أجندة ما بعد الحرب على غزة
د.محمد السعيد إدريس
لجوء إسرائيل إلى اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار، والانسحاب التدريجي المنفرد من قطاع غزة، يكشف عن مجموعة من الحقائق المهمة التي تتعلق بدوافع هذا القرار ونتائجه، وهي حقائق ينبغي أن تكون لها تأثيراتها على مجمل الرؤى والأفكار العربية التي تتعلق بمضمون الأجندة العربية في مرحلة ما بعد الحرب على غزة.
أولى هذه الحقائق أن هذا القرار يمكن وصفه بـ«القرار الهروبي»، فهو قرار هروبي من التزامات كان يجب الالتزام بها ضمن التعاطي الإسرائيلي مع المبادرة المصرية، وبالذات ما يتعلق بشروط والتزامات التهدئة الطويلة المرغوبة، وما يتعلق بتأمين الفتح الدائم للمعابر. وقف النار والانسحاب بقرار إسرائيلي منفرد أعفى إسرائيل ولو مؤقتاً من كل تلك الالتزامات.
ثاني هذه الحقائق يتعلق بإدراك إسرائيل مدى تآكل فرص تحقيق نصر يمكن التباهي به، خصوصاً مع تدني شعبية إسرائيل عالمياً، واقتراب موعد تسلم الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة باراك أوباما لمهامها الدستورية. فالانقسام الإسرائيلي الحاد الآن حول تقييم الحرب، واختلاط ما هو موضوعي بما هو دعائي انتخابي، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المبكرة، جعل القيادة الإسرائيلية تسرع في إنهاء العملية بالحد الأدنى من الخسائر. كما أن إسرائيل أرادت أن تتفادى حدوث صدام مبكر مع إدارة أوباما أو أن تجعل عبء هذه الحرب بكل سلبياتها على أجندة الإدارة الجديدة وهي تتلمس طريقها نحو بلورة مقاربة للتفاعل الإيجابي مع الصراع في الشرق الأوسط.
الدور الاميركي
أما ثالث هذه الحقائق فيتعلق بالدور الأميركي في هذه الحرب. فالإدارة الأميركية (إدارة جورج بوش) لم تكتف بإعطاء إسرائيل كل ما لديها من أسلحة متطورة وفتّاكه، ولم تكتف بوضع قواتها العسكرية في قاعدة العديد (قطر) تحت أهبة الاستعداد لتأمين غطاء جوي قوي لإسرائيل في حال تعرضها لأي خطر، ولكنها بادرت بإلزام نفسها بمهمة حماية أمن إسرائيل، وذلك بتوقيع وزيرة الخارجية الأميركية (السابقة) كوندوليزا رايس مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني قبيل ساعات من إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار على اتفاقية تلزم الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بملاحقة واعتراض شحنات الأسلحة إلى غزة من إيران أو من غيرها.
واضح من هذه الاتفاقية الأمنية أنها تعطي مهمة فرض حصار عسكري على قطاع غزة لحلف شمال الأطلسي وبدور قيادي أميركي، وأن هذا الحصار سوف يبدأ من الخليج العربي امتداداً إلى بحر العرب ثم خليج عدن فالبحر الأحمر، كما سينتشر أيضاً على طول السواحل الإسرائيلية في البحر المتوسط بما يعني توفير مظلة حماية بحرية أطلسية لإسرائيل. وهذه الاتفاقية بهذا المعنى تعتبر تنفيذاً للخطة التي سبق أن أعدها حلف الأطلسي ضمن مسعاه للحرب ضد الإرهاب والمعروفة بخطة «السعي النشط» من خلال التركيز على تفتيش السفن والعمليات الاستخباراتية وغيرها.
محاولة لتوريط مصر
بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن التوقيع على هذه الاتفاقية جعل مهمة حماية أمن إسرائيل مهمة أطلسية بالدرجة الأولى، كما أنه سيفرض حالة «عسكرة» غير مسبوقة في المنطقة بكل ما يعنيه ذلك من رفع لدرجة التوتر التي قد تؤثر سلباً على مساعي السلام المأمولة من جانب الأطراف الراغبة فيه.
الحقيقة الرابعة تتعلق بمصر، فعلى مدى أيام الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم يضيع الإسرائيليون أي فرصة للحديث الصريح أو الاكتفاء بالتلميح عن قبول مصري أو تفهم مصري لما تقوم به إسرائيل، انطلاقاً من معلومة وجود خلافات قوية بين مصر وحركة حماس. وبعد أن تأكد الإسرائيليون من خلال مفاوضاتهم مع المصريين حول المبادرة المصرية جدية الموقف المصري الرافض للحرب والحريص على تأمين وقف سريع لها والمطالب بانسحاب القوات وفتح المعابر، وتفهم مصر للتحفظات التي قدمها وفد حركة حماس، لجأ الإسرائيليون إلى سياسة الهروب والتوريط. هروب من الموافقة على المبادرة المصرية، حرصاً على عدم الالتزام بأي مطالب لحركة حماس، وتوريطاً لمصر في مسؤولية منع تهريب الأسلحة عبر الانفاق على طول الشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزة، وإحراج موقف مصر بالنسبة لمسألة تأمين الفتح الدائم للمعابر. بمعنى آخر نستطيع أن نقول إن قرار الانسحاب الأحادي جاء في جانب منه كمحاولة لتصدير الأزمة إلى مصر والحيلولة دون حدوث أي توافق بين مصر وحركة حماس.
العرب واستحقاقات مابعد الحرب
هذه الحقائق كلها تزيد من العبء العربي في مرحلة ما بعد وقف الحرب، في لحظة يدرك فيها كل العرب أنهم متهمون بالتقصير، حسب ما جاء في الكلمة الصريحة للملك عبدالله بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية. فالواضح أن تيار الممانعة يشعر بمدى عجزه عن القيام بفعل حقيقي كان في مقدوره وقف الحرب وردع المعتدي، تيار الممانعة العربي لم يستطع تجاوز نطاق التعبئة الشعبية والإعلامية ضد الحرب وضد تيار الاعتدال. لذلك لم تستطع قمة الدوحة التي سبقت قمة الكويت اتخاذ خطوات فعلية قادرة على وقف الحرب أو ردع إسرائيل باستثناء الدعوة إلى مجرد «التجميد دون الإلغاء أو طرح البدائل»: تجميد العلاقات، وتجميد مبادرة السلام.
أما تيار الاعتدال فهو الآخر يشعر بالتقصير لأن اعتداله لم يشفع له لا عند إسرائيل ولا عند الصديق الأميركي، خصوصاً بعد أن تجاوزت تلك الحرب الإجرامية الحدود الضيقة للعملية التي كان يتصور أن تكون مجرد عملية تأديب لحركة حماس وتحولت إلى «حرب إبادة» للشعب الفلسطيني، وبعد أن اتسعت فجوة انعدام الثقة بين الشعوب والحكومات العربية التي بدت فيها الحكومات عاجزة ومشلولة، في وقت كانت تغلي فيه دماء الشعوب التي وجدت نفسها محاصرة عن الوصول إلى الأشقاء في قطاع غزة، أو حتى التواصل معهم بالمساعدات والدعم اللازم للصمود.
إدراك التقصير العربي يمكن أن يكون بداية لمراجعة حقيقية للموقف كما هو الآن على ضوء تلك الحقائق التي تحدثنا عنها، وفي ضوء نجاح المقاومة في اختبار «الصمود»، وهو النجاح الذي أعاد المصداقية مجدداً لخيار المقاومة، وجعل القادة يقرون بشرعيته وضرورته في قمة الكويت.
فعلى ضوء الحقائق الجديدة، على الصعيد الإسرائيلي التي تقول إن أمن إسرائيل أصبح مهمة أطلسية وبالتحديد مهمة أميركية – أوروبية، وعلى ضوء الحقائق الجديدة على الصعيد الفلسطيني التي تؤكد عودة الثقة في خيار المقاومة، أضحت المراجعة العربية المطلوبة مطلباً حتمياً، ولكنها مراجعة للخيارات الاستراتيجية وإعادة قراءة للواقع الإقليمي والدولي وبالذات مجيء إدارة أميركية جديدة تعطي تلميحات باحتمال تقديم مقاربات مختلفة لحل الصراع العربي- الإسرائيلي باتجاه التسوية.
مثل هذه المراجعة مطالبة بوضع أجندة عمل عربية جديدة قادرة على إدارة الصراع مع الطرف الآخر: الإسرائيلي والأميركي والأوروبي على قاعدتي: توازن الردع وتوازن المصالح.
هشاشة الردع العربي
فقد كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة مدى هشاشة القدرة العسكرية العربية، وقصورها عن تأمين القدرة على ردع إسرائيل ومنعها من القيام بالعدوان، وامتلاك القدرة على الردع لا يعني التورط غير المحسوب في الحرب، بقدر ما يعني منع حدوث الحرب، على غرار الحال الراهن بين إسرائيل وإيران. فرغم الحرص الإسرائيلي على شن حرب سواء كانت أميركية – إسرائيلية، أو إسرائيلية فقط على المنشآت النووية الإيرانية، إلا أنها لم تستطع أن تحقق هذه الرغبة بسبب الرفض الأميركي للتورط في مثل هذه الحرب.. فحسابات أميركا العسكرية في العراق وأفغانستان منعت إدارة بوش من الموافقة على شن حرب ضد إيران، وحسابات إسرائيل لقوتها المنفردة تحول دون تمكينها من شن الحرب، وهنا نستطيع أن نقول إن إيران استطاعت أن تمنع قرار الحرب ضدها لأنها امتلكت القدرة على الردع أو حققت توازن الردع، وهو التوازن الذي أضحى العرب في حاجة ماسة إليه لتحفيز إسرائيل على القبول بخيار السلام.
كما أن العرب في حاجة أيضاً إلى إدارة الصراع مع الأطراف الثلاثة: إسرائيل وأميركا وأوروبا على قاعدة توازن المصالح، بامتلاك خطاب سياسي قوي، أقرب إلى الخطاب العربي إبان حرب أكتوبر 1973، يقول إن استمرار علاقات التعاون السياسي والاقتصادي بين العرب وهذه الأطراف سيكون مرهوناً بالتحرك الفعال لتحقيق تسوية عادلة للقضية الفلسطينية التزاماً بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة.
المزج بين إدارة الصراع مع إسرائيل عن طريق توازن الردع ومع الأطراف الثلاثة على قاعدة توازن المصالح يمكن أن يعطي للعرب القدرة على الإنجاز الذي غاب طيلة الأسابيع الثلاثة للحرب، شرط استعادة وحدة الموقف وخاصة استعادة مثلث القوة بين: مصر والسعودية وسورية، ودمج كل من تركيا وإيران في حزمة عمل إقليمي مشتركة قادرة على الحوار الفعال مع الأميركيين والأوروبيين ومخاطبة إسرائيل بلغة تستطيع أن تفهمها، غير لغة الاستجداء والمناشدة التي لم تعد تجد آذاناً صاغية عند مجتمع إسرائيلي، توحد حول قرار الحرب ضد قطاع غزة، ولم يجد أن يصفها بأفضل من الزعم بأنها «حرب عادلة».
كاتب من مصر