وثائقي مجزرة.. أنت تحدد صاحب الدم الذي استحق الهدر
سحر مندور
كانوا مراهقي شوارع، يتعاطون كل ما توفر من المخدرات، يمارسون زعامة ضيقة، ويقضون الزمن في الشارع، فيه يأكلون وينامون. بشير، منحهم بزة عسكرية وجعل لهم رتباً، اختار من بينهم <<الزبدة>> وأسماها فرقة <<الصدم>>. هذا الرجل.. لقد أتاهم منقذاً. بشّرهم بأن ما يتقنونه في الحياة (العيش على هامشها) يمتلك دوراً هو الأكثر محورية فيها. شعار فرقة <<الصدم>>: <<حيث لا يجرؤ الآخرون>>. هل تذكرون؟
ستة منهم حلوا ضيوفاً على وثائقي <<مجزرة>> لمونيكا برغمان ولقمان سليم وهرمن تيسن (إنتاج مشترك لبناني ألماني فرنسي سويسري وحائز على جائزة فيبريسكي في مهرجان برلين التي يمنحها النقاد العالميون).
وتكمل الرواية: حان موعد التقدم باتجاه الهدف. ارتدوا البزات العسكرية الخاصة بجيش الدفاع الإسرائيلي وأُمروا بألا ينطقوا بالعربية عندما يركن القارب إلى الرصيف البحري. وصلوا حيفا. كم من أبناء حيفا المبعدين سيشعرون بالغيرة هنا؟ في العام 1980، عرف لبنانيون في الخامسة عشرة من العمر حيفا، دخلوها مبهورين، فيها شاطئ للعراة، فيه تدربوا بإمرة ضابطة، أنثى، عارية، وهم لم يلمسوا إمرأة بعد. هذا ما اقترحته الحياة عليهم قبل أن يبلغوا الرشد فيها.
وخضعوا للتعذيب كي لا ينهاروا أمام التعذيب إن تعرضوا له على يد العدو. هل يتغيّر معنى التعذيب، الجسدي والنفسي، إن خضعت له على يد حليف أو على يد عدو؟ الألم هو ذاته على الأرجح، لكنهم لن يخشوه إن صادفوه في المرة التالية.
ساعة ونصف الساعة قضوها في صالة عرض خاصة يتابعون أفلاماً تستعيد المحرقة والمعسكرات النازية (يتخللها مشاهد لشارلي شابلن، من باب التخفيف عن النفس ربما). يتحدث <<الجندي>> اللبناني عن ألمانيا والمعسكرات بصفتها أحداثاً بعيدة بُعد ألمانيا عن لبنان وبُعد الحرب العالمية عن سني عمره. تمنى لو شاهد بدلاً منها أفلام كاوبوي، أو بورنو. كما أنه يسمي الإسرائيليين: <<اليهود>>. لماذا؟ لأن اسرائيل هو اسم الأرض، وهم يهود يعيشون فوقها في هذا الزمن. يبدو أن الإسرائيليين اقترحوا على فرقة <<الصدم>> في <<القوات اللبنانية>> حلفاً إيديولوجياً، في حين أن <<الصدم>> لم يجدوا في <<اليهود>> أكثر من: حلف مؤقت بلا عاطفة، لأنهم <<قتلوا لي المسيح>>.
عادوا من إسرائيل بملابس عسكرية أنيقة تترجم تفوقهم على بقية المحاربين وعلى المجتمع بأسره.
حالة جهوزية عالية مطلوبة منهم، فالحليف الإسرائيلي سيجتاح العاصمة بيروت. سيسلمهم الحكم. ألا يشي ذلك بتدخل إلهي؟ مَن كان ليسائل نفسه لو وثق بأن الله معه؟
وبات المنقذ رئيساً للجمهورية، وبات العسكري عماداً للجمهورية، وتحوّل <<الحلم>> إلى <<حقيقة>>. وقُتل بشير الجميل.
يؤكد أحدهم أن وفاة والدته لن تؤثر به إلى هذا الحد. من قتله؟ الفلسطينيون. المسألة واضحة. مَن ينتظر نتيجة تحقيق دولي عندما تكون المعادلة على هذا <<الوضوح>> في أعين <<اليتامى>>؟
والاغتيال تم بيد تشبه يدك، <<صدم>> لكن بتسمية مختلفة، منافسك إلى المجد، ولقد سلبك هو أداتك الوحيدة لبلوغه. سلبك أصلاً مَن زرع فيك الأمل بإمكانية بلوغه.
الغضب مكان الحزن، الأمر العسكري صدر: نتوجه ليلاً إلى صبرا وشاتيلا. نوجه رسالة مفادها.. مفادها.. لا يعرف الجندي مفادها، وتلقى الأمر بقتل كل حياة تصدفه. سألوا مستغربين: الكل؟ نعم، الكل. قليلون جداً من بينهم كانوا الذين رفضوا المشاركة. قليلون فعلاً لكنهم يؤكدون أن الأمر، حتى ولو كان عسكرياً، يمكن أن يُرفض. المهم، ممنوع أن يبقى حي يروي. وهو الانتقام. فلقد <<قتلوا لي المسيح>>، مجدداً.
إسرائيليون ينتظرون فوق أرض المطار اللبناني، منحوهم العدة كاملة، منحوهم أيضاً أكياساً بلاستيكية وطلبوا منهم الاحتفاظ بها. إيلي حبيقة هو الآمر الواقف إلى جانب الإسرائيلي، مارون مشعلاني هو القائد الميداني الذي يفخرون بتقدمه لرجاله في كل معركة. تقدمهم إلى داخل المخيم، ثم خرج. هل انتبهوا جيداً إلى أنه خرج؟ ولم يتبق في المخيم إلا رجال يقتلون رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً وقططاً وأحصنةً وكلاباً، رجال يقتلون كثيراً وآخرون يموتون كثيراً.
تابعوا القتل على بحر 3 أيام في أرض عاجزة تماماً عن مقاومتهم. ولو لم يكن الفلسطينيون على هذه <<الكثرة>> لما طالت المجزرة. قال إنهم في لحظة العطش أو الجوع، فتحوا باب محل تجاري عنوة. الكهرباء لا تصل المخيم، <<بدائيون>> (لا أكثر)، لكنهم حفظوا العصير بين الثلج كي يُبرِد العطش. هل تخيّل صاحب الدكان أنه يدلل عصيره كي يشربه في المساء قاتله؟
مشهد لم أنسه؟ نعم، حين دخلت إلى غرفة بهدف قتل كل مَن فيها فوجدت مَن فيها أمواتاً، أب وأم وطفلين، يمسكون أيدي بعضهم البعض.
وتلك الفتاة.. خرجت تولول كما نساء المخيم.. تلك الضجة الصادرة عن النساء.. تبكي شقيقها ووالدها، فوجدت مقاتلاً يأمرها بخلع ملابسها. فبكت وهي تلين قلبه: أنا عذراء. فضّ بكارتها من دون أن يخلع هو ملابسه، ووضع الرصاصة في رأسها. تلك الفتاة.. كيف تذكرت عذريتها؟! وخسرت 3 جولات في ضربة واحدة: لم تعد عذراء، باتت مغتصبة، وانتهت قتيلة. أنّبه رفيقه الحاضر في الفيلم كونها <<مقرفة، وسخة>>. أجاب بأنه يحتاج الجنس ولن يجده في مكان آخر.
أحدهم وليس حاضراً في الفيلم كان يذبح الفلسطينيين بدلاً من إطلاق النار عليهم. هو لحام، يشرح زميله. <<وفي لحظة معينة لا يختلف الخروف عن البني آدم>>. يبحث المتحدثون لأنفسهم عن الموقع الأقل <<اندماجا>> بالمجزرة والأقل التصاقاً بلحم الميت، لم يلمسوه. لكنهم، لا يفتأون يبررون ل<<الملتصق>> قدرته على <<الالتصاق>>. هذا لحام، وذاك يفتقر إلى الجنس. المشكلة أن الفتاة العذراء لم تعد هنا لتغفر له. المشكلة أصلاً أن لا أحد في الوثائقي يطلب غفرانها. متململون من مجزرتهم، نعم. فالدم يلوث الملابس وقد يصيب <<وسخه>> الروح. لكن هذا لا علاقة له كثيراً بالضحية. هذا شأن بين القاتل والقتل، فحسب. إنها دروس التعذيب النفسي والجسدي ولقد أتت بثمارها. فاعتبر أحدهم <<استعادة القصة>> بديلاً كافياً عن المحاكمة والعقاب لقسوتها.
وهناك آخر يأسف كثيراً لقتل الأحصنة، إذ أنها ليست كالطفل الذي في بطن أمه، <<سيكبر يوماً ما ليقتلني>>. لكن زميله الحاضر في الوثائقي لم يأسف لقتله الشاب الذي حاول الفرار. أمرته بالوقوف إلى الحائط. أخرجت السكين من موقعه في البدلة، قطعت جلده حتى بان لحمه الأبيض على طول البطن، ثم على عرض العنق: <<خرغرخر>>، يقلده مذبوحاً. ثم غرزت السكين في خاصرته، أنهيته. الرصاصة لا تؤلم. وأنا، باسم بشير، أبلغته أني أعاقبه.
يمكنك أن تتخيل القتل يتقدم إلى الأمام، ولا ينظر إلى الخلف. لكن الإسرائيلي الصريح، بأكياسه البلاستيكية، يبلغك منذ البدء أنك ستخلّف وراءك <<وسخا>>، وليس <<عدالة>>، وعليك أن تنظفه كي لا يُنسب <<الوسخ>> إليه. عليك أن تعود لتشم الرائحة وتلمس الدود، ترفع جثة عدوك الأعزل من السلاح ومن الحياة، ستعتاد عدوك على هذه الصورة.
والجملة الختامية المكتوبة على الشاشة تقول أن عدد ضحايا المجزرة لا يزال غير محدد، وهوية قاتل بشير لا تزال غير مؤكدة، وقانون العفو العام طال الجميع.
ولم يذكر الوثائقي أن قلة من الضحايا الذين بقوا على قيد الحياة طالبوا المجتمع الدولي (ذاته ومؤخراً) بالعدالة، فمنعتها الولايات المتحدة الأميركية عنها.
غريب ومؤلم هذا الشعور الذي يعتريك لحظة يؤكد القاتل أن الضحية لم تحمل سلاحاً. تشعر بأن الميت إن كان أعزل يستحق أن تنتصر له. لكنه ميت. ربما لو حمل سلاحاً ما كان ليكون ميتاً. لكن، هل كنت حينها ستنتصر له؟!
القاتل على حق: الكلام بات عقاباً كافياً. وذلك نتيجة مباشرة للصمت المسيطر. يوم قيل لنا إن عنجر تحوي مقبرة جماعية، بدأت ألسن المواطنين تكشف عن مجاورتهم لمقابر أخرى، في العاصمة وخارجها، جماعية أيضاً، فوجب إقفال الملف. هذا كلام لا تحتمله سلطات قامت على مكافأة كل من وجّه الأمر بالقتل فمنحته منصب <<الزعيم>>، وليس النائب أو الوزير فحسب. كما أن القاتل حصل بدوره على مكافأة، بات موظفاً في الدولة اللبنانية (بفعل <<قانون>> ضم الميليشيات إلى أجهزة الدولة).
هو يحيا بالقرب منك، يعالجك رسمياً ويعاقبك أمنياً. ولم يخسر قوامه الرشيق وعضله المفتول. ولم يطلب الغفران، فالعفو العام عفاهم حتى من عذاب الضمير.. عفاهم حتى من التردد.
هؤلاء الستة.. ليسوا <<فصيلة>> مختلفة عن بقية المواطنين، قصصهم تروي أنهم جزء منا. تكفلهم زعيم، مثله مثل الذين نحيا في كنفهم اليوم فباتوا <<القتلة>> أو <<الأبطال>>. والفرق شاسع، لكننا اعتدناه. كيف اعتدناه؟!
نحيا فوق مقبرة كبيرة، وهذا قول بات شائعاً أيضاً. شيوعه يهدف إلى سلبه معناه. ومعناه يفيد بأن سقوط
<<الشهيد>> يكفي لاعتماد أساليب الانتقام كافة. ونحن اليوم نحيا بين <<الشهداء الجدد>> وكلهم <<أحياء فينا>>. ومَن يحدد <<حجم>> الانتقام، بعدما اعتُبر الانتقام قانوناً سارياً في بلدي؟ ومَن يريد أن يتذكر الحرب (أو يتوب عنها) طالما أنها تحوّلت إلى مساحة غامضة من الزمن اللبناني، كان الجميع فيها على حق.
نعيش فوق أرض تفوح منها رائحة الدماء، فيتعطر ممثلونا الرسميون كثيراً كي يساعدونا على ألا نشمها. فيها ذكرى كل من مات وقتل، كل من أمر وابتسم لنصر، كل من اغتصب وعاد فتزوج وأمر زوجته بألا تنام مع سواه، كل من حاول أن ينسى وشبّه له النسيان.
تتابع الوثائقي فتخاف كثيراً. تخاف تلك الاستقالة من العقد الاجتماعي التي شهدتها أرضي، وتخاف أيضاً من كونك لا تنظر إليه على أنه توثيق لماض. أنت تعرف تماماً حجم الرعب الذي يعتريك لو زرت ساحة ساسين في لحظة <<استشهاد>> ولم تكن من <<طائفتها>> أو زرت الضاحية الجنوبية في لحظة <<مقاومة>> ولم تكن من <<طائفتها>>. وأقوال المقاتلين تفنّد لك خوفك هذا وتمنحه شرعية الوجود. أقوالهم تسلبك تلك الخفة في التعامل مع <<الخوف>>. وأنت تكره الطرف الآخر، تكرهه كما لم تكرهه منذ 15 عاماً. ويبدو في عينيك شوقك إلى هذا الكره. إن كنت تثق بأنك لن تحمل البارودة، تماماً كما فعل <<أبناء العائلات>> قبلها، ثق أيضاً بأن هناك من سيحملها لك، مثلما فعل <<سكان الفقر>> قبلها. وقد تصبح أنت موجّه الأمر. وقد تموت. وقد تقتل. ستعتاد رائحة الدماء. وقد يستحيل عليك مصاحبة تلك الفتاة التي تهواها. هل تغتصبها حينها؟ وقد تقتل شظية ابنتك وهي في الرابعة من عمرها.. أو ربما في السابعة عشرة من عمرها. هل ستبقى في البلد الذي تتطرف في <<حبه>> حينها؟
القاتل يحتاج هوية لقتله، أنت تمنحه إياها بعصبيتك. القاتل يحتاج دماً يسيل كي ترتفع قيمة دمه، وأنت تحدد له صاحب الدم الذي لا يستحق إلا الهدر. فإن أردت التطرف في الرأي وإخراس الصوت الذي لا يشبهك، إعرف أنك تقتل. وتغتصب. وتفض بكارة. وتذبح. أنت، في رغبتك بالانتقام وفي عدم إيجادك أي مغزى لكلام الآخر، تشق صدر فتى، وتسخر من صوت احتضاره، باسم بشيرٍ ما.
هذا هو الرأي في بلادي. فهو ينمو فوق مقبرة جماعية. كالوردة، تنمو <<حرية التعبير>> فوق ألسنٍ أصدرت الأمر بتنفيذ مجزرةٍ ما