فلسطين المحتلة مرتين
هوشنك بروكا
فلسطين، في الأدبيات الدينية، إسلامياً، تسمى ب”الأرض المباركة”(يُنظر سورة الإسراء:1، وسورة الأنبياء:71) ويُصلى لها بإعتبارها جهةً ل”بيت المقدس” و”أولى القبلتين”، و”ثالث الحرمين”، أما يهودياً، فيُطلق عليها “إيرتس يسرائيل” أي “بلاد إسرائيل”، أو أرض الميعاد، فيما ذات فلسطين، مسيحياً، تدعى بأرض “الديار المقدسة”. هذا “المقدس الكثير”، يعني أنّ فلسطين “المقدسة” هذه، كانت من قبل، بلاداً لدينٍ كثيرٍ، عبرتها، على مرّ التاريخ، أقوام وجماعات إثنية كثيرة، كاليبوسيين، والكنعانيين، واليهود، والآشوريين، والبابليين، واليونانيين، والبطالسة المصريين، والسلوقيين السوريين، و”الصليبيين”، وسواهم من الشعوب القديمة والحديثة، البعيدة والقريبة.
أما في التاريخ الحديث، خصوصاً بعد نشاط الحركة الصهيونية في مطلع القرن العشرين، الذي ارتكز على قرارات وتوصيات المؤتمر الصهيوني الأول، المنعقد في 29ـ31 أغسطس 1897، بمدينة بازل السويسرية، بقيادة المفكر النمساوي اليهودي، المجرّي الأصل، تيودور هرتزل(1860ـ1904)، فقد أصبح إسم فلسطين كموطن، مقترناً بشعبين، هما العرب واليهود.
بعد موافقة الحكومة البريطانية، رسمياً، عبر رسالةٍ، سميت بال”وعد”، أرسلها أرثر جيمس بلفور، في 2 نوفمبر 1917، إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، على “إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين”، تحققت هذه الأخيرة، وطناً قومياً ودينياً، لليهود، ودخلت فلسطين من مرحلة “الدين الحلم” إلى مرحلة “السياسة الوعد والوفاء”، لتصبح لاحقاً في 29 نوفمبر من العام 1947، بموافقة 56 من أصل 57 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفقاً للقرار 181، دولتين لشعبين: دولة إسرائيل اليهودية(على مساحة 55%)، ودولة فلسطين العربية(45%).
وعلى الرغم من ارتفاع بعض الأصوات المعارضة في الحركة الصهيونية، آنذاك، كمناحيم بيغن، “ضد قرار التقسيم” هذا، حيث صرح هذا الأخير بعد يوم واحد من إعلان القرار، في 30 نوفمبر 1947، بأن “شرعية التقسيم باطلة، وإن كل فلسطين هي ملك لليهود، وستبقى لهم وحدهم، إلى الأبد”؛ رغم هذه الأصوات المتطرفة، الرافضة، بالقطع، لتقسيم فلسطين إلى دولتين لشعبين، جارين، إلا أنه كان من المعقولية بمكان، وعدئذٍ، أن يحدث هذا، ويتحقق حلم الشعبين، تحت مظلة القرار الأممي، فيما لو لم يركب “العقل العربي المقاوم، المناضل” رأسه، ليعلن المقاومة، تحت شعاراتٍ، من قبيل “قضية فلسطين هي قضية وجود أو لاوجود”؛ و”إما أن نكون كل فلسطين أو لا نكون”؛ و”إما أن تُعاد فلسطين كلها وتكون لنا، أو نرمي إسرائيل وكل يهودها في البحر”.
“فلسطين الشعار” هذه، بقيادة “العقل العربي المرفوع فوق الشعار”، ضيّعت على الفلسطينيين، خلال ستة عقود من الشعارات الشفوية الفائضة “الفاضية”، أكثر من نصف فلسطين الممنوحة للعرب بقرار أممي سنة 1947. ففلسطين الراهنة، بدويلتيها(دويلة فتح+دويلة حماس)، قائمةٌ الآن على مساحة أقل من 22% من أرض فلسطين التاريخية.
منذ “فلسطين الأمم المتحدة” تلك، المقسومة على فلسطينَين لشعبين،، وفلسطين اليهودية تتقوى، يوماً إثر آخر، وتتحول إلى دولة ديمقراطية، علمانية، ذات سيادة على إسرائيلها، فيما فلسطين العربية، تحولت ولا تزال، إلى أرض أكثر من خراب، لشعب أكثر من محتل، تحت أكثر من احتلال، ومشتتة بين أكثر من أميرٍ للحرب.
وإذا كان العقل العربي الراكب في عمومه، ل”فلسطين الشعار”، ينفخ ليل نهار في زمار جماهيره العريضة، التي تتوعد، في كلام هوائي، “ممتاز”، برمي إسرائيل، “بإذن الله تعالى”، في أقرب بحر، كما يتوعد فقيه الأمة أحمدي نجاد، في كل مناسبة أو بدونها، مذكّراً إياهم ب”جرائم الإحتلال الإسرائيلي”، و”وحشية آلته العسكرية”، و”عنجهيته”، إلا أنه(العقل العربي النافخ في الشعار دائماً وأبداً) ينسى أو يتناسى، في المقابل، ما فعله “الإحتلال العربي” الداخلي(ولا يزال) بفلسطين الداخل، وشعب فلسطين، ومستقبل فلسطين، ومقدسات فلسطين.
فإذا كان الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين، في كونه “احتلالاً سبباً”، قد أدخل الفلسطينيين في أول الإحتلال، وأول القتل، وأول التشرد، وأول الحرمان، وأول الضياع، فإن “الإحتلال العربي” لها، أو ما يمكن تسميته ب”الإحتلال النتيجة”، ممثلاً ب”العقل العربي الشفوي”، من المحيط الشفوي إلى الخليج الشفوي، الراكب للشعارت الشفوية، والدولة العربية الشفوية، والبعث الشفوي، بوحدته وحريته واشتراكيته الشفوية، والإعلام العربي الشفوي بفضائياته، وإذاعاته، وصحفه الأكثر من شفوية، بقيادة شيوخه الشفويين، قد أوصل فلسطين، بأرضها وسمائها، وما بينهما من شعبٍ كان له أن يعيش، كسائر شعوب الأرض، إلى ما هي عليه الآن، هذه الأيام(كما في السابق من تاريخ مقاوماتها الشفوية الكثيرة)، من قتلٍ، ودمٍ مهدورٍ، وتشردٍ، وضياعٍ مستمرٍّ، في دوامةٍ من الفعل ورد الفعل، والقتل والقتل المضاد، لا تظهر لكابوسها أية نهاية قريبة، في الأفق.
العدوان، من أيٍّ كان، ومهما كان، هو دون أدنى أيّ شك، مُدان. وقتل المدنيين العزّل الأبرياء، لا يُبرر، ولا يُعوّض.
ولا شك، أن المقاومة مشروعة، أيضاً، في كل زمانٍ ومكان، ولكن ليس كل مقاومة، أو أية مقاومة، كيفما كانت أو شاءت، كما يحلو للعقل العربي “الغوغائي” صناعتها، شفهياً، حتى لو كانت النتيجة، تدميراً للذات أو محواً لها، كما هو حاصل اليوم، في معظم “المقاومات العربية”، المشتعلة، من المحيط إلى الخليج، والتي “تفخخ” الذات العربية، لقتل الدنيا وما حواليها من حيوات، أملاً بالفوز بماورائها، من جناتٍ عسليات، وحوريات.
بفضل الشيوخ الشفويين المنظّرين لهذه “المقاومات” المصكوكات “سماوياً”، والمصبوبات في “نصوصٍ مقدسة”، هي من السماء إلى السماء، أضاع “العرب المقاومون الأشاوس”، اوطاناً تمشي على الأرض، ركضاً وراء أوطانٍ بديلةٍ، تمشي في جناتٍ، تجري من تحتها أنهارٌ من العسل، يسرحن ويمرحن فيها الحوريات الغانيات!
هذه المقاومات الشفوية، “السماوية”، هي التي أضاعت لبنان، وطيّرتها في “انتصارتٍ إلهية” بقيادة “سيدها الإلهي”، وأضاعت العراق وشرذمته وقطّعته، في حرب “المفخخات المقدسة”، بمشيخة “الأمراء القاعديين المقدسين”، مثلما أضاعت فلسطين من قبل، ولاتزال، في حرب “الإخوة الأعداء”، وحرب “كتائبها المقدسة”، التي قسّمت فلسطين إلى فلسطينَين، وشعبها العربي، إلى شعبين بعاصمتين وقيادتين، والحبل لايزال على الجرار.
فلسطين، تُقتل هناك، فيما شيخ المقاومة الشفوية، خالد مشعل، يطلق من دمشق الشفوية، كلامه الشفوي المعتاد، عن “سلاحه الشفوي العظيم”، الذي “لم تخسره حركته إلا القليل القليل”، حسب زعمه اليوم!
فلسطين، تُذبح هناك، فيما السيد الشفوي، صاحب “النصر الإلهي” الشفوي، حسن نصرالله، يطالب جماهيره العربية الشفوية، من لبنانه، بالوقوف مع غزة، والإنقلاب على حكامها!
فلسطين، تعيش تحت نارٍ، أراد لها بشار الأسد، راعي “حروب الجيوب” في فلسطين ولبنان والعراق، والمستضيف ل”رأس المقاومة”، أن تكون فكانت، ومع هذا، طلع على جماهيره العربية، ك”حمامة سلام”، مطالباً، كعادته الشفوية، “الجامعة العربية” و”الأمم المتحدة”، ب”التحرك الفوري لوقف العدوان على غزة”!
فلسطين في غزة، تُقصف بطائرات إسرائيلية تنطلق بعضها من الأراضي التركية، وبخبرات مدعومة تركياً، حسبما أفاد الخبير في شئون الشرق الأوسط د. هالوك كَركَر، مؤخراً، فيما أردوغان وحزبه الإسلامي، “العادل جداً”، يبكيان من أنقرة على شعب غزة، ويتدخلان ل”وقف الحرب” بين إسرائيل وحماس!
فلسطين، تُقصف بالبوارج الحربية، وطائرات ف16، ومروحيات أباتشي، فيما حماس وشيوخها يهددون إسرائيل، ب”فتاشاتهم”، التي تسقط في الغالب، على أهداف شفوية، دون أية خسائر لا مادية ولا معنوية، إلا نادراً جداً!
الشعب الإسرائيلي، حمل فلسطينه اليهودية، من بلاد الشتات، وأسس فيها من “لاشيء” إسرائيله “الموعودة”، لتصبح خلال ستة عقودٍ من الزمان “اليهودي” فقط، واحدة من أقوى الدول في المنطقة، وأكثرها حريةً وديمقراطيةً، فيما الشعوب العربية، أو ما يحلو للعقل العربي “الوحدوي”، اختزالها في الواحد، وتسميتها ب”الشعب العربي الواحد الأحد”، أضاعوا فلسطين في شعاراتهم الهوائية، الرنانة، وصلواتهم وتكبيراتهم الشفوية، تماماً مثلما أضاعت ذات الشعوب، في “فلسطين الشعار”، أوطانها نفسها، المختزلة عملياً، في الحاكم الأوحد، الذي بات يساوي كل الشعب، وكل الوطن، وما فوقه وتحته.
والحاصل، إذا كان الإحتلال الإسرائيلي، أو “الإحتلال السبب”، قد ضيّع على الفلسطينيين بعضاً من فلسطينهم، فإنّ “الإحتلال العربي” أو “الإحتلال النتيجة”، الممثل ب”العقل العربي الغوغائي”، فيما لو استمر على “خط المقاومة” الشفوية هذه، سيضيّع على الفلسطينيين كل فلسطينهم، كما نرى اليوم في إمارة غزة الحمساوية، التي يمكن تسميتها ب”دولة فلسطين الشفوية”، بإمتياز، المشتعلة في شفاه الجماهير العربية الشفوية، من المحيط الشفوي إلى الخليج الشفوي.