قضية فلسطين

أمة بلا قدرات ولا خيارات

عبد الوهاب بدرخان
عاد الموت الجماعي العلني مرة أخرى، في تكرار مذهل كأنه الصناعة الوحيدة التي يتقنها العرب في مواجهة إسرائيل. يرون المجازر المتجددة كأنهم يقرأون في كتاب تنتهي فصوله دائماً أمام جدار مسدود أو أفق مغلق. ومرة أخرى تتبختر إسرائيل في تمارين جديدة على القتل والقتل والقتل، فيخرج العرب إلى الشارع في تمارين إضافية وزائدة على الهتاف والهتاف والهتاف.
والعالم، حتى العالم الحيوي المتطور، بات معتاداً على التعامل الخشبي البارد مع مآسي العرب. السيناريو جاهز لديه، بعض من كلام يدين القتل ولا يخفي إعجابه، بل دعمه للقاتل، لا يواسي الضعيف بل يكاد يهنئ القوي على جريمته الموصوفة. ما الفارق بين أولمرت أو باراك أو ليفني، وبين عمر البشير، ولماذا رأى العالم جرائم الأخير ولم ير أو يحاول أن يرى جرائم الآخرين.
عندما يتعلق الأمر بإسرائيل ترتسم كل الصعوبات أمام مجلس الأمن الدولي، فيتعذر عليه جداً اتخاذ قرار بوقف النار. جورج بوش، الغارق في إرثه الدموي، يريد إعطاء إسرائيل كل الوقت اللازم حتى تعلن أن غريزة القتل لديها قد اكتفت، وإن عدد القتلى في غزة فعل فعله في تحسين صورة باراك عند الإسرائيليين وفي تعزيز حظوظ رئيسة “كاديما” في الانتخابات.
أما العرب، فمختصمون حول الجثث، يتلاومون، يتهاترون، يترادحون، ويطلقون الاتهامات ضد بعضهم بعضا. بعضٌ يدعي أبوة شهادة المستشهدين، وبعض شبهه به كمتواطئ مع القتلة. بعض يريد “قمة طارئة”، وبعض لا يريدها، والكل لا يملك أي شيء طارئ أو استثنائي لوقف العدوان وردعه. لكن هناك دماً فلسطينياً أهدر، ولا مانع لدى البعض من تحقيق مكاسب منه.
واقع الأمر أن إسرائيل خدعت الجميع، معتدلين وممانعين، أو أشباه معتدلين وأشباه ممانعين. أوصلتهم إلى حال العجز والشلل، وجعلتهم مضحكة عربية ودولية. الذين سالموا استيقظوا لاحقاً على حقيقة أن الواقع تغير. كانت الهدية البوشية الأغلى التي تلقاها الإسرائيليون أن الحرب على الإرهاب، بمفاهيمها المعكوسة جعلتهم أبطالاً وضحايا في آن، فيما جعلت العرب المقاومين إرهابيين والعرب المعتدلين حماة للإرهابيين، وليس أسهل من أن يقاد العالم بكذبة.
لعل أسوأ ما كشفته مجازر غزة كانت تلك العورات العربية. فهذه أمة استثارها الدم المراق، وأغاظتها الإهانة، فاستجمعت قواها لتذهب إلى مجلس الأمن مستغيثة راجية إصدار قرار بوقف العدوان، فيما كانت إسرائيل تجلي الأجانب عن غزة، تمهيداً لإطلاق وحوشها في شوارع القطاع. هذه أمة تاركة نفسها، شعوبها ومجتمعاتها بلا قدرات ولا خيارات أمام عدوها الذي لم يتخل عن خيار الحرب في أي يوم، ولم يتبنَّ خيار السلام في أي يوم. هذه أمة لا يجرؤ حكامها حتى على البوح بأنهم خدعوا، وأنهم قبلوا سلام “الكيفما كان” وظنوا أنهم عرفوا كيف يستسلمون لقاء أن يجلبوا الرخاء والرفاهية لبلدانهم، ولا يزالون يتوقعون، بل يستدرجون المدائح لحكمتهم واستشرافهم، غاضين النظر عن الهوان والقهر والغضب الذي ينخر في عمق مجتمعاتهم.
لكن ما يمكن أن ينطبق على الدول، ولو على مضض، لا ينطبق على الواقع الفلسطيني، حتى لو مارس الأميركيون والإسرائيليون أشد الضغوط لفرض قواعد اللعبة. فإما أن يكون هناك سلام واضح المعالم والمعطيات، وإما أن الحال لا تزال حال احتلال تجب مقاومته وبمساهمة الجميع لا بالانقسام حول مفاوضات ومقاومة. وقد برهن الإسرائيليون مراراً أن خيارهم الوحيد إدامة الاحتلال لا السعي الحقيقي إلى نزعه، حتى أنهم لم يعرفوا التعاطي لا مع ياسر عرفات ولا مع محمود عباس ولا طبعاً “حماس”. وها هو “أبو مازن” أمام حقيقة أن نهجه السلمي النظيف لم يغير الشيء الكثير في طريقة تصرف الإسرائيليين مع سلطته. كما أن “حماس”، التي أعادت القضية الفلسطينية إلى نهج المقاومة تجد نفسها أمام استحالة المقاومة في ظل الانقسام وفي غياب الوحدة الوطنية.
تحت نار الحرب الإسرائيلية على غزة تلقى الفلسطينيون نصائح العرب بضرورة التصالح وتوحيد صفوفهم. لكن ما يعانيه الفلسطينيون يعانيه أيضاً العرب. وكما تعبث إسرائيل بالانقسام الفلسطيني باتت تتلاعب أيضاً بالانقسام العربي وتوظفه. فالعرب الذين تخلوا عن خيار الحرب قبلوا صاغرين بوضع السلام في مقامرة مفتوحة لن يستطيعوا أن يكسبوا فيها لأنهم أصبحوا بلا أي خيارات، وبالتالي بلا أي تأثير في الأحداث.
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى