قصتان قصيرتان جداً: لو فقط ابتسامة صغيرة
علي جازو
[ مكتبة عامة
لأن الخوفَ ـ صامتاً وكامداً ـ شدَّهُ إلى بريق الآثار الزائلة، إلى هبَّةِ عدمٍ شرسةٍ، ظنَّ أن قدرته على كتمان أسراره، وهي من الضحالة والسخف، ستحميه من ثقل عزلات باردة ؛ لَوَتْ سنوات مراهقته حتى ساعة الكتاب هذه، حيث تشع روحه الهلعة بين يديه، بين أسنانه التي كأنما لا تكون إلا عضاً خانقاً على فَمِ شهيقه وزفيره. ما أهمية حساب العمر لكائن نأى بنفسه الحزينة من كل تأثير زمني على حياته؟ لم يكن أبداً لمرور الوقت أثر على إنضاج عقله الذاهل، إنما الخوف. الخوف من البشاعة، الجرح الداكن اليومي لكل هذه البلاهة البشعة. آه.. أنى تكون له راحة؛ ذاك الذي لا يعرف حقاً ماذا يريد؟!! إزاء تشتت حاله وخوفها الدائم، الآن، يهمس لنفسه :(إن المرء لا يرغب معاودة الذهاب إلى المكتبة العامة، إذ لا صحف جيدة لتقرأ، ولا كراس مريحة، ولا شرفة هادئة تمتص وتسحب ظلال غيوم نائية، ولا حتى ـ حيث تناول سندويتشة ـ صوت مذياع خفيض. لو فقط ابتسامة هناك، لو فقط ابتسامة صغيرة هناك !! إنه لمكان لا يرجى منه أي أمر ذي قيمة..إنه مكان بلا ذوق). دائماً يعقب الإحباط والضجر لقاءات عابرة تجمعه بأناس يدعون اللطف والتواضع. دائماً تنحت الكلمات ذاتها داخل روحه: (ثمة بشر فائضون عن الحاجة..). مكان داخلي، يزداد عزلة كلما ازداد اختلاطاً ومعرفة. والأسوأ من حال البشر هي الكتب! كتبٌ تضرب عينك حتى تخالها قد ضمرت أذى مسبقاً داخل أغلفتها الميتة. كتبٌ لم يكن مؤلفوها سوى عقول خائرة، آمال ضعيفة هي أقرب إلى الدناءة منها إلى حب الكلمات بلا قيد وبلا طموح. كتبٌ مثلها مثل لوحات الإعلان الضخمة، مرعبة، لامعة، بلا روح. يا لهذه الكتب الوضيعة، الكتب التي لا تعرف الصمت، لا تعرف المحو.. ! كتبٌ شريرة! على كل من يأبه حقاً لزهرة عقله الصافية أن يبدأ على الفور، دون تردد، بإنقاذ نفسه من ركام الكتب البغيض. ثم عليه ألا يتوانى عن إظهار سخف ورداءة ما يجعل الأيام متشابهة كأنما تخرج من فم واحد من عين واحدة. فمٌ لا ينتمي لأحد، وعينٌ لا تخص أحداً. أليس الإعلانُ هو هذا الفمَ الكلي، هذه العينَ الشاملة. أليس التلفزيون هذه الألسنة التي تخاطب الجميع دون أن ترى أحداً، وتحتل كل عين فيما هي عمياء لا تميز ولا تفرق ولا تعرف ! يا لها من انعكاسات أضواء قبيحة تحيل النظر إلى قوة تلق متحجرة! ثم ألا تتحجر القلوب وهي تحضن هكذا كتب تنافس الإعلان في العرض والتلفزيون في الاحتلال الشامل!؟ حتى مذاق الطعام نفسه، تلك اللحظات الحيوانية المبهجة تغدو بلا حس. أنها تنفعل لتُرْدَمَ وتتداخل لتُنْسَى. تحول اللقاء مع الكتب والتعارف عبرها إلى طاقة إلغاء شنيعة. (هراء)، ما تقوله عن الكتب وأناسها الفائضين عن الحاجة محض هراء. هراء لك وحدك، منك إليك فقط. لا أحد يسمعك، لا أحد يراك. ومن تكون حينها إذا لم تُسمَعْ ولم تُرَ ؟!!
[ يدُ أخي أمام يديَّ
كم من سعادةٍ وثقةٍ وراحةٍ سأنال لو أن حقاً ـ حسبما شعرتُ للتو متذكراً حركةَ اليد ـ يدَ شقيقي الأصغرـ أمهرُ وأصلبُ وأغنى قدرةً من حال يدي الواهية ! لطالما خجلتُ من أصابعي، رغم مديح صديقاتي المتكرر لها ؛ طويلةً بيضاء وممتلئة. والحال أن أصابعي مرتخيةٌ ضعيفةٌ، وإنْ أمسكتْ أطرافُها أو رفعتْ حمولة أي شيء ـ حتى الأخف ثقلاً وكتلة ـ فهي لا تتحكمُ به إلا بصعوبة هي مزيجٌ ضاغطٌ من خشيةٍ حذرة وعناءٍ ممل. سرعان ما أضجر، سرعان ما أندم وأكتئب من هكذا يدٍ لا تجيد أصابعها العشر السليمة السمينة أي شيء ذي قيمة. حينما لمحتُ الليلة الماضية انحناءَ أخي، أسفل ضياء المصباح الأبيض، على تجليد كتبه الجديدة، أيقنتُ أو أحببتُ أن أتيقن على الفور ـ من مرونة ويسر تحريكه لأصابعه وهي تمسكُ أغلفةَ الكتب أو تطوي صفحاتها الأولى الملونة أو ترفع عنها قصاصاتِ ورقٍ عالقة بأطرافها. حتى أنه عند قصَّ ولصقِ قطعَ اللزاق الأصفر الشفاف، كانت حركتُهُ تلك بلا عناءٍ، دونما أي اكتراث واضح. ربما بسبب اللامبالاة تلك تماماً كانت تبدو الحركةُ منسجمةً ومتحكمة، منسابة طرية وبلا مشقة. كانت متقنةً ورشيقةً. يبدو حقاً أن الاتقانَ يترافق مع الخفة وسرعة إنجاز الأعمال الصغيرة. ألذلك هي ثقيلةٌ ومزعجةٌ وخجلةٌ أصابعي..؟؟ ربما لأن ترددي وفقداني الثقة بنفسي يتسربان إلى أعصاب يدي، فإن هي حملَتِ الأصابع على الحركة أو النقل أو المسك أو النزع أو الشدّ أو الإضغاط إنما تحوِّلُ إليها الخوفَ والتردّدَ في الوقت نفسه. أشعرُ أحياناً أن يدي غير مرئية، رغم إحساسي بحرارتها المزعجة وبشرتها الخدرة. إنها حسبما أشعر او أتخيل ـ من فرط ما وبَّختُها وعنَّفتُها ـ يدٌ بلا ظلّ بل تكاد تكون بلا أي وزن! ثمة خطأ ما أو عطبٌ غير مدرك أو عيبٌ خفي خطير في نظرتي إلى يدي. ربما هو مرضٌ أو خللٌ في المسافة التي تراها عيناي بين يدي والأشياء التي أفكر أو أرغب في الإمساك بها. والحالُ أن المرضَ ليس في المسافة قط. أي مرض أو غلط يمكن للمسافة أن تنجبه أو تجلبه إلي!! يا لي من سخيف العقل! بل هو مرضٌ ـ بلا شك ـ أو معيبةٌ إما من حاسة النظر أو في عضلات اليد. ما يهمني من يدي؟ أتساءلُ في نفسي منكراً قيمتَها على كل حال. طالما أنني واحدٌ من أولئكَ الذين لا يرغبون بذل أي جهد، واحدٌ يخاف من ترْكِ أثرٍ ـ أي أثر ـ على أي شيء. أتذكر فتاةً مولَّهةً أحاطت عنقي بذراعيها، وكنت محظوظاً برفقتها طوال سنوات فقيرة وشديدة الانحدار في الذوق والعمل معاً. كانت تودُّ لو أضغطُ بقوة جاذباً وضامَّاً صدرَها إلى صدري. في الحال، خجلتُ من خمول يدي. إنها بلا قوة. تتشوَّقُ فتاتي إلى من يشدُّ عليها جمالَ ذراعيها وكتفيها ونهديها الصغيرين الشهيين ـ وهي بحق جديرةٌ بكل ضغطٍ حميم ـ تحتاجُ أن تنحبسَ وتنحصرَ وتتكسَّرَ داخل محيط صدرها. يا لخيبتها من أداء يديَّ الحزينتين!
المستقبل