قضية فلسطين

فلسطين وحدها تقاوم

الياس خوري
هناك خطأ شائع في قراءة “الرصاص المسبوك” والبربرية الاسرائيلية التي تمارس القتل الجماعي في قطاع غزة. اكثرية المحللين العرب والعالميين، وحتى الاسرائيليين، يقارنون بين اجتياح غزة وحرب تموز 2006 في لبنان. تأتي المقارنة من قرار واضح اتخذه الجيش الاسرائيلي بعدم تكرار “اخطاء” حرب لبنان، لكن هذا العامل لا يكفي وحده، بل قد يكون مضللا.
تعاملت اسرائيل مع “حزب الله”، في وصفه خطرا خارجيا، أما تعاملها مع الفلسطينيين فمختلف جذريا، لأنهم يشكلون في عرف السياسة الاسرائيلية خطرا داخليا. وهناك فرق شاسع بين الخطرين. الخطر الخارجي يمكن معالجته بالحرب والديبلوماسية معاً، اما الخطر الداخلي فيجب اجتثاثه. من هنا فأنا اميل الى مقارنة غزوة “الرصاص المسبوك”، بغزوة “السور الواقي” عام 2002، حين اجتاحت الدبابات الاسرائيلية مدن الضفة الغربية ومخيماتها، وارتكبت مذبحة مخيم جنين البشعة.
هناك الكثير من الفروق بين غزة اليوم، والضفة الغربية منذ خمسة اعوام، وخصوصا على مستويي السلاح والاستعدادات العسكرية. لكن عناصر التشابه بين العمليتين واضحة لا لبس فيها. في الضفة عام 2002 كان يجب تحطيم حركة “فتح” واسر قياداتها الميدانية وقتل قائدها. اي كان الهدف تحطيم قدرة اكبر منظمة فلسطينية على القتال. يومذاك، ارتكب الجيش الاسرائيلي بقيادة السفاح ارييل شارون كل اشكال الاعمال الوحشية، وسط حصار مطبق على الضفة، ووسط مباركة اميركية وصمت دولي عاجز. في تلك الأيام كان ما يثير عجبي وحزني هو تفرج “الممانعين” العرب على المذبحة، لأنهم اعتقدوا ان إسرائيل بإنهائها لياسر عرفات و”فتح”، سوف تفتح الطريق لبروز زعامة فلسطينية مطواعة. وقد وصلت الوقاحة الى حد منع بث كلمة ياسر عرفات المحاصر في “المقاطعة”، في مؤتمر القمة العربية في بيروت. وكلنا يعرف من كان يحكم بيروت في تلك الايام.
نجح “السور الواقي”، في تحطيم “فتح”، ونجحت “حماس” في الانتخابات التشريعية ثم في انقلابها العسكري في غزة. ثم ماذا؟ اسرائيل تكرر اليوم سيناريو 2002. لقد جاء دور الثور الثاني. هل تذكرون عرفات الذي كان ينبّه فصائل المقاومة من مصير الثورين في حكاية ابن المقفع. اليوم تقذف اسرائيل بكل بربريتها العسكرية في اتون غزة، والهدف تدمير “حماس”. اي خنق ارادة المقاومة في الشعب الفلسطيني. لذا يجب ان تحذر “فتح” ومنظمة التحرير من السقوط في الفخ الاسرائيلي، فالذي يضرب “حماس” اليوم ضرب “فتح” في الامس وسيضرب “الجبهة الشعبية” غدا.
المهمة التي يتولاها سفاح اسرائيلي له باع طويل في القتل، ويداه ملطختان بالدم الفلسطيني منذ عقود، يدعى الجنرال باراك، لن تُنجز الا على عبر الوسائل البربرية التي يتقنها الجيش الاسرائيلي. اي القتل والمذابح، وحروب الابادة. ان مراقبة عناصر المخطط العسكري الاسرائيلي تشير الى اننا امام مذبحة معقلنة ومنظمة، ولا مكان فيها للانفعال. تقطيع اوصال القطاع، وتدمير كل شيء فيه، تمهيدا لتحطيم ارادة المقاومة.
الجيش الاسرائيلي في صدد تنفيذ مهمة في غزة سبق له ان نفّذ مثيلا لها في الضفة الغربية، اي اننا امام سيناريو واضح لا لبس فيه. القطاع محاصر مثلما كانت حال الضفة. موازين القوى العسكرية لا تختلف كثيرا، على رغم وجود الصواريخ، والهدف نفسه.
عام 2002، حوصر عرفات حتى الموت، ولم تستطع القمة العربية شيئا، إن لم نقل انها ساهمت في الحصار بأشكال مختلفة. انجاز القمة كان مبادرة سلام لم يقبضها الاسرائيليون، لأنها بلا مخالب ولا اسنان. اما اليوم فالقمة تترنح. مصر غير معنية الا بأمن نظامها، وبكلامها عن التزام المعاهدات الدولية والى آخره… سوريا لا تفعل شيئا، والثروات العربية تبني “مدن الملح”.
سقوط غزة ليس سقوطا لـ”حماس”، بل عملية إحكام كاملة للطوق على الفلسطينيين. الهدف الاسرائيلي إنجاز الغيتو الغزاوي، اي تحويل الحصار الى واقع دولي وشرعنته، وبذا تكون رؤية جورج دبليو بوش قد تحققت. غيتوات معزولة في الضفة وغزة يطلق عليها اسم الدولة الفلسطينية!
فلسطين اليوم في مواجهة سياسة الغيتو، اي في مواجهة قرار اسرائيلي بشطبها من المعادلة.
لم تنتصر اسرائيل الا في حرب الأيام الستة عام 67، ومنذ ذلك التاريخ كانت نتائج جميع حروبها ملتبسة. غواية الجريمة تقود باراك وقيادة جيش الاحتلال الى وهم تحقيق نصر كامل. وهذا محال. لقد دخلت المنطقة في دائرة الحروب الدورية، شهدت منذ 1982 خمسة حروب، هذا من دون احتساب المواجهات التي لم تتوقف في فلسطين. ومن الواضح ان وتيرة الحروب سوف تتسارع، لأن اسرائيل لا تريد السلام، بل تريد سحق ضحاياها وتحويلهم الى يهود اليهود.
يعرف الفلسطينيون اليوم انهم وحدهم. هذه هي حكاية مأساتهم مع انظمة ملوك الطوائف العربية، لذا لا خيار امامهم سوى المقاومة من جهة، وبناء وحدة وطنية مقاوٍمة من جهة ثانية.
المقاومة ليست سلاحا فقط. السلاح ضروري وقد يكون حاسما، لكن المقاومة مشروع سياسي وثقافي متكامل. يحتاج هذا المشروع الى بداية جديدة. من هذا الدم المسفوك، من الالم والدموع والغبار، تولد حاجة فلسطين، وحاجة العرب الذين لا معنى لعروبتهم من دونها، الى افق يستعيد التوجه الوطني، يدعو الى العدالة، ويستعد للقتال كي يصنع السلام.
لا تتوجه الانظار اليوم الى القيادات التقليدية للنضال الفلسطيني، بل تتوجه الى قادة المقاومة السجناء، والى الفدائيين والمناضلين في مواقعهم المختلفة، من اجل بناء افق فلسطيني جديد لا اسم له سوى المقاومة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى