صفحات ثقافية

أحد ما في غزة سيكتب مثل هذه اليوميات

null
أمجد ناصر
جزائري من القلعة
الجزائري الذي جاء من القلعة
كان يحرك أعضاءه
كما الطائرات
خضَّ الهواء الراكد في غرفة الصحافة
وانقض على الاسئلة.
”’
جاء من ‘أرنون’
وفي يديه زهرة كبيرة
بحجم السلاح،
قال إن التراب طعمه واحد
بين وهران و النبطية
والموت متشابه أيضا.
خلع سترته المتسخة
فقالت له فاطمة: أنظفها لك؟
انحنى كالزنبقة
وقال: إن دم محمد فيها!
”’
أيها الجزائري القادم من القلعة
يا عبد القادر
لم تحطم قلبك الطائرات
ولم تنثن أمام جبل الفولاذ
بسلاحك البسيط
صرعت الكولونيل
وعلى كتفك الهشة حملت محمداً الفلسطيني.
للدم طعم واحد
بين وهران و الشقيف
وللغزاة كأس واحد:
الهزيمة.
بيروت صيف 1982

سلاح طيران يبحث عن شخص

8 حزيران
عدت من الشام قبل أقل من أربع وعشرين ساعة. في طريقي الى الشام وأنا في سيارة أجرة مع ركاب آخرين سمعنا أصوات انفجارات هائلة في بيروت. كنا بالقرب من ‘عالية’ ورأينا أعمدة الدخان واللهب تتصاعد من منطقة قريبة من المدينة الرياضية. أدار السائق مفتاح الراديو بحثا عن خبر عاجل يفيد بما جرى وسرعان ما جاء النبأ من اذاعة ‘صوت لبنان’ الذي تحدث عن غارات مكثفة يشنها الطيران الاسرائيلي على محيط المدينة الرياضية. لم أعرف كيف أتصرف. ظللت حائرا بين شعورين: العودة الى بيروت أو مواصلة رحلتي الى دمشق. فكرت أن القصف بعيد عن بيتي في ‘محلة أبو شاكر’ حيث تركت زوجتي وطفلتي. لم أستطع حسم الأمر. قلت في نفسي انها ليست المرة الأولى التي يقصف فيها الطيران الاسرائيلي أهدافا في بيروت. بقينا نتابع تطور الأخبار من خلال راديو السيارة. عندما توقفنا في ‘شتورة’ كانت هناك معلومات أوفى. فهمنا أن القصف كان يستهدف مقرات للمقاومة الفلسطينية في محيط المدينة الرياضية وان هناك عددا كبيرا من الضحايا. كنا نعرف ان اسرائيل سترد على محاولة اغتيال سفيرها في لندن. لم تتواصل الغارات ولكن الأخبار بدأت تتحدث عن تحشدات عسكرية اسرائيلية على حدود الجنوب. فكرت في غسان وناتاشا اللذين يسكنان في نهاية محلة ‘ابو سهل’. غسان انتقل الى السكن هناك بعد أن كان جاري في ‘زقاق أم زكور’.
مكثت يومين في الشام ولم أستطع البقاء أكثر لأن أخبار الاجتياح الاسرائيلي للجنوب بدأت تتواتر مع قصف لبيروت. حاول موفق أن يستبقيني حتى تتضح الصورة أكثر، لكني لم أستطع البقاء، فأوصلني الى كراجات الشام – بيروت ومن هناك استقللت سيارة في المساء. كان معي ثلاثة ركاب فقط. كان السائق يريد العودة الى بيروت قبل أن تنقطع الطريق. هند ويارا غادرتا الى بعلبك. وجدت رسالة على الطاولة كتبتها هند تقول انها غادرت الى بعلبك وستبقى هناك يومين أو ثلاثة ريثما تهدأ الامور. انتقلنا من مكتب الاذاعة في الفاكهاني الى هذا المقر قرب المدينة الرياضية.
مر ‘أبو جهاد’ بمقر الاذاعة. لم يدخل. توقف أمامه فخرج ‘نبيل’ و’طاهر’ و’ميشيل’ ولحقت بميشيل. كان هدوء ‘أبو جهاد’ ورباطة جأشه يبعثان على الثقة. كان معه سائق ومرافقان. سأل عن معنويات الشباب فقال له نبيل انها ممتازة. ثم سأله نبيل عن الوضع الآن، فقال ‘ أبو جهاد’ إن لدينا مشكلة سيحاول أن يجد لها حلا، فقد تبين أن الخطة الاسرائيلية تعتمد على الاندفاع عبر خطين هما الساحل والجبل. في الساحل ليس لدينا مشكلة لأننا نسيطر على المنطقة المحاذية له، لكن المشكلة في الجبل. قال أبو جهاد أيضاً إنه لا يعرف إن كانت القوات السورية لديها قرار بدخول المعركة على نطاق واسع أم لا. سأله ميشيل عن وليد جنبلاط والقوات المشتركة في الجبل، فقال انه ذاهب الآن للقاء جنبلاط لاقناعه بوضع مزيد من القوات الفلسطينية في مناطقه. لم يطل أبو جهاد البقاء. غادر بعد ربع ساعة.

9 حزيران
أجلس في البيت الفارغ من هند ويارا. الليل موحش وأصوات القصف تسمع بشدة في الطابق السادس حيث أكتب هذه الكلمات الآن. جيراننا بيت الشاويش يسكنون فوق. مكان أسوأ. أحاول أن أقرأ ولكني لا أستطيع التركيز. ولا أستطيع الكتابة. قلبت كتاب نيرودا ‘أشهد أنني قد عشت’ وتركته. لقد قرأته من قبل. كتاب رائع وشاعر أممي عظيم. كان على طاولة الخيزران، أكيد ان هند كانت تقرأه قبل ان تذهب الى بعلبك. فتحت الراديو، الاذاعة تبث الاغاني الوطنية ونداءات القتال والصمود. ‘صوت لبنان’ينعق مثل بومة شؤم. سأحاول أن أنام.

11 حزيران
الجيش الاسرائيلي يتقدم بسرعة. لا يبدو انه سيتوقف قبل الوصول الى بيروت أو بالقرب منها. هناك شعور عام بذلك. اسرائيل دفعت بأكثر من مئة ألف جندي في المعركة التي تدور على جبهات عدة. هناك قتال شرس لا يزال يدور في بعض مناطق الجنوب رغم وصول القوات الاسرائيلية الى مشارف الدامور. رأيت وانا ادخل البناية ‘عصام’ عند المدخل تحدثنا قليلا عن احتمالات التقدم الاسرائيلي. كان متشائما. سألني ان كانت ‘هند’ موجودة لأن زوجته متوترة وتشعر بالوحدة، فهم لم يعرفوا شيئا كهذا في العراق، فقلت له انها ذهبت مع ‘يارا’ الى بعلبك. رأيته امس على الشرفة يقرأ.

20 حزيران
اليوم هو الجمعة. دخلت الحرب يومها السادس عشر وأكملت بيروت يومها السابع في الحصار. مرت الأيام بطيئة، رهيبة كأنها سنوات. كان أكثر الأيام فظاعة هو يوم السبت الماضي حيث فلحت الطائرات شوارع وأحياء بيروت الغربية على مدى ثماني عشرة ساعة متواصلة. الهدير وانقضاض الطائرات ثم الانفجارات التي تزلزل الأرض. أناس يركضون ذاهلين في كل الاتجاهات… يهرولون في الشوارع ويحتمون بمداخل البنايات كأنها سترد عنهم أطنان الحديد الذي ينهمر من السماء، ولكن ما إن تدير الطائرات رؤوسها في اتجاه آخر حتى يعودوا الى الركض مجددا.. لا أدري الى أين.
كنت في مقر الاذاعة السري قرب المدينة الرياضية. أبلغنا بضرروة الانتشار خارج المقر الصغير الذي يتعرض محيطه للقصف. وقفت مع ‘طاهر’ (نائب مدير الاذاعة) وبعض الشباب في مدخل البناية وفجأة انقضت الطائرات وألقت قنابلها. وضعنا كلنا، بصورة غير واعية، أيدينا على آذاننا واغمضنا اعيننا في حالة تسليم مطلق للقدر… هو الموت جاء فمن يرده؟ لم يكن الموت قريبا كما هو الآن. وما هي الا ثوان حتى دوت الانفجارات ولف الغبار السميك كل شيء. تنفسنا غبار الصعداء ومددنا رؤوسنا باتجاه الجسم الضخم الذي ارتطم باسفلت الشارع على بعد أمتار منا… كان أشبه بسمكة قرش مقطوعة الرأس.. فكرنا أنه صاروخ لم ينفجر، فلم نقترب منه، غير أن سائق ‘نبيل’ (مدير الاذاعة) اندفع صوبه، تفحصه قليلا ثم جره بصعوبة الى مدخل البناية، كان فلقة من غلاف قذيفة أمريكية الصنع لم تتمكن اسرائيل من كتابة حرف عبري واحد عليه بسبب العجلة. قال لنا السائق، وهو عسكري محترف، انه أحد غلافي قذيفة انشطارية تضم مئات القنيبلات الصغيرة التي تنفجر حالما توطأ بجسم آخر. الطائرات ولت… فعدنا الى الاذاعة.

27 حزيران
الوضع يتعقد أكثر مع مرور الوقت. الأيام التي مرت كانت طويلة طويلة. معظم الذين التقيهم يعيشون توترا مكبوتا يظهر في النقاشات. التصدي والصمود شعار حقيقي هذه المرة لسكان مدينة تسيجها الدبابات من ثلاثة جوانب والبوارج من الجانب الرابع والطائرات من السماء. الوضع السياسي متقلب، متناقض، تتخلله حرب نفسية لا تخفى على أحد ولكنها رغم ذلك مؤثرة تراها على الوجوه. استمر وقف اطلاق النار لليوم الرابع. فيليب حبيب شخصية بغيضة لكل فرد من سكان هذا المحيط الصغير المحصور. فما إن يظهر في بيروت الشرقية حتى يجن جنون الاسرائيليين: بالطيران، بالدبابات، بالبوارج، بمدفعية الميدان يقصفون بيروت الغربية. قامت الطائرات الاسرائيلية في حدود الساعة الثانية ظهرا هذا اليوم بفرش مناطقنا بالمنشورات التي تدعو السكان المحليين الى مغادرة المدينة عن طريق الشمال… السكان غير المحليين هم نحن. نحن الذين يسمينا البعض بـ ‘الغرباء’ . رأيت مواطنين ومقاتلين سخروا من المنشورات التي غطت بعض شوارع الغربية ولكنني شاهدت اناسا يرحلون باتجاه بيروت الشرقية. لهجة المنشور الاسرائيلي مصاغة بطريقة تجعل المواطن العادي يفكر فعليا بالفرار بجلده من مصير محتوم.
ولكن رغم ذلك شاهدت امرأة من نافذة مقابلة لبناية ‘الحمراء سنتر’ تتزين أمام المرآة مواصلة تقاليدها الانثوية في زمن السلم.

11 تموز
الجحيم انفتح على مصراعيه اليوم. قصف مجنون وعشوائي طال كل أنحاء المدينة. الدمار في كل مكان تقريبا. لا حركة في الشوارع الا لبعض المقاتلين. الدوي لا يتوقف. خرج الناس الى الشوارع ليلا من بين غبار القذائف والردم. بيروت تبدو ماضية في تحديها لهذا القدر المرير. هذه المدينة لن تستسلم كما يدبر لها. أي أناس هؤلاء الذين يطلقون النكات بعد لحظة من توقف القصف؟ عدت مساء من العمل برفقة ‘طاهر’ الى شقته في ‘الحمراء سنتر’ حيث آوي بعض الاحيان، فعائلته ذهبت الى عمان. لم تعد لنا بيوت ثابتة. القصف المتواصل يجعلنا ننتقل بين بيوت وأحياء مختلفة. انتهزت فرصة عودة المياه فغسلت ثيابي التي اتسخت وتراكمت في الاسابيع الماضية وأخذت حماماً بدا لي ترفاً لا يمكن الحفاظ عليه بسهولة. آخر مرة ذهبت فيها الى بيتنا كانت منذ عشرة أيام.. ‘الطريق الجديدة’ أصبحت في الخطوط الاولى.. هجرها معظم سكانها.. كان البيت، المواجه تماما للمنطقة الشرقية، في حالة مزرية. الزجاج مهشم، الغبار في كل مكان. أخذت البومات الصور وألقيت نظرة على النباتات والأزهار التي كانت خضراء وريانة قبل الحصار. انها الآن ميتة تماماً. من يرى البيت سيظن أن عاصفة هوجاء ضربته فقلبت أحواله رأسا على عقب.
الساعة الآن الحادية عشرة والنصف تقريباً. ‘طاهر’ يغط في النوم، أحسده على ذلك، بينما أكتب هذه السطور. سأنام بعد قليل. من يدري ماذا سيحصل؟
(مقاطع من يوميات حصار بيروت،
كتبت في صيف عام 1982)
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى