بإغماض العينين قليلاً!
موفق نيربية
كلّما لاح منظر الدم على الشاشات، تحضر إلى ذاكرة الكثيرين منّا مجزرة دير ياسين التي أسّست مفهوم «النكبة» في الوعي العربي، وكلّما مرّ الوقت على المجزرة وأخذ طعمها المرّ يفعل فعله، نستعيد هزيمة حزيران «يونيو»، ونلوكها ثانيةّ، حتى لا ننسى أولاً، وحتى نراجع أسبابها ثانياً، فنثمل أو نكتئب، ليختلط التفجّع مع التسوّل، والعقل مع الهتافات.
كانت هنال طلائع واعدة «قاعدة» قبل حرب حزيران «يونيو» بعدها، اخترعت لها مكاتب إعلامها المهيمن آنذاك مفهوم «النكسة» المخدِّر للنعويض والتحريض، وحدّدت أسبابها ونتائجها على هواها وقياسها.
فكان أوّل ما أرادته إسرائيل- ومَن وراءها- إسقاط الأنظمة التقدمية، ففشلت في ذلك وهزمناها شرَّ هزيمة، بل أصبح مطلوباً تعزيز هذه الأنظمة وتحريم المسّ بها، الذي أصبح بالتداعي خيانةً وتماهياً مع العدو.
وبما أنّ ثاني أهداف إسرائيل كان إنهاء المقاومة التي ظهرت قبل الحرب بثلاث سنوات، بعد زمنٍ من النكبة، فقد جاء الردّ بالاندفاع إلى حمل السلاح من كلّ الجهات، والتغنّي باللباس الكاكي، وتأسيس عبادة البندقية بديلاً من عبادة الفرد وإطلاقاً لحرب التحرير الشعبية على خطا الجنرال جياب في فيتنام، وتشي غيفارا في كوبا ثمّ في كلّ مكان. «هذه فكري وعقيدتي ووعيي»، قال المدرّب الشاب الفدائي وهو يربّت على أخمص بندقيته. و«خلاص خلاص… ما فيش خلاص، غير بالقنابل والرصاص».
ثالث الأهداف كان مُرسلاً على عواهنه، وهو فكّ «عرى الصداقة والتحالف مع الاتّحاد السوفييتي العظيم». فلا بدّ من تعزيز هذه العرى وتطوير المواجهة مع الطرف الآخر بكلّ أشكال ظهوره. لكنّ ذلك الحليف أيضاً كان يبدو للطليعي الواعي شكلاً آخر للعدو، صاحب مصلحة عابرة، ومساهما في تأسيس إسرائيل وممتنعا عن تزويدنا بالأسلحة «الهجومية».
رابع الأهداف كان تعميق الفرقة العربية، وسدّ الطرق على توحيد الأمة، بعد أن منعها الاستعمار من ذلك عقوداً طويلة. وبما أنه يتجسّد في الآخر العربي الرجعي العميل أو المتآمر، فلا بدّ من الخلاص منه أولاً، فتحاً لطريق الوحدة والتقدم وتمهيداً ضرورياً لتحرير فلسطين. ذلك ترافق مع إحياء التمائم القومية القديمة والمعاصرة.
خامسها كان مختصاً بالطليعيين آنذاك، وهم صفوة القوم وأكثرهم إخلاصاً والتزاماً، قيل إن إسرائيل تريد تشتيت الوعي العربي، فلا ردّ إلاّ بالماركسية واليسار الجديد،أو بعث الماضي المسلم الذهبي، والتحرير لا يصل إلى القدس إلاّ عبر العواصم العربية الأخرى، وبقلب كلّ شيء رأساً على عقب.
ذلك كان طريق وحال الناس الأفضل، الأكثر إيماناً وإخلاصاً، فوجد الآخرون شعاراتهم بسهولة- وهي الأكثر عقلانيةً- واندفعوا إلى استلام السلطة. طرح هؤلاء مسائل العقل والاعتدال والازدهار والحرية، لكنهم كانوا أقلّ إخلاصاً من أن ينتجوا الجدوى. والوضع في الحالتين يختصر المأساة.
وهذا الحديث كلّه حديث المهموم مع نفسه وقت المجزرة في غزة.
غزة الحالية تذكّر بالنكبة وبدير ياسين من حيث الشكل وحسب، وتذكّر بعمق أكبر بهزيمة حزيران «يونيو»، التي ابتدأت منها دولة إسرائيل الثانية الأكثر «أمناً» وغطرسة وطمعاً، وانطلق منها مسار نهوض في الفكر والسياسة لم يجد خطه ومساره على الأرض حتى الآن.
بل إن شيئاً معاكساً قد حدث… العقلانية تتعرّض لانتكاسات مستمرة في الوعي العربي الاجتماعي، وتتقدّم «ثوريةٌ» جديدة مماثلة لتلك القديمة، لكنها أكثر «عضويةً» بما لا يُقاس. كما تهيمن على الوعي والإعلام العربي موجة حادة شكلانية لاترحم.. إلاّ السلطاتِ والحكومات التي كانت في صميم أسباب الوضع الراهن.
تمكّنت هذه الموجة من إحالة نتائج أنضج ظاهرة في العصر العربي الحديث؛ وهي الانتفاضة الأولى؛ إلى هباءٍ منثور، يعبق بروائح غبار الصحراء والموت والشعوذة السياسية. كما استطاعت، بعون من حماقة الإدارة الأميركية الراحلة، أن تحيل مطالب الحرية والديمقراطية والدولة المدنية الحديثة إلى شعارات تخدم العدو، أو تتماهى معه.
فأسوأ ما تفعله هذه الموجة تزييف الوعي وتدهينه بألوان تخلب الأبصار، حتى تضيع إمكان مراجعة البنى التي كانت في أسباب كل ما يجري، من الأنظمة الاستبدادية المستقرة إلى ما آلت إليه منظمة التحرير الفلسطينية من سلطة متداعية أو مترهلة بذاتها. وإذا كانت قيادات «فتح» المحترفة مسؤولة قبل غيرها، فالاتّهام يطول أيضاً تلك التنظيمات الطهرانية التي كانت تؤدي سابقاً دور المثال الجاذب المانع للتدهور.
وإن كان صدام حسين ظاهرة أنتجت الاحتلال، فحالة «فتح» المعتمدة على الرواتب والجعالات والشطارة السياسية المتكررة طويلاً مسؤولة هنا. وذلك ما يجعل مقاومة العدوان والاحتلال أصعب وأكثر ضعفاً.
لقول ما سبق أعلاه، كان لا بدّ من إشاحة البصر عن الشاشات الدامية قليلاً، وعدم مراجعة ما تمّت كتابته، إلا العنوان!
* كاتب سوري