كفى لمروق إسرائيل… كفى
باتريك سيل
لعل أكثر الجوانب لفتاً للنظر في الحرب الدائرة الآن على قطاع غزة هو ما يشبه الحصانة المطلقة التي تتمتع بها إسرائيل في قصفها وقتلها للبشر كيفما تشاء، دون أن تخاف حساباً أو عقاباً. وبسبب هذه الحصانة من المساءلة لم يتردد وزير الدفاع إيهود باراك، ولا وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، وكلاهما من الأعضاء المهمين في الحكومة الحالية، في اللجوء لاستراتيجية الإبادة الجماعية للفلسطينيين، دون أن يهب أحد لإيقافهما عما يفعلان. وبكل المقاييس يبدو النظام الإسرائيلي الحاكم، نظاماً مارقاً وعدوانياً وخارجاً عن السيطرة. فبعد أن ضرب هذا النظام عرض الحائط بكافة الأعراف والمعاهدات والقوانين الدولية، ولم يضع اعتباراً لأبسط الاعتبارات الأخلاقية الأساسية المتعارف عليها بين البشر، ها هو يواصل قصفه الجوي والبري لمجتمع عربي أعزل ومحاصر ومغلوب على أمره، ويعيش أوضاعاً معيشية أقرب إلى أوضاع مجتمعات العصر الحجري، بلا رحمة أو هوادة. وحتى لحظة كتابة هذا المقال، بلغ عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على القطاع، ما لا يقل عن 500 قتيل من جملة كثافة سكانية لا تزيد على المليون ونصف المليون فلسطيني، بينما وصل عدد المصابين نحو 2400 على أقل تقدير. كما نسفت المقاتلات الجوية الإسرائيلية أي مبنى قائم في القطاع تقريباً وسوت به الأرض تماماً. وعندما تخمد نيران الحرب ويخفت هدير رصاصها ودباباتها وقنابلها، سيتكشف أن الخسائر وعدد القتلى والمصابين، كانت أعلى من هذه الأرقام بكثير.
والسؤال هنا: كيف أمكن لإسرائيل أن تنجو بسلوكها العدواني الوحشي هذا من المساءلة؟ الإجابة المختصرة والمباشرة على السؤال هي غياب أي ضغط دولي أو إقليمي على دولة الاحتلال الإسرائيلية الغاشمة. فليست هناك ضغوط عليها من العالم العربي الممزق المنقسم على نفسه داخلياً، ولا من الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال يصارع من أجل أن يتحول إلى كيان سياسي موحد، ولا من القوى الدولية الناهضة حديثاً مثل روسيا والصين. ولم يكن لإسرائيل أن تقترف كل هذه الجرائم في القطاع وبحق أهله، لولا الاختلال التام لموازين القوى الدولية، الذي كان في وسعه لو عدل قليلاً أن يكبح جماح عدوانها الوحشي الرهيب.
وإذا كان عالمنا اليوم قد تحول إلى غابة هوجاء بالمعنى الحرفي للكلمة، فما كان ذلك ممكناً لولا أن إدارة بوش الحالية منتهية الولاية أرادت له أن يؤول إلى هذا المصير المفجع. ذلك أن غزو بوش غير المشروع للعراق، وحربه الجامحة المعلنة على الإرهاب، واستراتيجية القصف الجوي العابرة للحدود التي تبناها في كل من أفغانستان وباكستان، وتقويضه لسيادة القانون ومعاهدات جنيف الخاصة بمعاملة أسرى الحرب، وانتهاكه للقانون الدولي الإنساني، بإجازته لممارسة التعذيب بحق سجناء الحرب، كلها تجاوزات منحت إسرائيل كامل الجرأة لممارسة انتهاكاتها كما تشاء، طالما أن الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، هي من يمثل القدوة السيئة لانتهاك القانون وازدرائه.
إلى أن يتمكن الشرق الأوسط من تحقيق توازن إقليمي للقوى، بما يمكنه من لجم النظام الإسرائيلي المارق، فلن ترفرف في سمائه حمائم السلام.
وإذا كان ذلك هو حال أميركا، فإن السند الرئيسي الذي اعتمدت عليه إسرائيل في كل ما تفعله بفلسطينيي القطاع هو الدعم الذي قدمه لها الرئيس بوش، وهو نفسه الدعم الذي التزمت الإدارة بتقديمه لإسرائيل حتى الأيام الأخيرة من ولايتها كما نرى. ومثلما ساند بوش إسرائيل في حربها التي استهدفت لبنان في صيف عام 2006، ها هو اليوم يساند حربها الجارية في القطاع. وليس غريباً إذاً أن يعتمد كل من إيهود باراك وتسيبي ليفني على الضوء الأخضر الصادر لهما من واشنطن في مواصلة حملة القصف الجوي التي يشنانها على القطاع، متبوعة ومعززة بالاجتياح البري. وبدلاً من أن تسعى إدارة بوش لحل النزاعات المستعصية الممتدة وتعمل على إحلال السلام، فضلت بدلاً منها تأجيج النيران ودق طبول الحرب. ويأمل العالم بأسره اليوم في أن يسارع الرئيس الجديد المنتخب باراك أوباما إلى إجراء تغيير جوهري على السياسات الخارجية لبلاده، عقب توليه لمهامه الرئاسية اعتباراً من 20 من يناير الحالي.
وللحقيقة فإن هذه اليد الإسرائيلية المتوحشة الطليقة المعربدة التي تدمر القطاع وسكانه، لا تعود إلى صمت ودعم واشنطن لما تفعله فحسب. بل إن عاملاً رئيسياً فيها يؤول إلى النجاح الذي حققته الماكينة الدعائية الإسرائيلية نفسها في تسويق الأكاذيب والادعاءات العارية من كل صحة. فقد أنفقت تل أبيب جهوداً وموارد طائلة لترويج أكذوبتها الكبرى للعالم. ذلك أن الدولة اليهودية نجحت بالفعل في غسل أدمغة الكثيرين في مختلف أنحاء العالم بإقناعهم بأنها ضحية لما تسميه “إرهاب” الفلسطينيين. والحقيقة أن إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين، وحملات تصفيتها الجسدية لقادتهم، واجتياحاتها العسكرية المتلاحقة لمدنهم وقراهم ومخيماتهم، إضافة إلى إدمانها على سرقة أراضيهم وفرض الحصار الكامل عليهم، كلها أفعال تفوق في دمويتها وعنفها وهمجيتها، أي عنف ودموية تنسبهما إسرائيل للفلسطينيين.
ولكن على رغم هذا كله، لم تتردد أو تستحِ وزيرة الخارجية تسيبي ليفني من أن تقول للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أثناء زيارتها الأخيرة لباريس في الأسبوع الماضي، إن صواريخ النشطاء لم تستهدف إسرائيل إلا لدفاع هذه الأخيرة عن قيم العالم الحر. فيا للسخرية والوقاحة معاً. وفي الرد على هذه الفرية نقول: كلا أيتها الوزيرة ليفني. فربما يقف الرئيس الأميركي جورج بوش وراء سياساتكم الوحشية الدموية هذه ويؤازرها، إلا أن الحقيقة هي أنه ليس لهذه السياسات من وجود ولا مكان في تلك القيم الإنسانية النبيلة التي تتطلع إليها المجتمعات الغربية.
وبسبب هذا التماهي التام لمواقف واشنطن مع سياسات إسرائيل طوال السنوات الأخيرة الماضية، فقد تهشمت صورة أميركا في العالم العربي الإسلامي، بينما اتجه الرأي العام في الشرق الأوسط الكبير، خطوة أكبر نحو التطرف المعادي لأميركا، وهو ما يلحظه المرء من موريتانيا وحتى باكستان وإندونيسيا وغيرها شرقاً. والمرجح أن تتعرض المصالح القومية الأميركية لأضرار شديدة بسبب هذه السياسة الموالية دائماً لإسرائيل.
وإلى جانب الخسائر المادية والبشرية الهائلة التي خلفها الاجتياح الجاري لغزة، هناك ضحايا وخسائر أخرى كثيرة، أولهم انتهاء عملية السلام التي تحولت الآن إلى رماد بعد كل الجهد الذي بذل فيها. فبسبب الغضب الجامح من سياسات إسرائيل وعدوانها المستمر على الفلسطينيين، لم يعد هناك ما يشير إلى أي معنى لاستئناف محادثات السلام معها في أي وقت في المستقبل المنظور. ومن بين المتضررين من الاجتياح أيضاً، رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس “أبو مازن”، الذي ظن أن في مسار عملية السلام ما يعينه على انتزاع دولة مستقلة للفلسطينيين. وقد أكدت له إسرائيل بنفسها خطأ هذا الزعم بعدوانها الغاشم والهمجي على القطاع.
وختاماً نعود إلى تكرار ما أوردناه آنفاً من أن في توازن القوى الدولية ما يحفظ السلام والأمن الدوليين، وفي اختلاله ما يشعل نيران الحروب والقلاقل الأمنية. ففي غياب هذا التوازن لن يكف الطرف القوي عن فرض إرادته بالقوة العمياء مطلقاً. وعليه وإلى أن يتمكن الشرق الأوسط من تحقيق توازن إقليمي للقوى، بما يمكنه من لجم النظام الإسرائيلي المارق، فلن ترفرف في سمائه أبداً حمائم السلام.