قضية فلسطين

هل من رهان بعد على مقولة «الشارع العربي»؟

توفيق المديني
من نواكشوط إلى صنعاء والقاهرة ودمشق ومدن العراق والسودان، خرج عشرات الآلاف من الجماهير العربية للتنديد بالعدوان الصهيوني الغاشم على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، وعلى تواطؤ النظام الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني.
لقد فجرت الحرب العدوانية الصهيونية على قطاع غزة الطاقات المكبوتة في الشارع العربي، حيث عمت عواصم المراكز الإقليمية في العالم العربي مظاهرات قوية تندد بالحرب الأميركية –الصهيونية تجاه الأمة العربية، وتطالب بضرورة تدخل الأنظمة العربية لوقف العدوان. وتصدر هذه المظاهرات الأجيال الجديدة من الشباب التلميذي والطالبي الذي كثيرا ً ما قيل إنها مائعة وتعمل فيها الثقافة الاستهلاكية الأميركية، وأنه ليس بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تناقضات حادة من الطراز الذي كان قد دفع بآبائهم إلى معاداتها طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما لعبت القوى السياسية المعارضة على اختلاف أطيافها الايديولوجية والسياسية دورا بارزا في تحريك الشارع العربي، ولاسيما في مصر.
كما أكدت هذه المظاهرات الشعبية الحاشدة عن عمق الطلاق التاريخي بين جماهير الشعب العربي ومعظم الحكومات العربية، لجهة وقوف كل منهما على طرفي نقيض، من حيث الموقف من الحرب الصهيونية على الشعب الفلسطيني. غير ان الذي كرس هذا الافتراق الكبير والشاسع في موقف الشعب العربي عن موقف الحكومات هو ما بدأ يتكشف من أن بعض الحكومات العربية كانت متواطئة مع العدوان الصهيوني على قطاع غزة، علما ً بأن العدوان
لا يستهدف فلسطين فحسب، بل إنه يستهدف الأمة العربية والإسلامية كلها.
وتميزت المظاهرات الشعبية بردود أفعال واحدة وبرفع شعارات واحدة، وأكدت مرة أخرى أن الحركة الشعبية لها نزوع أصيل إلى التحرر والمواجهة مع العدو الصهيوني، تجلى دائما في نزوعها الوحدوي التحرري، واذا كان المدخل الديمقراطي هو المدخل الضروري، بل المدخل الوحيد الممكن لاطلاق سيرورة هذه الحركة الشعبية على الصعيد العربي، فإن مقاومة الإمبريالية،لا سيما الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني ومقاومة التواطؤ مع العدو القومي للأمة،
وما سينجم عنه من بلايا، هي الوجه الآخر لهذا المدخل ومن دونه يفقد المدخل الديمقراطي نفسه طابعه القومي التقدمي.
فالنزوع إلى استعادة المرحلة التحررية التي شهدها العالم العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي يكاد يشمل اليوم مختلف القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية في العالم العربي، حيث جعلت هذه الأخيرة من مقاومة الإمبريالية الأميركية والعدو الصهيوني شعارا نضالياً، ومعياراً أخلاقياً قيمياً تقوم في ضوئه أنظمة الحكم، وبنى الأحزاب، وأنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية السياسية.
غير أن النظام الرسمي العربي الشمولي،الذي تتحكم فيه ايديولوجية شمولية،باتت أيديولوجيته هذه بمنزلة الدين الجديد للدولة العربية، التي تستبعد سائر الايديولوجيات الأخرى المقاومة الإسلامية والوطنية ويقمعها.
وقد تحول المجتمع العربي، بعد اختراقه وتكييف أو تنسيق بناه الاجتماعية، انطلاقا ًمن ارتباط أنظمة الحكم العربية بمراكز الرأسمالية الغربية، واختيارها طريق التنمية الاستهلاكية المشوهة، التابع في إطار البقاء كجزء تابع للاقتصاد الرأسمالي العالمي، حيث أدى ذلك في ظل العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة إلى وقوع الدول العربية في أزمات اقتصادية خانقة تحملت الطبقات الشعبية إسقاطاتها السلبية والمدمرة، في ظل توزيع غير عادل للدخل القومي، والانفاق المتزايد على التسلح، وانخفاض شديد في معدلات الانتاج، وعدم اهتمام أنظمة الحكم العربية بالمشاركة السياسية، وتدهور الديمقراطية وانتهاك حقوق الانسان حين تركزت السلطة في أيدي الأقلية المستغلة التي تستخدم أسلوب القمع والقهر للحفاظ على سلطتها وتكريس استغلالها للحفاظ على مصالحها الخاصة، تحول هذا المجتمع إلى جمع أوحشد غير منتوج من أفراد استلبت فعاليتهم السياسية، وصاروا مربوطين بالدولة والسلطة، رباط الأمن أولاً، وبالصفة التوزيعية غير العادلة للدولة التي احتكرت مصادر الثروة والقوة والسلطة في المجتمع ثانياً.
وكان من الطبيعي أن يقود ذلك كله إلى سيادة حالة الاستلاب السياسي التي يعيشها المجتمع العربي، الذي تهشمت قواه الاجتماعية، وفقد فعاليته السياسية، وانخرط في نمط الاستهلاك الذي عممته الرأسمالية الحديثة المتوحشة، وبات أقرب إلى المجتمع الجماهيري منه إلى المجتمع المدني المنتج.
وأمام إخفاق الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة في صنع العملية الديمقراطية، باعتبار أن الديمقراطية قضية مجتمعية، وبسبب من بنية هذه الأحزاب التي تجعل النفوذ فيها يبدأ من القمة متجها ً إلى القاعدة، وهذا وضع مقلوب من الناحية السياسية والدستورية، من شأنه أن يجعل نفوذ الزعماء في الحزب على الكتلة الشعبية مطلقا ً أو شبه مطلق، ولا يسمح للجماهير هنا بمناقشة الزعماء والحساب. فأصبحت هذه الأحزاب موسومة بالسلبية السياسية، سواء من حيث ذوبانها في السلطة واندماجها في عالمها، أو من حيث معارضتها لها على أساس برنامجها ذاته، ورؤيتها ذاتها.
لذلك تجدنا أمام مشكلة نظرية وعملية قوامها خروج القوى السياسية ذات الايديولوجيا العصرية والمناهج الحديثة من عالم المجتمع، وذوبانها أو الغاء نفسها إيجابيا ً أو سلبيا ًفي عالم السلطات الحاكمة، وبزوغ حركة الشارع العربي العميقة الجذور في المجتمع تطرح في الغالب أهدافا ثورية كالصراع ضد الإمبريالية الأميركية والوجود العسكري الأميركي، ومقاومة العدو الصهيوني، وتحرير فلسطين، وتحرير العراق من الاحتلال الأميركي، ولكنها تفتقد إلى المشروع العربي الراديكالي، الذي وحده قادر أن يؤطر حركة هذا الشارع العربي في حركة سياسية واعية ومنظمة، وتتمتع باستراتيجية واضحة لخوض الصراع مع العدو القومي للأمة.
إذا كان العدوان الصهيوني على غزة أدى إلى توحيد موقف الشارع العربي من إسرائيل والأنظمة العربية المتواطئة مع العدو، فإن السؤال الذي يطرحه المحللون هل يستطيع هذا الشارع العربي أن يشعل شرارة انتفاضة شعبية واسعة في المنطقة قد تغير صورة الوضع أو الأنظمة المستسلمة فيها، وتتفاعل كفاحيا مع حركة المقاومة الفلسطينية؟

كاتب من تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى