صورة الحرب وتمويهها
حازم صاغيّة
كائناً ما كان الموقف من نظريّة «الحرب العادلة»، فإن الحرب الإسرائيليّة على غزّة ليست عادلة بالمرّة. إنّها، على العكس مما يحاول إثباتَه مثقّفون إسرائيليّون وآخرون غربيّون، إجراميّة وطغيانيّة وعقاب جماعيّ صارم. وقد درج نقّاد ليبراليّون ويساريّون في بريطانيا، دحضاً لحجّة إسرائيل الأساسيّة، على إجراء مقارنة صائبة مع إيرلندا الشماليّة و «الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ»: فهناك واجهت بريطانيا، لسنوات عدّة، تمرّداً كان يتحوّل، في بعض منعطفاته، إلى حرب منخفضة المستوى. ذاك أن «الجيش الجمهوريّ» لم يقصّر في زرع قنابل وعبوات داخل بريطانيا نفسها، وهذه قتلت بشراً وكادت تودي برئيسة حكومة هي مارغريت ثاتشر، فضلاً عن الخراب الماديّ الذي أحدثته. وقد ارتكب الجيش البريطانيّ، في المقابل، بضعة أعمال بشعة ومقزّزة كقتل أبرياء، غير أنّه لم يستعمل الأسلحة الثقيلة ولا طيّر الطائرات القاصفة، ولا أنزل بالإيرلنديّين ضربات جوّيّة، ولو بسلاح المروحيّات. لا بل تبيّن لاحقاً أن التبادل العنفيّ بين بريطانيا و «الجيش الجمهوريّ» تخلّله كثير من التفاوضين المباشر والمداور، كما أُطلق، في تلك الغضون، عديد المساجين المحكومين بمدد طويلة، وبعضهم كانوا قتلة، علّ ذلك يقرّب السلام ويرفع احتمالاته.
وهو جميعاً ما لا تصله صلة بالممارسات الإسرائيليّة التي بلغت مبلغ استخدام الفوسفور الأبيض. ففي إزاء ديموقراطيّة وطيدة وذات تقاليد، كتلك البريطانيّة، تلوح «الديموقراطيّة الإسرائيليّة» نسخة منحطّة، تحارب، بحداثة لا يخالطها الحقّ، حقّاً لا تخالطه الحداثة، فإذا بجبروتها التقنيّ يتكشّف عن هيوليّة عمياء بلا ضوابط من قوانين أو نزوع إنسانيّ.
لكنّ ما يعقّد الصورة لدى الرأي العامّ الغربيّ، مسهّلاً على الدولة العبريّة إكساب حربها الهمجيّة نعت «العدالة»، متعدّد الأوجه:
فإسرائيل في محيطها ليست كبريطانيا في محيطها: إنّها أقليّة دينيّة ولغويّة مكروهة ومرفوضة لا تسنح سانحة إلاّ ويعبّر خصومها عن الرغبة في إزالتها، وهذا في منطقة غير مشهورة بتسامحها مع المختلف والمغاير. وفي وسع تلك المواصفات أن تضاعف هُجاس إسرائيل الأمنيّ، المعزّز بذاكرة المحرقة، وأن تجعله قابلاً للتسويق في الغربين الأوروبيّ والأميركيّ.
في المقابل، ليس «الجيش الجمهوريّ»، على إرهابيّته، مثل «حماس»: فالأوّل أقام صلات وثيقة مع أطراف موّلته وسلّحته، في عدادها ليبيا القذّافيّة، بيد أنّه لم يكن امتداداً استراتيجيّاً لأيّ من تلك الأطراف. وهذا ما لا يصحّ في الحركة الغزّاويّة لجهة علاقتها بإيران وسوريّة، ما يجيز لإسرائيل تصوير «الخطر» المتأتّي عن «حماس» إسماً حركيّاً لخطر متأتٍّ عن دول وقوى جدّيّة. ثمّ إن «الجيش الجمهوريّ» كان يعترف، طبعاً، ببريطانيا، رافضاً وجودها في بلده، فيما «حماس» تضيف إلى عدم اعترافها بإسرائيل موقفاً لا ساميّاً واستئصاليّاً حيال اليهود تجهر به أدبيّاتها الفقيرة. وأخيراً، كان في وسع أطراف غربيّة رسميّة، في عدادها جمهوريّة إيرلندا (الجنوبيّة) والولايات المتّحدة، فضلاً عن الرأي العامّ الكاثوليكيّ في إيرلندا الشماليّة، التأثير على «الجيش الجمهوريّ» وسوقه إلى مواقع أكثر اعتدالاً. وهو ما لا يصحّ في حال «حماس» التي يعجز «الاعتدالان» الفلسطينيّ والعربيّ عن الضغط عليها لأسباب كثيرة بعضها يتعلّق بها، توجّهات وسياسات وشروطاً عملانيّة، وبعضها بـ «الاعتدالين» في قدرتهما أو رغبتهما.
وهذه، على عمومها، أسباب لا يجوز القفز فوقها أو تجاهل التفكير فيها، لا تحت وطأة الألم ولا تحت وطأة الخطابة.
الحياة