مَن يَربح مِن المجزرة؟!
موفق نيربية
حصدت آلة الحرب الإسرائيلية أرواح المئات، وجرحت الآلاف من أبناء غزة المحاصرين الذين يعيشون ظروفاً لا تليق بالإنسانية، وإذا كان ذلك لن يكون هزيمةً جديدة، فعلينا مراجعة اللغة العربية وإعادة النظر في مصطلحاتها وقدرتها على أن تكون طريقة للتعبير.
لن تمنع تلك الحقيقة بعضنا عن البحث واستنباط أبواب النصر، للأسف المتكرر منذ فجر محاولات النهضة العرجاء، حتى الآن. سوف نتكلم عن «خسائر» إسرائيل التي لا تتحمل الخسارة، وعن يقظة روح المقاومة وإرادة التحرير الشامل، وعن وضع مصير إسرائيل من جديد في دائرة التساؤل، وعن فضيحة المتهاونين والخونة والمتردّدين واللاهثين وراء رضا العالم، وعن ضرورة التركيز على «القومي» و«الإسلامي» و«اليساري الدولي» والمقاومة المجرّدة الألوان إلاّ من لون واحد، التي يختفي وجهها فلا ترى منها إلاّ السلاح والاستعداد للاستشهاد.
لكن الواقع على الأرض شيء آخر، سينجلي بعد العاصفة، أو سيتحول إلى شيء أبشع وأشدّ صعوبة على الأجيال الصاعدة. بالنظرة الأولى، هنالك رابحون وخاسرون مما يجري.
والرابح الأكبر إسرائيل، في المدى القريب والبعيد، فهي تملك من الهامش المريح ما يكفيها لأن تخوض حرباً وتنفّذ مجزرة وجريمة بحق الإنسانية، لأغراض انتخابية تُعيد فيها تشكيل الخارطة السياسية وتهزّها على الغربال يميناً ويساراً، وفي طريقها سوف تحاول تغيير المعادلة، التي يحرجها فيها الصاروخ البسيط والجندي الواحد الأسير.
إلاّ أن هذه الأهداف لا تكفي لشن حربٍ وتبريرها أمام الإسرائيليين جميعاً، فهي ترغب في إضعاف مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع لتشجيع الفلسطينيين على القبول بتنازلات لازمة لها، بجعل أطروحات جديدة من نوع إعادة الأمور إلى الإدارة المصرية والأردنية قابلةً للنقاش، كما أنها تريد إعادة تحديث موقعها ودورها الإقليمي في السياسات الدولية، والتأسيس لعلاقتها المستقبلية ضمن نسيج المنطقة، باستغلال اهتزاز النظام العربي وتفسّخه.
وسوف يكسب الأميركيون للأسباب نفسها أعلاه، مع ما يضيفه ذلك إلى سياساتهم المستقلة نسبياً، من نوع «حربهم» على الإرهاب، أو تحسين ظروفهم في العراق وغيره.
في المحيط العربي، ستكتسب «الممانعة» روحاً جديدة لازمة لها، تعود بها من أجواء التسويات السياسية إلى نسقها الأمني الأصيل، بعد أن يكتسب غطاؤه القومي الوطني زخماً جديداً، لن يتعارض مع هشاشته، وعلى الطريقة نفسها سوف تجد النخبة السياسية العاجزة عن المعارضة مهرباً أثيراً لديها من دورها في التغيير إلى الألعاب النارية وضجيج الأمم.
كما سوف يربح «الاعتدال» وقتاً مناسباً للتهرّب من واجباته تجاه إخوانه من جهة، وتجاه شعوبه من جهة أخرى، والجانب الأخير هو الأكثر أهميةً لديه، والأحبّ، كما ستغرق المهمات الأساسية؛ من نوع مراجعة النظام العربي ومنع تراجع وضع القضية الفلسطينية والقضايا الأخرى الحساسة في العراق ولبنان، في مستنقع الأزمة المالية وما تفرضه من مراجعات اقتصادية وسياسية.
والإيرانيون سيربحون- على طريقة ما يمكن أن يحدث للممانعة العربية- وتنتعش لديهم الميول الأشدّ تطرّفاً، في حين ستخسر التيارات الإصلاحية على أبواب الانتخابات وتتراجع، كما يظهر منذ الآن في تعاظم الهجوم على خاتمي وعبادي.
الأتراك سيخسرون- مؤقتاً- شيئاً من نفوذهم لدى الإسرائيليين ويكسبون بدلاً منه عند العرب، والنتيجة الأساسية هنا هي تعاظم دورهم الإقليمي، الأمر الأكثر أهميةً من التفاصيل.
الخاسر الرئيس هنا أهل غزة، والفلسطينيون عموماً، وقضية التقدم في المنطقة كلها.
لقد ابتدأت الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالتراجع من حيث الأساس منذ انسحاب الإسرائيليين، فإضافة إلى الظروف المعيشية المتفاقمة مع الحصار، ظهرت القبائل والعشائر والعائلات بقوّتها البدائية لتقضم من دور السياسة ومكانتها، وإن بدت «حماس» بتركيبتها الدينية بنيةً أكثر تقدّما وتأميناً من تلك، فهي أكثر تأخّراً من المجتمع بمدنيته ووطنيته، وقد أسهمت بنزعتها الشمولية (من حيث تدري أو لا تدري) وبعمليات التطهير التي قامت بها في المؤسسات الأساسية، في إضعاف مجتمع غزة وتهيئته لما سوف يحدث، بل إن آليات المقاومة التي انتهجتها لعبت دوراً أيضاً في ذلك، أو في تغطيته وتحوير مظاهره.
المجزرة الراهنة وآثارها اللاحقة هي الخسارة الكبرى لغزة والفلسطينيين والعرب، ومشروع الدولة الفلسطينية من بعد ذلك، أو هي القضية الفلسطينية على ما نفهمها، وليس كما تفهمها «حماس»، للأسف.
لكن ذلك كلّه قد يكون سابقاً لأوانه، كما يقول البعض، ولن نخالفه، لأن ما هو ملح هو وقف حمام الدم فوراً وبكلّ الوسائل، وإنهاء الحصار، وتسهيل أي باب للوحدة على ما تيسّر من مسائل، قد يكون الأهم منها هو الأكثر قابليةً للتأجيل… أيضاً للأسف.
فتلك هي الحرب، وقد مللناها «وما هو عنها بالحديث المُرَجَّمِ»!
* كاتب سوري