محرقة »الأمن«
فواز طرابلسي
الحديث عن تغليب النظرة الأمنية على النزاع العربي الإسرائيلي ليس بالجديد. الجديد الذي تتكشف عنه دماء غزة، ومحرقة غزة، هو إلى أي مدى صار هذا التغليب أمراً واقعاً عربياً. وهذا في وقت قد لا تسفر فيه محرقة غزة، نتيجة المقاومة البطولية لشعبها، عن أكثر من قتل ما يزيد عن ألف فلسطيني وجرح آلاف عدة وتدمير أجزاء حيوية من القطاع، لمجرد الإثبات أن الجيش الإسرائيلي »بات قوة أمنية رادعة«، على ما يعلّمنا وزير الحرب باراك! كأننا لم نكن ندري!
كل شيء يجري حسب نظرية »السلام والأمن« الأميركية. وقوامها اثنان: »حلّ النزاعات« بواسطة »بناء الثقة« أو التطويع القسري، وفي الحالين دون معالجة الأسباب. أما »بناء الثقة« فينم عنه أن يتواجد ملك العربية السعودية ورئيس الدولة العبرية في مؤتمر واحد عن »حوار الأديان«. وأما التطويع القسري، فيعني أن يفرض على ٣٠٠ مليون عربي أنه لم يعد لهم من وظيفة أو دور في هذا العالم غير حماية أمن دولة عسكرية استعمارية استيطانية توسعية، أجلتْ أكثرية شعب من بلاده واحتلت وتحتل الأجزاء الأكبر من فلسطين التاريخية، ناهيك عن أراض عربية في الجولان وجنوب لبنان. والوسائل هنا هي وسائل »الفوضى الخلاّقة« من قتال واغتيال واحتلال وحروب لا متناهية وإرهاب دولة عندما لا ينفع فرض الأمر الواقع بالسياسة و»الثقافة«. والمضمر في الحالين أن هذا العالم العربي مصاب بـ»وباء« ثقافي ـ ديني يجب استئصاله هو نزعته القوية إلى »العنف« و»التطرّف«. صدّق أو لا تصدّق!
ما الذي سمح بهذا الانقلاب بنسبة ٣٦٠ درجة في معادلات الصراع؟ كيف أمكن تحويل قضية فلسطين من قضية تحرر وطني لآخر شعب مستعمَر في العالم، يناضل من أجل حقه في تقرير المصير في وطن ودولة منذ ما يقارب ثلاثة أرباع القرن، لتصير قضية حماية المستعمِر من ضحاياه؟ والمحتل من الخاضعين لنير احتلاله؟
يكمن الجواب في موقع النزاع العربي ـ الإسرائيلي من العلاقة الثلاثية بين العرب وكل من إسرائيل وأميركا.
»فلسطين هي القضية العربية المركزية«. هذه مقولة تحتمل التباسات عدة. منها الإشارة إلى أنها آخر مصدر للخلاف بين العرب والغرب. أو أنها مفتاح الحل لسائر قضايا المنطقة. وفي التفسيرين مقدار من الخطل والتضليل. ومهما يكن، فقد جرت عملية تجويف للمنطقة المحيطة بـ»القضية المركزية« شملت كل عناصر الحياة فيها، وطنياً وقومياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، قبل الالتفاف نهائياً على فلسطين ذاتها. وهو تجويف تبادلت فيه إسرائيل والولايات المتحدة الأدوار والوظائف.
لم يكن عام ١٩٦٧ علامة فارقة في التاريخ العربي المعاصر عن عبث. لعب العدوان الإسرائيلي على مصر الدور الرئيسي في إسقاط نظام عبد الناصر، واستيلاد الردة عليه من صلب نظامه ذاته، وجر مصر إلى الحظيرة الأميركية، بواسطة المال السعودي، وفك التحالف مع الاتحاد السوفياتي. ولم يكن جمال عبد الناصر ونظامه، بالزخم العربي والدولي الذي أطلقه، مجرد خطر على أمن إسرائيل وحدها بل شكّل خطراً على المصالح الاستعمارية في المنطقة برمتها بما فيها الأنظمة العربية المرتبطة بها، والنفطية منها خصوصاً. وهو الذي ارتكب »الخطيئة المميتة« عندما أعلن أن »إسرائيل هي أميركا وأميركا هي إسرائيل«. ومن جهة ثانية، بدلاً من أن يؤدي وصول البعث إلى السلطة في العراق وسوريا إلى بناء الجبهة الشرقية في وجه إسرائيل، ناهيك عن مهمة تحقيق الوحدة بين القطرين، أدى إلى القطيعة بينهما.
المحطة الثانية في هذا المسار هي دخول المنطقة مرحلة الحلول الثنائية. بموجبها، خرجت مصر، من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهي الرابط بين مشرق العرب والمغرب، وجرى تقزيم »أم الدنيا« إلى توسل دور الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، دور يزداد انحيازاً إلى الطرف الأول. تلت ذلك اتفاقية أوسلو المتكئة على وهم فلسطيني بأن إسرائيل بحاجة إلى شريك فلسطيني من أجل تحقيق السلام. في أوسلو، اعترفت إسرائيل بسلطة فردية بديلاً من الاعتراف بحق شعب في حق تقرير المصير، في مقابل الاعتراف الفلسطيني بدولة إسرائيل وتحقيق انفصال قضية الضفة الغربية وغزة عن المكوّنين الباقيين للشعب الفلسطيني في الشتات وداخل حدود عام .١٩٤٨ وكانت النتائج الكارثية التي نعرف: إخماد الانتفاضة الأولى وحصار ياسر عرفات، بعد أن تبيّن أنه لا يلتزم بوظيفة حماية أمن إسرائيل مجاناً، وصولاً إلى اغتياله بالموت البطيء. ولما حلّ »البديل المعتدل«، الذي كانت تطالب به أميركا وإسرائيل، جرى عصر كل التنازلات الممكنة من محمود عباس قبل الإعلان عن »فشله« في ماذا؟ في حماية أمن إسرائيل! أما على الصعيد العربي، فكانت أوسلو أعظم عذر ممكن أتاح لمعظم الأنظمة العربية الانفكاك عن القضية الفلسطينية، جرياً على مقولة »ما دام القاضي راضي«، وهي الأنظمة المستعجلة في التخلص من نقطة الخلاف الأخيرة التي تحول دون خضوعها للمشيئة الأميركية.
حتى لو افترضنا جدلاً أنه كان بالإمكان »تحييد« أميركا وتوسلها للضغط على إسرائيل من أجل حل عادل للنزاع العربي الإسرائيلي ولعب دور »الوسيط المنزّه« الذي لم تكْنه مرة، يثور السؤال: ما الذي أعدّته الأنظمة العربية لممارسة ضغوطها على أميركا؟ الجواب: لم تكتف تلك الأنظمة بعدم إعداد أية عناصر للضغط بل بدّدت ما كانت تملكه أصلاً من عناصر القوة.
بعد عام ،١٩٧٣ أُخرج النفط العربي من المعركة كوسيلة ضغط من أجل حل عادل للنزاع العربي الإسرائيلي وبما هو عنصر حاسم في التنمية العربية الذي يسمح للعرب عموماً بالارتقاء نهائياً إلى القرن الحادي والعشرين. تحولت الثروة الرئيسية للمنطقة إلى ترليارات من البترو دولارات الموظفة في دعم الاقتصاديات الرأسمالية العالمية، وباتت رهائن فعلية في مصارفها والشركات وسندات الخزينة، ناهيك عن المضاربة في الفقاعة المالية المتعولمة، هذا عندما لم تكن تلك الأموال موضع الهدر الفلكي والاستهلاك الباذخ المهووس.
حققت تفجيرات ١١ أيلول ٢٠٠١ الالتحام الكامل بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول شعار الحرب الدائمة ضد الإرهاب. فكان مجيء شارون. وكان احتلال العراق يستكمل إخراج بلد عربي رئيسي آخر من النزاع العربي الإسرائيلي. على أن الجديد هنا هو عدم الاكتفاء بشن حربين على آخر بؤرتين للمقاومة في لبنان وغزة وإنما مطالبة الأنظمة العربية ذاتها أن تتولى حماية أمن إسرائيل داخل حدودها هذه المرة.
نعود إلى الأمن. لم يعد يوجد جيوش فعلية في المنطقة إلا جيش إسرائيل. بعد أن تقلّص عديد وعدة الجيش المصري، وحُلّ الجيش العراقي. وقد انتهت عملياً اتفاقية الدفاع العربي المشترك بالتزام مصر والأردن الدفاع عن أمن إسرائيل لا عن الأمن العربي. حتى أن بعض العرب يشعر بخطر السلاح النووي الإيراني أكثر مما يستشعر خطر ٤٠٠ رأس نووي لدى إسرائيل.
الأمن. الأمن. الأمن. »ليس من مهمة مصر أن تعزز من قدرات الحرب بل أن تعزز قدرات الشعب الفلسطيني للعيش في أمن«. هذه هي زلة اللسان المعبّرة لوزير الخارجية المصري، يتحدث عن »أمن« لا عن »أمان«.
إن الذي لا يعزز من قدرات الحرب لا يعزز من قدرات السلام.
وما يجري الآن في فلسطين يشبه إلى حد بعيد مجريات الأمور خلال انتفاضة فلسطين الكبرى ضد الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني عام ١٩٣٦ ـ .١٩٣٩ عندها طلب الزعماء العرب، المقيّدون بسلاسل التبعية البريطانية، من الفلسطينيين تعليق الإضراب العام للسماح لهم بالتفاوض من »دون ضغط« مع السلطات البريطانية. خرج زعماء ذلك الزمان بورقة بيضاء هزيلة لتحديد الهجرة اليهودية، فيما الحركة الوطنية تطالب بإنهاء الانتداب، ثم وقفوا متفرجين بينما الجيش البريطاني يسحق الانتفاضة ويعيد احتلال فلسطين من جديد بالحديد والنار.
ولأولوية الأمن منطقها الحديدي الزاحف زحفاً لا هوادة فيه. من تحميل العرب مسؤولية حماية أمن إسرائيل بالحراسة المصرية للمعابر ومنع غزة من التزوّد بالسلاح، يجري الانتقال الآن للعمل على تغيير طبيعة النزاع على لسان تسيبي ليفني التي تعلمنا أن إسرائيل تمثل فعلاً مصالح المعتدلين العرب، والصراع لم يعد اليوم »إسرائيلياً ـ فلسطينياً ـ عربياً. لكنه صراع بين المعتدلين والمتطرفين. هذه هي الطريقة التي تنقسم بها المنطقة حالياً«.
ولقد صدقت. إن عدداً متنامياً من الأنظمة العربية بات يحتاج إلى الحماية من شعوبه لا من إسرائيل.
والخطر الآن هو الانتقال من مثال ١٩٣٦ إلى مثال ١٩٤٨ فالخطوات لم تعد ببعيدة. ها هو جون بولتون، الأشد هياجاً وعنصرية بين »المحافظين الجدد« والممثل السابق للولايات المتحدة في مجلس الأمن، يدعو إلى حل الدول الثلاث ـ تسليم غزة لمصر والضفة للأردن ـ بدلاً من حل الدولتين. والحجة؟ أن السلطة الوطنية فشلت. طبعاً، في حفظ أمن إسرائيل.
لقد انجدلت المسألة الوطنية نهائياً بالتغيير الوطني والديموقراطي والاقتصادي ـ الاجتماعي الداخلي. ولقد خسرت الشعوب العربية مثلما خسر الشعب الفلسطيني أفدح الخسائر جراء الفصل بين المسألتين. ولعل الحرب التي تشنها إسرائيل على حكومة منتخبة شعبياً تطيح إلى الأبد الوهم القائل إن الولايات المتحدة تريد أن تفرض علينا »ديموقراطيتها«. كل ما تريد فرضه هو العسكرية الإسرائيلية والاحتلال والهيمنة والأنظمة السلطانية.
إن »الجهاد الأكبر« الآن من أجل فلسطين ليس مجرد كلمة حق في حضرة سلطان جائر بل الإطاحة بالسلاطين الجائرين. لذلك كان بناء القوى الذاتية للتغيير الداخلي في كل قطر عربي، والتشبيك بينها، لا مجرد أفعال تضامن مع فلسطين وإنما تعبير عن المصالح العربية الحيوية في الحرية والعمل والسيطرة على الموارد والثروات والعدالة الاجتماعية.
لتفادي ١٩٣٦ و،١٩٤٨ لا تحرير دون تغيير.
هذا ما تعلنه غزة وشعب فلسطين من عميق جراحهما والدم.
السفير