الكلمات أسلحة في حملة إسرائيل على غزة
ميشال فارشفسكي
كل حرب هي ابتداءً حرب دعاية, الكلماتُ فيها أسلحة. كذلك هو الشأن مع كلمة “حرب” عندما نستخدمها للتعبير عن الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة. هذا المفهوم غير مناسب وفي غير محله عندما نتحدث عن مواجهة بين أحد أقوى جيوش العالم من جهة, ومليون ونصف مليون من المدنيين من النساء والرجال والأطفال والشيوخ من جهة أخرى.
“تبادلٌ لإطلاق نار”؟ بينما لدينا في هذا الجانب قوة جوية تقصف بأطنان من القنابل وسط غزة, إحدى مدن العالم الأكثر سكانا من حيث الكثافة في الكيلومتر المربع الواحد, والجانب الآخر قذائف روكيت قدرتها على الضرر ضئيلة جدا. ليس الأمر حربا بل مذبحة. ضحايا من الجهتين؟ بالتأكيد, لكن ليس الشيءُ نفسه تماما أن يسقط من الجانب الإسرائيلي ثلاثة قتلى ومن الجانب الفلسطيني خمسمائة.
تلعب وسائل الإعلام طبعا دورا مهما في حرب الكلمات هذه, وبشكل عام, في تصوير أحداث الأسابيع الأخيرة: ليس سهوا أن تُبثَّ باستمرار صور بضعة من المنازل التي دمرت في سديروت أو في نتيفوت, قبل أن تُعرَض صور مسجد من مساجد غزة فجره صاروخ إسرائيلي سقط على أجساد النساء والأطفال.
العسكريون لا يحبون بشكل عام أن يكون الصحفيون إلى جانبهم أو قريبين منهم جدا عندما ينطلقون في مهامهم. ذلك شيء طبيعي, والضباط الإسرائيليون ليسوا استثناء في اختيارهم من يفترض فيهم تغطية الخبر. السياسيون أيضا يفضلون غربلة ما يجب أن يصل إلى الجمهور, سواء كان محليا أو دوليا, لأن لديهم حسابات سيكون عليهم تقديمها في حال الفشل أو الخطأ.
لا عذر
الجيش الإسرائيلي يراقب الأخبار والصور التي تأتي من غزة, والصحفيون الإسرائيليون يمارسون إضافة إلى ذلك, الرقابة الذاتية من منطلق “الوطنية”. لكننا مع ذلك نحن على اطلاع جيد على ما يجري: في القرن الـ21, مع القنوات الفضائية والكاميرات الصغيرة الحجم, يستطيع العالم كله أن يتابع الأحداث, ما عدا استثناءات نادرة.
وفيما يخص العدوان الإسرائيلي على غزة, فإننا نعرف عنه ما يكفي لكي نشكل رأيا قاطعا, ولنتحدث عن مذبحة مع سبق الإصرار والترصد حُضّر لها منذ زمن طويل. وضوح الأحداث والجرائم التي تملؤها يفسر أيضا سرعة التعبئة التي ميزت التحركات التي نددت بهذه الجرائم.
فبعد ساعات فقط من مجزرة غزة تجمع نحو 1500 إسرائيلي وإسرائيلية من اليسار المعادي للاستعمار, أمام وزارة الدفاع في تل أبيب ليهتفوا بسخطهم وبشعور العار الذي يتملكهم لما ارتُكِب باسمهم.
بسبب قدرة وسائل الإعلام على الالتفاف على رغبة القادة السياسيين والعسكريين في ممارسة الرقابة, لن يستطيع أحد أن يقول يوما “لم نكن نعلم”, وهذا ينسحب على محكمة التاريخ وعلى المحاكم الدولية لجرائم الحرب.
استقالة اليسار
إن غياب هذه الذريعة, يضاعف خطورة “استقالة” حركات مثل “السلام الآن” أو حزب ميريتس اليساري, وهي حركات اختارت, في هذه المرحلة على كل حال, دعم السياسة الحكومية: إنهم يدعمون المذبحة والخطاب الذي يؤسس لها ويتحدث عن الخطر الوجودي الذي قد يأتي من غزة, وهم على بينة تامة من الأمر.
للأسف مثل هذا السلوك ليس جديدا, فمنذ 1956 حتى 2009 لم تندلع حرب إلا حصلت على دعم اليسار الصهيوني, الذي يكرر كل مرة الأكاذيب الأكثر ابتذالا عن إسرائيل الدولةِ التي توجد في حالة دفاع عن النفس. وعندما يواجهون الفشل أو الاستنكار الدولي يغيرون جلدهم, وينضمون إلى صفوف الحركة المعارضة للحرب. فلنأملْ أن يحدث سريعا تطورٌ شبيه, وإن كنا لا نرى بعد علاماتِ حصول ذلك.
أما اليسار المعارض للاستعمار, فلم ينتظر: فمنذ بدء قصف غزة قبل عشرة أيام, عبأ أكثر من ألف شخص ليقول “لا لقصف وحصار غزة”, ولينظم في ما بعد طيلة الأسبوع عشرات التجمعات.
كذلك نزل سكان إسرائيل الفلسطينيون بكثافة إلى شوارع الناصرة وخاصة سخنين, حيث عبأت مظاهرة وطنية للأقلية الفلسطينية أكثر من 50 ألف شخص. السبت الماضي كنا بين ستة آلاف وثمانية آلاف, تظاهرنا في تل أبيب أمام جمع معادٍ ومتعصب لم تستطع الشرطة السيطرة عليه إلا بصعوبة.
معارضة الحرب في إسرائيل تبقى ضئيلة جدا وخطاب المحافظين الجدد عن الدفاع عن الحضارة “اليهودية المسيحية” ضد التهديد العربي الإسلامي, يبقى مهيمنا إلى حد كبير في وسائل الإعلام الإسرائيلية. لكن كلما وُوجِه الاجتياح الإسرائيلي بمقاومة فعلية, وكلما شعرت إسرائيل أكثر بالضغوط الدولية, كانت الأصواتُ الإسرائيلية التي تطالب الحكومة بوقف هذه المذبحة أكثرَ.
ــــــــــــ
ناشط سلام إسرائيلي
فارشفسكي في سطور
*1984 أسس “مركز المعلومات البديلة” مع ناشطين معارضين للصهيونية
*1987 اعتقل بتهمة تقديم خدمات لمنظمات فلسطينية
*1989 حكم عليه بـ30 شهرا سجنا لنشره مقالات كتبها لأعضاء بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
*2006 ترشح لعضوية الكنيست عن التجمع الوطني الديمقراطي
*يكتب بانتظام بصحف كلوموند ديبلوماتيك
*من كتبه “على الطريق إلى قبر مفتوح: أزمة المجتمع الإسرائيلي