: منطق القهر”الفقيه والسلطان، جدلية الدين والسياسة” لوجيه كوثراني
خالد غزال
احتلت العلاقة بين الفقيه والسلطان موقعا مركزيا في تاريخ الدولة الاسلامية منذ تكونها في العصر الاموي، فنشأت علاقة جدلية بين المؤسستين الدينية والسياسية اتسمت بتجاذب متواصل ينحو الى التوحيد احيانا والى الاستقلالية احيانا اخرى. لم ينفرد التاريخ الاسلامي بهذا النمط من العلاقات، بل ان تاريخ المسيحية ظل شاهدا على هذه العلاقة حتى مطالع العصور الحديثة. ففي الغرب المسيحي فرضت العلاقة بين الفقيه والسلطان مناقشة عميقة وصلت الى البحث في الدين والسياسة وموقع كل منهما في المجتمع، وهي مناقشة نحت منحى الفصل بينهما. أما هذه العلاقة فتشهد اليوم في المجتمعات الاسلامية اعلى ذرى الاندماج بين الدين والسياسة بكل ما يترتب عليه هذا من نتائج خطيرة على مسار الشعوب العربية والاسلامية.
يعالج وجيه كوثراني هذه العلاقة في كتابه “الفقيه والسلطان، جدل الدين والسياسة في ايران الصفوية – القاجارية والدولة العثمانية”، الصادر عن “دار الطليعة”، منطلقاً من تجربتين سلطويتين انحكم بهما التاريخ العربي والاسلامي منذ العصور الاسلامية الاولى اي الحكم الاموي مرورا بالحكم العباسي والدولة العثمانية ثم الدولة الصفوية في بلاد فارس. وهو شأن يطال المذهبين الرئيسيين في الاسلام، السنّي والشيعي. اذا كانت العلاقة بينهما اتسمت تاريخيا بالتوتر والصراعات على السلطة، الا ان ميدانا محددا كان يجمعهما يقوم على العلاقة بين السلطان او الامام من جهة والفقيه او العالم من جهة اخرى، وهي علاقة يحكمها السعي الدائم لوضع كل مجال سياسي وديني تحت سلطة الاخر. وقد تكوّن على امتداد التاريخ الاسلامي فقهاء نظّروا لهذه الجهة او تلك واطلقوا فتاوى في شأن العلاقة بين الدين والسياسة لا يزال العالم العربي والاسلامي يئن من وطأة آثارها السلبية.
في تناوله للعلاقة المتوترة بين المؤسستين الدينية والسياسية في الدولة العثمانية، يشير كوثراني الى انها وصلت في مرحلة من المراحل الى تحديد موقع الفقهاء في حيز القضاء والتعليم مع اعطاء هامش ضيق للفقيه بما يتيح له ابداء الرأي في بعض المسائل. يقول في هذا الصدد: “ان السلاطين جميعهم حرصوا على تثبيت هذا الجانب في علاقتهم بالفقهاء وتطويره. فالسلطنة كأمر واقع وظاهرة تاريخية، كانت تذهب، معزولة عن سياقها الشعبي والتعبوي، اي معزولة عن الامة والجماعة التي تدّعي تمثيلها، نحو حكم علماني دنيوي قد يختلف عن احكام الشريعة. وجاء حل هذا الاشكال على يد السلاطين العثمانيين من طريق الاقتراب من ذاك السياق الشعبي والتعبوي، والتقرب من ممثلي الحالة الاسلامية التي تعيثها الجماعة، اي الفقهاء والعلماء ومشايخ الصوفية، واقتران السلطان بأسماء ومظاهر تبرز فيها معاني التقديس والتدين”. عنى تنظيم العلاقة بين الفقيه والسلطان ايجاد تكامل وظيفي بين الطرفين من دون ان يؤدي الى الفصل بين السياسة والدين، ولا الى عملية الدمج بينهما.
لكن منطق قيام الدولة العثمانية على الغلبة والقهر لم يكن يسمح للفصل بين الدين والسياسة بمقدار ما كان يستوجب توظيف الدين في خدمة نظام الغلبة هذا. لذا كان على الدولة العثمانية ايجاد قوانين واجهزة ومؤسسات تتيح لها استيعاب العلماء والفقهاء في هذه المؤسسات بما يؤمّن حسن الرقابة والسيطرة على الفكر. وهو أمر نجحت فيه الدولة العثمانية بأن جعلت المؤسسة الدينية تقوم بحماية الاستبداد السلطاني، “وصولا الى تأسيس قطاع من الاستبداد الديني في الدولة والمجتمع، وهو قطاع وصل الى حد استخدام الدين في السياسة المدنية وفي التحكم بلعبة البلاط، وفي لجم حركة الفكر والرأي والاجتهاد في المجتمع”.
لا تختلف الدولة الصفوية القائمة على المذهب الشيعي كثيرا عن خصوصيات الدولة السنية لجهة العلاقة بالمؤسسة الدينية، فشاهات الاسرة الصفوية كانو يهدفون قبل كل شيء الى اقامة دولة مركزية قادرة على توحيد الداخل ومقاومة ضغوط الخارج. ومن اجل ذلك كان لا بد من نظام ملكي مطلق انما مسيّج بمؤسسة دينية تعمل في خدمته. لذا عمل الصفويون على تسريع عملية التشيع في ايران، ساعدتهم في نجاحها سلسلة ممارسات ومظاهر قامت على الترهيب والترغيب، واستخدمت شعائر ورمزيات مثل “مظاهر التقديس التي احيطت بها المقامات والمزارات العائدة الى الأئمة، والمظاهر الطقسية المؤثرة للشعائر الحسينية في عاشوراء وكربلاء” وغيرها. وسارت الاسرة القاجارية على مثال سابقتها الصفوية من حيث احتواء العلماء والفقهاء في اطار مؤسسات، وتقديم كل وسائل الترغيب لهم. لكن الوقائع التاريخية تبرز التناقض الذي ظل قائما بين المؤسستين، بما فيه عجز الشاهات عن تطويع المؤسسة الدينية بالكامل من دون ان يعني انها فقدت شيئا من التأثير عليها. يشير كوثراني في هذا الصدد الى أنه “منذ اواخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر الميلاديين، وبفضل جهود محمد باقر البهبهاني وآخرين، فرضت المدرسة الاصولية الاجتهادية نفسها على توجهات الحوزات العلمية لدى الشيعة الامامية. ولم يكن الموقف الاصولي هذه المرة متصالحا مع الشاه او تابعا له كما كانت الحال في حالتي الكركي والمجلسي ايام الصفويين، بل كان ندا منافسا له من خلال تأكيد دور “المجتهد” وتكريسه مرجعا يتزعم حوزته العلمية المستقلة، وله مقلدوه الكثر في اوساط الشعب”. ساعد في هذا التمايز ما كان يقول به علماء الشيعة من مهمات منوطة بالاصل بالامام المعصوم، حيث هناك وظائف محدودة يتولاها الفقهاء بوصفها جزءا من ولاية الامام، فيما تبقى “القوة العاصمة البشرية” “مرتبطة بقوة المجالس التمثيلية في هذا العصر التاريخي من دون ان يلغي ذلك دور “مرجع التقليد” في الحوزات العلمية الكبرى وفي المجتمع، في مجال فقه العبادات والمعاملات”.
تؤكد التجربة التاريخية للحكمين السني والشيعي على السواء ان من الصعب المحافظة على استقلال المؤسسة الدينية عن السياسة، بل ان المنحى الذي غلب ولا يزال يتصاعد اليوم هو في إلحاق الدين بالسياسة وتوظيفه في الصراعات السياسية والاجتماعية على أيدي جميع الاطراف على السواء، وهو أمر يفاقم الحروب المذهبية التي لم تنقطع ذكرياتها على امتداد القرون السابقة. واذا كان من دروس لا بد للمجتمعات العربية والاسلامية ان تتعلمها، فهو ضرورة الفصل بين السياسة والدين وتعيين موقع كل واحد حيث هو فعلا، مما يطرح مسألة العلمانية بإلحاح وفصل الدين عن الدولة كواحد من شروط تقدم المجتمعات العربية والاسلامية وتجاوز صراعاتها المذهبية.