لا غرابة، هكذا جرت العادة: حروبٌ وقودها أشلاء الأبرياء والكلام الهشيم
هوشنك أوسي
لا غرابة، إسرائيل، تقدِّم الدليل تلوَ الآخر، بألاَّ أحد يجاريها في الوحشيَّة والبربريَّة، آناء خوضها للحروب. والعرب، يقدِّمون الدليل تلوَ الآخر، بألاَّ أحد يجاريهم في صوغ الكلام، النائح، النادب، الصاخب، الرهيب، المهيب، الشاحذ للهمم، الموقد للعزم والصبر والمصابرة والمكابرة، والمتاجرة أيضاً. ولو كانت القنوات الفضائيَّة العربيَّة الحاليَّة، موجودة، سنة 1948، أو 1956، أو 1967، أو 1982، لكنَّا سمعنا ما تجود به قرائح هذه الفضائيَّات من كلامٍ وصورٍ حول فظائع وهمجيَّة إسرائيل، وكأننا لا زلنا بحاجة لأدلَّة دامغة على ذلك!؟. لكنَّا، سمعنا نفس الكلام، ونشاهد نفس الصور، كلما سمعنا وشاهدنا ما جادت به هذه الفضائيَّات في الحرب الأميركيَّة على العراق في 2003، وتبعاتها، والحرب الإسرائيليَّة على لبنان في تموز 2006؟. ولا شكَّ أن الحرب الحديثة، في أبرز أوجهها، هي حرب إعلاميَّة. فلا غرابة أن تكون ذخيرة هذه الفضائيَّات، في هذه الحرب، بائدة، وفاقدة للصلاحيَّة؟!.
من حقِّ غزَّة، وأهلها، أن نكون معهم، أن نكون مع الضحايا والثكالى، وجدانيَّاً، إعلاميَّاً، سياسيَّاً واقتصاديَّاً، إلى أقصى وأبعد الحدود. لكن، أن ننحاز للضحايا، وليس لفريق سياسي، دون غيره!. وينبغي على الإعلام، تجرُّع علقم الحقيقة، مهما اشتدَّت مرارتها. فالتضامن مع غزَّة، إعلاميَّاً، وسياسيَّاً إنْ شئتم، ليس بالضرورة، يفترض علينا التضامن مع “حماس”، أو أقَّله، التعامي عن أخطائها.
ثمَّة شلال دمّ، ينبغي أن يتوقَّف. وثمَّة تلال من أشلاء الأطفال والنساء والشيب والشباب…، ينبغي ألاَّ نسمح لها أن تزداد علوَّاً. ويُفترض أن تلعب الشاشة العربيَّة، والإعلام العربي ككلّ، دوراً في هذا المسعى. المناوءات والمناكفات والمكاسرات بين الفضائيَّات العربيَّة، لن تردأ بيتاً فلسطينيَّاً آمناً من نذالة قذيفة إسرائيليَّة. الكلام الهشيم، الشعبوي التعبوي، إيَّاه، لن يعمي صاروخاً إسرائيليَّاً من تحويل جسد طفل إلى بقايا طفل. هذه النيران المتوحِّشة التي ينفثها حديد الكيان العبري على غزَّة، لن تطفئها الصيحات المفتعلة، والمظاهرات المفتعلة، والانقسامات والانهدامات السياسيَّة. مهما أكثرت الفضائيَّات من بثّ الصور الأكثر إيلاماً ودمويَّة، فلن ترقَ للتعبير عن مدى الجحيم الذي يعيش الأبرياء، آناء الحروب. وكذا غزَّة، التي أصبحت العنوان العريض للكارثة الإنسانيَّة، وهي تعيش جحيماً، وقودها، أشلاء الأطفال والكلام الخشبي، الذي تطهوه وتتحفنا به جوقات “الممانعة” ببراعة، تضاهي براعة إسرائيل في طهي الحروب. ومأساة هؤلاء، تكمن في أنه عندما تهدأ الحروب، بعض الوقت، في المنطقة، فأنهم يحالون على التقاعد المؤقَّت، لحين اندلاع حرب أخرى، تعلنها تل أبيب أو واشنطن في هذا الشرق الأوسط المنكوب. آنئذ، تستدعيهم الفضائيَّات إيَّاها، ليقولوا كلامهم إيَّاه، ويعيدوه ويزيدوه، على إيقاع اشتداد وقع المذابح!. فإذا كان ثمَّة من يصدِّق كلام هذه الجوقات، عليه أن يصدِّق وحشيَّة آلة الحرب الإسرائيليَّة أيضاً. ما يطيل مأساة الفلسطينيين، أنهم يصدِّقون كلام المتاجرين بدمائهم، من العرب والعجم، ولا يصدِّقون أفعالهم الخائبة!. مأساة هذا الشعب الجريح، أنه لا زال يقبل بالكلام الخلَّبيّ ضماداً. وصائبٌ جدّاً ما تقوله الفضائيَّات العربيَّة “الممانعة” فيما يتعلَّق باللعبة الانتخابيَّة الإسرائيليَّة، بأنها تستند على أرقام الضحايا من الجانب الفلسطيني، أو اللبناني. لكن في الوقت عينه، ليس من الخطأ القول: أن أنظمة “الممانعة”، ولكي تستبدَّ بشعوبها، وتعزز سلطانها، وتأبِّد أركانها، تلوذ بقضيَّة الشعب الفلسطيني، منذ 1967 ولغاية اللحظة!. فإذا وجدت القضيَّة الفلسطينيَّة نوعاً من الانفراج السياسي، فبماذا ستحتج هذه الأنظمة، وجوقاتها، لتبرير استبدادها بشعوبها؟!. من أين لهذه الأنظمة، بقضيَّة عالقة، أفضل من القضيَّة الفلسطينيَّة، كي تستخدمها “قميص عثمان” أمام شعوبها؟!. القضيَّة الفلسطينيَّة، كانت ولمَّا تزل، الدجاجة التي تبيض ذهباً لنظم الاستبداد الشرق أوسطيَّة. ما ينبغي أن يعرفه الشعب الفلسطيني، بأنه آن له، ألاّ يقبل أن يستبدَّ زعيم عربي أو شرق أوسطي بشعبه، متدثَّراً بالعباءة الفلسطينيَّة، ومعتمراً الكوفيَّة الفلسطينيَّة. على الشعب الفلسطيني، أن يعي، بأن من يستبدُّ بشعبه، لن يصلح نصيراً لحريَّة الشعوب الأخرى. آن لهذا الشعب، أن يدير ظهره لباعة الكلام، وأن يقول: كفى، للمتاجرين بمحنته. والحقُّ أن ما تريده إسرائيل، هو أن يبقى الشعب الفلسطيني على حاله، تتقاذفه الأجندات الخارجيَّة، منقاداً لحملات التهييج والتأجيج، كي يبقى هذا الشعب الجريح، يعيش جحيماً، وقودها، أشلاء أبنائه، وكلام المتاجرين بقضيته.
أن ترشقَ إسرائيل أطفال غزَّة، وأن يرشق العرب والترك والكرد والعجم…، إسرائيل بالكلام الناقم، فيالها من عدالة!. أن تزيدَ إسرائيل هرساً وتنكيلاً بغزَّة الشهيدة، ونحن نزيد من الهتاف والزعيق، وتدبيج الخطابات، وصوغ القصائد، ورصّ الأغاني، وإحراق الأعلام، والشتم واللعن والتخوين…، فيالنا من جناة بحقِّ أنفسنا، قبل أن نكون جناة بحقِّ غزَّة!.
أيَّها النَّاس، أيَّها العالم، المدينة تذبح من الوريد إلى الوريد، بين المقاومة والاحتلال، وكلاهما يتحدَّثان عن النصر!. لا منتصر في الحروب إلاَّ الدمار والفواجع. وبعد كلِّ هذا الخراب المديد، لن نستغرب إنْ أتانا هاتفٌ من بين الركام، ليقول: إنَّه “النصر الإلهي” الثاني!!. ثم يطالب أقرانه، بدفع الأثمان السياسيَّة لهذا “النصر الإلهي” الذي أنجزه!. هكذا جرت العادة، أن نتحدَّث عن صرع العدوّ في بيوتنا، بعد أن نحوِّلها إلى مقابر لأطفالنا وللعدوّ في آن!. هكذا جرت العادة، لا يرهبنا ازدياد عدد قتلانا، لأننا ندفعهم حشوداً نحو الجنَّة!. لا نودُّ أن تتلوّث أرواح ضحايانا بآثام السياسة في هذه الدنيا الفانيَّة، لذا، ندفعهم جموعاً وأحاداً إلى محارق العدوّ. هكذا جرت العادة في الشرق الأوسط، أن ندفع بالشعوب والأوطان نحو مهالكها، فيالنا من أوطانٍ وشعوبٍ وقادة!. ربما، هكذا جرت العادة، أن نكون شعوباً، مقدورها أرقاماً “حقيقيَّة” في المظاهرات واستفتاءات الزعماء، وأرقاماً “وهميَّة” في أرشيف الحروب. لكنَّها الحربُ، الحربُ، الحربُ، القذرة، الدنية، فما نَفًعُ النصرِ فيها، إن كان ثمنها الإبادة.
المستقبل