على حسابها، مع ما ينطوي عليه ذلك من تأكيد لمقولات بعض السياسيين حول واقع أن اللاعبين الأساسيين في المنطقة هم تركيا وإيران وإسرائيل، بينما تكتفي مصر بمتابعة المشهد من دون تأثير يذكر، ولا قيمة بالطبع لمقولات السياسيين المصريين المؤكدة على أن أحدا لن يتمكن من تحجيم الدور المصري لأن السياسة هي موازين قوى وفعل على الأرض وليست مجرد كلام وتمنيات.
في زيارته لأنقرة طرح أبو الغيط مبادرة لحل المعضلة في قطاع غزة من أربع نقاط خلاصتها إعادة التهدئة وفتح المعابر (ليس بينها معبر رفح)، أي إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل انتهاء التهدئة الأخيرة، الأمر الذي لا تقبله حماس نظرا لما ينطوي عليه من إبقاء للقطاع بين الحياة والموت، وبالطبع انتظارا لأجواء سياسية يعتقد المصريون والسلطة بأنها ستكون أفضل لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل انتخابات مطلع 2006.
صحيح أن القاهرة قد نجحت في تجاوز مطلب قطر وبعض الدول العربية الأخرى بعقد قمة عربية طارئة، واستبدلته بلقاء لوزراء الخارجية كانت قراراته في جوهرها نصرة لها في مواجهة “المزيادات”، إلا أن من المشكوك فيه أن ينطوي ذلك على تبرئة لها أمام الجماهير العربية والإسلامية، أو إخراجاً لها من مأزق تراجع دورها وحضورها في المنطقة، لاسيما أن القناعة السائدة بشأن مؤسسة الجامعة العربية هي أنها صارت أقرب إلى فرع للخارجية المصرية.
والحال أن محددات الموقف المصري من حماس إنما تعود إلى جملة من العوامل، لعل أبرزها التعاطي مع الحركة بوصفها امتدادا لحركة الإخوان المسلمين المطاردين في الداخل، إضافة إلى التراجع التقليدي أمام الضغوط الأميركية والمطالب الإسرائيلية، وهو تراجع يتعلق بصفقة تجنب ضغوط الإصلاح الأميركية مقابل الدفع من جيب القضايا التي تهم واشنطن وتل أبيب، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والعراقية، وربما سائر القضايا الحيوية الأخرى (السودان، الصومال وسواهما).
وهنا تحديدا تبرز مسألة الحرص على تمرير التوريث من قبل عائلة الرئيس المصري وحلفائها من السياسيين ورجال الأعمال، مقابل حرص مدير المخابرات عمر سليمان -الممسك عمليا بملف السياسة الخارجية- على إثبات أفضليته للمنصب، ربما لأنه يضيف إلى المواقف المطلوبة على الصعيد الخارجي قدرة على التحكم بالوضع الداخلي في ظل تنامي المعارضة الداخلية وعلى رأسها الإسلامية (الإخوانية)، الأمر الذي قد يمنحه الأفضلية بالفعل في عرف الدوائر الأميركية.
عودة إلى السياق المتعلق بالهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة والذي عاشت مصر خلاله واحدة من أسوأ أوضاعها أمام الرأي العام العربي والإسلامي الذي حمّلها بشكل مباشر مسؤولية الهجوم، حيث اتهمها بالتحريض، فضلاً عن التواطؤ، الأمر الذي انعكس مظاهرات واعتصامات أمام سفاراتها في عدد من العواصم العربية، بل وصل الأمر حد اقتحام إحداها كما في مدينة عدن اليمنية.
حدث ذلك في ظل تخبط وارتباك في الموقف لم يسبق له مثيل، بدأ بإعلان وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني الحرب على حماس وقطاع غزة من قلب القاهرة، وتواصل بتحميل وزير الخارجية أحمد أبو الغيط المسؤولية لحركة حماس، وإلى جانبه محمود عباس، وبالطبع بدعوى وقفها العمل بالتهدئة..
ثم تواصل بإصرار الرئيس المصري على عدم فتح معبر رفح من دون وجود السلطة ومندوبي الاتحاد الأوروبي، واختتم بتصريحات أبو الغيط حول ضيق المعبر وعدم قدرته على استيعاب تدفق المساعدات بشكل جيد.
والخلاصة التي فهمها المعنيون منذ زمن، هي تلك التي عبّر عنها رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشعب المصري بقوله إن مصر لن تقبل بإمارة إسلامية في قطاع غزة، والتي لا يمكن النظر إليها بوصفها محض رد من قبل القاهرة على رفض حماس حضور الحوار الفلسطيني قبل أسابيع، لأن هدف الحوار في الأصل هو التمديد للرئيس محمود عباس، إلى جانب تهيئة الأجواء لانتخابات تعيد الأوضاع في القطاع إلى ما كانت عليه قبل الانتخابات، ونسخ ذلك التحول من كتاب السياسة الفلسطينية.
ما ينبغي التركيز عليه هنا أن الأمر لا يتوقف عند معضلة الموقف المصري من حماس، بل يتعداه إلى القضية برمتها، فالقاهرة هي التي مررت قتل ياسر عرفات حليفها التاريخي، وهي التي رتبت الخلافة لأعدائه المطلوبين أميركيا وإسرائيليا وما زالت تمنحهم الرعاية رغم علمها ببرنامجهم المعادي للمقاومة وسقفهم السياسي البائس في المفاوضات كما أكدت ذلك مسيرة العامين الأخيرين، والتي كان يمكن أن تتوصل إلى صفقة سيئة لو وافق الإسرائيليون على منحهم -أعني قادة السلطة- بعض التنازلات فيما يتعلق بملف القدس، وهي التنازلات التي سيكون بالإمكان الحصول عليها إذا فاز حزب كاديما، لاسيما أن الفريق الصهيوني المحيط بالرئيس الأميركي الجديد يؤمن بهذا الطرح، ويعتقد بأن على الدولة العبرية أن تهتبل الفرصة قبل وقوع تحولات دولية، الأرجح أنها لن تكون في صالحها.
هكذا تعيش الأمة أزمة دولتها الكبرى، وتراجعها الكبير على إيقاع تمرير التوريث وصراع السلطة وإرادة النظام قمع المعارضة الشعبية من دون ضجيج وانتقادات خارجية، وبالطبع على حساب دور مصر وحضورها وأمنها القومي، الأمر الذي ينبغي أن يواجه بمزيد من الحراك الشعبي الداخلي، ونقول بمزيد، لأن حراكا كهذا يتوفر بالفعل، وإن لم يرق إلى حجم التراجع الذي تعيشه الشقيقة الكبرى.
بقي القول إن مأزق التعاطي مع الشأن المصري من قبل المحللين يتمثل في رفض بعض إخواننا المصريين لأي انتقاد خارجي لسلوك نظامهم، واعتباره شكلا من أشكال الانتقاد للبلد والشعب برمته، وهي معضلة لا ندري كيف يمكن التعامل معها، لاسيما أننا كحريصين على هذه الأمة ندرك أن مصر هي الشقيقة الكبرى وشعبها هو الأكثر حرصا على قضايا الأمة.
وهذا يدفعنا إلى أن نتمنى عليهم أن يفصلوا بينهم وبين نظامهم السياسي، تماما كما تفعل سائر الشعوب العربية والإسلامية الأخرى، لاسيما أن معاناتهم منه تبدو أكبر من معاناة الأمة.. حفظ الله مصر من كل سوء، وأبقاها وشعبها الأبي ذخرا للإسلام والمسلمين.
ــــــــــ
كاتب فلسطيني