المذبحة .. والمتواطئون!
طلال سلمان
حتى طوفان من دماء الأطفال والنساء والشيوخ والفتية لم يعد بوسعه أن يؤثر على هذا »النظام العربي« فيردعه عن معاداة شعوبه والتآمر على حقها في الحياة، وعن التواطؤ مع أعدائها جميعاً من إسرائيل إلى الإدارة الأميركية وبالعكس.
ولم يكن »النظام العربي« بحاجة إلى مذبحة جديدة تحصد مئات اللاجئين في بلادهم لكي يثبت ما يتجاوز العجز إلى التواطؤ على شعب فلسطين كله… فحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة لن تنحصر آثارها في هذا »القطاع« الذي يحاصره »أهله« الأقربون، بل هي ستصيب ما تبقى من الآمال العربية في التحرر وفي التقدم نحو غد يليق بالتضحيات الغوالي التي بذلت من أجله.
لقد فضحت المذبحة الإسرائيلية المنظمة والعلنية في غزة الانقسام العربي الذي يلغي العرب تماماً، ويجعلهم مجرد كمّ مهمل لا تأثير لهم على القرار السياسي المتصل بحاضرهم ومستقبلهم… هذا إن هو لم يدمغهم بتهمة التواطؤ على شعب فلسطين (وبالتالي على شعوبهم جميعاً)، والمشاركة في المسؤولية عن طوفان الدم المراق في حرب إسرائيلية لا يستطيع النظام العربي غسل يديه والتبرؤ منها!
وليس بغير معنى أن تتجاوز حكومة تركيا التزاماتها الثابتة كعضو في الحلف الأطلسي، وشريك عسكري وتجاري بارز لإسرائيل، وحليف »أبدي« للإدارة الأميركية، فيتخذ رئيسها الطيب أردوغان موقفاً شجاعاً قد يكلفه وبلاده الكثير، بينما يمتنع »النظام العربي« عن اتخاذ »موقف إنساني«، كمثل الصليب الأحمر أو الأونروا وسائر المؤسسات العاملة في نجدة ضحايا الحروب والكوارث الطبيعية…
كذلك فليس بغير معنى أن تكون معظم القرارات التي تعد لتقدم إلى مجلس الأمن »أقوى« بمضمونها ـ على هشاشته ـ من »القرار الهمايوني« الذي صدر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب في جامعة الدول العربية، والتي باتت مجرد دائرة تصديق على الانحرافات الرسمية، وهو القرار الذي أحال المذبحة على المرجعية الدولية التي لا تأثير للعرب على قراراتها (هذا إذا ما اتفقوا!)، والتي باتت معادية لأمانيهم وأماني الشعوب جميعاً، ليس بسبب الهيمنة الأميركية عليها فحسب، بل أيضاً بسبب من فرقتهم وخلافاتهم ومناقصاتهم ومزايداتهم على بعضهم البعض… وكل ذلك يذهب بقيمتهم (المفترضة) ويجعلهم رهائن لأعدائهم…
الدم العربي الذي تسفكه إسرائيل، بطيرانها الحربي وطوافاتها ومدرعاتها وبوارجها، في غزة المحاصرة والتي تكاد أن تكون عزلاء إلا من بعض وسائل المقاومة محدودة الفعالية، لا يستحق قمة، ولو فارغة من المضمون.
القمم باتت مكرسة »للسلام«، حتى لو رفضته وترفضه إسرائيل.
لقد أثبت القادة العرب، بأكثريتهم الساحقة، أنهم أعجز من أن يقودوا، وأضعف من أن يقرروا، فكيف بأن يواجهوا؟! إنهم مشغولون الآن بحوار الأديان والمبادرات التي تستعطف إسرائيل وتمنيها بالخيرات العربية جميعاً إذا ما قبلت استسلامهم.
وها هم يتابعون الهرب من مسؤولياتهم المباشرة عن طوفان الدم وإن ظل يطاردهم في كل مكان: في مواقعهم القيادية، في قصورهم المسورة والمحمية بشبكات الصواريخ المضادة للصواريخ، والتي لو كان أهل غزة يملكون بعضها لما تجرأت إسرائيل على اقتحام بيوتهم الفقيرة أو على تدميرها فوق رؤوس نسائهم والأطفال!
لقد هربوا بنفطهم وثرواتهم وجيوش الاستعراضات التي يشترون باسمها أفخم الأسلحة وأغلاها، والتي لم يعودوا يجرؤون على استعراضها حتى في مناسبات الجلوس والختان وليالي الأفراح الملاح…
[ [ [
لا تحتاج الحرب الإسرائيلية على غزة إلى بطولات. الطائرات والحوامات والدبابات ومدافع الميدان تؤدي المهمة بلا خسائر! تستطيع أن تقصف كل بيت، أن تقتل كل طفل، أن تطارد أي امرأة تذهب لتشتري الخبز لأسرتها، أن تجعل الجامعات والمستشفيات والمدارس ركاماً، بغير خشية من الحساب، أي حساب: »العرب«، بأكثريتهم، في موقع المتواطئ، و»الدول« في موقع الشريك، و»الفلسطيني« بلا نصير، لا بين أهله من يستطيع نجدته، إذا ما أراد، ولا بين الشعوب من يستطيع أن يقدم له إلا عواطفه.
القاتل الإسرائيلي يتمتع بحرية مطلقة. لا يحتاج إلى بوصلة. لا يحتاج إلى خريطة. ثم إنه يمن على المسؤولين العرب بأنه يقدم لهم الخدمة الفضلى التي لا يستطيعون إنجازها: إنه يحاول تدمير المقاومة: روحاً ورجالاً، نساءً وأطفالاً مجوعين. إنه يضرب ما تبقى من إرادة المقاومة ـ لا يهم أن تكون إسلامية أو عربية أو وطنية أو حتى شيوعية ـ. إنه يضرب نيابة عنهم. إنه ينجز المهمات التي يعجزون عن إتمامها… وهو ينتظر أن يحظى بالمكافآت السخية. لقد أراحهم من هؤلاء الذين يريدون إسقاطهم عبر تحرير أوطانهم.
ولقد منحوه الوقت. ربما أكثر مما طلب. أظهروا عجزهم عن اتخاذ القرار ولو باجتماع على مستوى القمة حتى لا يفتضح تواطؤهم معه، و»اختاروا« أن يذهبوا إلى مجلس الأمن حيث تحالفاته السياسية وقدراته الدبلوماسية أقوى من صواريخ طائراته ومدافع دباباته التي تفتك بأهالي غزة ومؤسساتها وبيوتها وتدمر أسباب الحياة وأبناء الحياة فيها.
شيمون بيريز لا يريد وقف النار. لكأنه ينطق باسم معظم الذين احتشدوا في اجتماع وزراء الخارجية العرب. ونيكولا ساركوزي يحمّل »حماس« المسؤولية. لكأنه يعبّر عن ضمائرهم! هم أيضاً لا يريدون أن يتوقف الهجوم الإسرائيلي قبل إنجاز المهمة: القضاء على أي مقاوم، سواء أكان رجلاً أم طفلاً، امرأة أم شيخاً، أم ثكلى مستعدة لأن تدفع المزيد من أبنائها إلى الشهادة من أجل الوطن، أم أستاذاً جامعياً، أم رجل دين، أم عاملاً أم مسعفاً أم صبي نجار!
إنهم مشاركون في حصار غزة… حتى التدمير الكامل!
لقد ذهبوا بشكواهم إلى بطل المذبحة.
لكأنهم يفترضون أنهم في مجلس الأمن أقوى منهم في جامعة الدول العربية التي لم تعد تجمع إلا الخسائر وأرصدة الخلافات!
حتى هذه اللحظة لم يجرؤ أي حاكم عربي أن يطرد سفير إسرائيل، أو أن يسحب سفيره لدى إسرائيل احتجاجاً.
البعيد في الجغرافيا يزايد، والقريب يناقص، والنتيجة أن الهجوم الوحشي الإسرائيلي يدمر المزيد من أبناء الحياة وأسباب الحياة في غزة.
يستطيع قائد الدبابة الإسرائيلية أن يطارد بقذائفه العصافير، وأن يغطي وجه الشمس بدخان الأبنية المحترقة التي شيدها أهلها الفقراء بتعب العمر، وأن يتسلى باصطياد كل من وما يتحرك، آناء الليل وأطراف النهار.
أما الطيار الحربي الإسرائيلي فله الفضاء مفتوحاً، يستطيع أن يتجاوز »الحدود«، ويستطيع، لو شاء، أن يرمي الورود على قصور الحكام العرب، تحية لخرسهم وحيادهم الجبان.
ولعلنا في لبنان نستطيع أن نقدر »الموقف« تماماً: لقد تواطأوا مع العدو الإسرائيلي، سراً وعلناً. ولم يأتوا لتفقد عاصمتنا وبعض مراكز الحكم فيها إلا بإذن منه، وأدانوا المقاومة المجاهدة بوصفها »مغامرة«… ثم انصرفوا يتوقعون الاستسلام، ففوجئوا بل لعلهم فجعوا بالنتائج.
… وها هم يذهبون في ركاب العدو إلى مسرحه الممتاز: مجلس الأمن، حيث لا يحتاج أحد إلى دليل على قوة إسرائيل المعززة بحلفائها الكبار.
لكن أهل غزة سيصمدون، كما صمد أهل لبنان، حتى لو كانت قدرات المقاومة في هذا القطاع المحاصر أقل. إن الإرادة هي الأساس في المقاومة. إن الإيمان بقدسية الأرض كأمانة هو الأساس في الصمود.
ولسوف يصمد أهل فلسطين في غزة بإرادتهم،
ذلك هو تاريخ هذا الشعب العظيم، وما نشهده اليوم مجرد فصل إضافي في جهاده الذي بدأ قبل زمن طويل والذي سيمتد حتى يبدل العرب ما في نفوسهم…
وطوفان الدم سيعجل في تبديل النفوس… والرؤوس!
السفير