حديث الصورة
ضحى شمس *
كم كنتَ وحدك! (محمود حمص ــ أ ف ب)كم كنتَ وحدك! (محمود حمص ــ أ ف ب)تستوقفك الفقرة الواردة في المقالة. تعيد قراءتها، تنزع نظارتك، تنظر عبر النافذة وتعيدها في رأسك كمن يأخذ وقته لمضغها في عقله، لفهمها. تضعها بإيقاع آخر متمهل، فمن كتبها، تقول في نفسك، كتبها بإيقاع من لا يستوقفه مضمونها «البديهي». تقول الفقرة إن رئيس الدائرة الأمنية والسياسية في الاستخبارات الإسرائيلية، عاموس جلعاد، المكلف التفاوض مع القاهرة، أبلغ الأخيرة «أن معضلة إسرائيل هي بخصوص تطوير الهجوم البري نحو دخول المدن، وبالأخص التي يُعتقد أن قيادات حماس وقوتها العسكرية تتحصّن فيها. فالإقدام على هذه الخطوة سيكون مصحوباً بخسائر بشرية كبيرة، ما سيجعل إسرائيل أكثر انكشافاً أمام العالم (…) ما يجعل أعضاء الحكومة المصغّرة يفكرون عميقاً في هذا الجانب».
ليس استفظاع قتل المدنيين هو ما يجعل إسرائيل تتريث في الإقدام على دخول المدن، بل التخوف من جعل «إسرائيل أكثر إنكشافاً أمام العالم»، بمعنى انقشاع صورة حقيقة ما تفعل. ليس فعل القتل ذاته لأشخاص أبرياء، عزّل، بل النتيجة الإعلامية لهذا القتل. لم يعد القاتل يخاف ضميره (وازع فردي أخلاقي) أو عقوبة المجتمع الدولي (قانوني سياسي)، بل خسارة «صورة» إسرائيل، أي تغير المعنى الإعلامي المرادف للاسم. إن في هذه الجملة لعالم من المعاني.
على شاشة «ال بي سي» أول من أمس. كان مدير «العربية» بين آخرين، يدلي بدلوه في مسألة أثارتها الزميلة شذا عمر «هل نعرض الصور الهائلة لجثث ضحايا العدوان؟»، كان رأي الرجل سلبياً. ولدعم كلامه، روى أنه في تغطية ميدانية، طلب بعض المقاومين منه، لو قتلوا، ألا يعرض صور جثثهم المشوهة. وقال إنه يتفهم هذه الرغبة الإنسانية، لذلك، فهو اليوم يمتنع عن عرض صور جثث القتلى المدنيين الفلسطينيين. وللتعويض «أركز على معاناة الأحياء فيفهم المشاهد»، خاتماً بالقول إن هؤلاء المقاومين الذين «استحلفوه»، قُتلوا فعلاً، والتزم هو بوعده فلم يعرض صورهم. وبغض النظر عن صدقية ما قال الرجل، لكون كل الشهود، بشهادته، ماتوا، فإن انتقالك إلى شاشة «المستقبل»، ويا للعجب، لم يغيّر موضوع النقاش أو اتجاهه. هكذا أجابت الصحافية الأجنبية التي كانت تستضيفها الزميلة نجاة شرف الدين، عن السؤال نفسه، الجواب ذاته: بالطبع لا.
منذ أيام، خرج مراسل قناة «ال بي سي» من غزة، شريف النيرب ليقول بصوت متهدج من التأثر، إن هناك صوراً لن يعرضها على المشاهدين نظراً «لقوتها». والصور لطفلة ابنة 6 أعوام، أُصيبت بقصف إسرائيلي لكنها لم تمت. وفيما استحال سحبها على ما يبدو، وكانت لا تزال تعاني سكرات الموت، هاجمتها الكلاب، وسحبت جسدها، الحي، بعيداً، وسط عجز شهود منعهم القصف من التدخل. منذ سمعت الخبر، ومن دون صورة، أستيقظ بالليل مُرعَبة أو باكية. هل كان عرض الصور يزيد من ردة فعلي؟ الأرجح نعم. لكنه كان يكوي الوعي بالصورة التي تخشى إسرائيل ترسيخها. أُريد للفتاة صورة، واسماً، ما الذي كانت تحبه؟ من هو والدها؟ وماذا كانت تريد أن تصبح في المستقبل؟ أُريد للواقعة أن تتسجل، وأن تنضم لملف جرائم إسرائيل التي منعت بالقصف إسعاف الجرحى. أمس كان مروان أبو ريدة، مسعف فلسطيني، محاصراً داخل عربة الإسعاف التي يقودها في شارع النجار، وهو شارع مسدود لجأ إليه بعد ملاحقة الإسرائيليين لسيارته التي كانت محمّلة بالجرحى. كان الرجل يستغيث في بثٍّ مباشر بالصوت لأكثر من أربع ساعات من دون مغيث، فيما كان جرحاه في خطر الموت. هل من حقي أن أقفل عينيّ عندما يكون أمر كهذا في صدد الحصول؟ أليس السؤال أصلاً: هل يحق لإسرائيل أن تقوم بهذا؟ لا إن كان يحق لنا أن نعرض الصور؟ لو كانت الجثث لضحايا كارثة طبيعية، لما ترددت في الوقوف لجانب عدم العرض! لكن، عندما تكون أجساد الضحايا هي الدليل العملي الوحيد الذي قد يصل إلى مشاهد غربي، لا يفقه اللغة العربية وتخضع تغطية وسائل إعلامه للفلترة الإيديولوجية والسياسية، فإن عرض هذه الصور واجب. لذا نطلب من الزميل شريف النيرب إرسال الصور التي امتنع عن عرضها إلى «يوتيوب» أو الفايسبوك لنشرها فوراً.
إن إخفاء دليل على جريمة هو جريمة، وعرض صور الشهداء المدنيين واجب في مثل هذه الحال. من أبسط حقوق المدنيين أن يرشقوا أشلاءهم بوجوهنا، وإن كانت سترتطم بزجاج الشاشات ولن تصيبنا في بيوتنا الآمنة. والأهم، لكي لا تمر تلك الجملة التي مرت في الفقرة أعلاه مرور الكرام.
* من أسرة «الأخبار»