عنصرية ودونيّة… خطاب وخطابة
موفق نيربية
أصبح عادياً سماع أرقام نتائج الحروب والمعارك العربية مع إسرائيل بطريقة لم يعرفها غيرنا، فأن نخسر مئة إنسان من غزة الصابرة مقابل إسرائيلي واحد أو أكثر بقليل، أمر لا يراه بعضنا متعارضاً مع خطاب الانتصار والفتوحات. بل هناك أيضاً من يقول لو استمرّت الحرب لأكثر من ألف عام لبقينا نقاتل، مع أنها كره لنا نحن البشر، وهذا هو تركيبنا، ويقول غيره إن القتال لن يتوقف حتى لو أدى ذلك إلى إبادة أهل غزة، أو ما في معناه في الاقتباسين.
لقد جرت 29 عملية تبادل للأسرى بين العرب والإسرائيليين منذ عام 1948، أولها عام 1954 وفيها أربعة إسرائيليين وجثة مقابل 41 عربياً، وفي عام 1957 أربعة إسرائيليين مقابل 5500 عربي، وآخرها عام 1984 حيث أُفرج عن ستة إسرائيليين مقابل 311 عربياً، والبقية من هذا القبيل.
وتبرز في عمليات التبادل بين المقاومين الفلسطينيين أو «حزب الله» وإسرائيل مثل هذه الأرقام أيضاً، ففي عام 1985 أفرجت إسرائيل عن 1150 أسيراً فلسطينياً ولبنانياً وعربياً مقابل ثلاثة إسرائيليين، كما أفرجت في عام 2004 عن 436 لبنانياً وعربياً مقابل ثلاث جثث وضابط احتياطي.
في الحروب العربية الإسرائيلية، مع الجيوش أو مع المقاومات، كانت النتائج من هذا النوع، إلاّ في القليل القليل، في حرب لبنان 2006، كان من الممكن رؤية نتائج فاجعة في عدد ضحايانا، وأمامنا حرب غزة أو مجزرتها. ولن ينتقص من احترامنا لأولئك الصامدين وما يُلحقونه من أذى بالإسرائيليين لا بدّ أن يُصيبهم وهم في فورة عدوانهم، أن نلفت الانتباه إلى بعض الخواطر، لعلنا نغفل عن مشاهد القتل والدمار قليلاً.
أولها ما يتعلّق بالعنصرية، أو بالتمييز العنصري الذي لا تُميّز وثائق الأمم المتحدة الأساسية بينه وبين التمييز العرقي، فالعنصرية هي الاعتقاد بأن العرق هو ما يحدّد سماتِ البشر وقدراتهم، وأن الفروق العرقية تنتج تفوقاً وراثياً عند عرق بعينه، والعنصريون يمكن أن يكرهوا جماعة معينة من الناس تختلف عن جماعتهم، أما في حالة العنصرية المؤسساتية، فيمكن لجماعة عرقية أن تُحرم من الحقوق والمنافع العامة، أو تحظى بمعاملة تفضيلية.
لقد اعتدنا عنصرية الغرب أو بعضه في الأمور التي تخصّنا، فهو مستمر في رؤية «الظلم» الذي يحيق بالإسرائيليين (الآن) في ظلّ المحرقة التي ما زال يعاني آثارها وعقدة الذنب تجاهها، ورغم إدراكه في بعض لحظاته الأخرى ضرورة إنهاء ما حاق بالفلسطينيين من ظلم، درءاً لنتائجه المنقلبة عليه تطرفاً أو إرهاباً.
ولعلّ عنصرية الغرب الأخرى التي يجب الإشارة إليها وعدم نسيانها أيضاً، تظهر في سياساته في منطقتنا، وبنائها على أن الاستبداد هو الحل لضبط الأوضاع وتسكينها، وإبقائها مستقرة قابلة للتحكم وضمان أمن إسرائيل والمصالح النفطية. أي أنه يرى في الشعوب العربية بيئة غير قابلة للمدنية والديمقراطية والحداثة، من النمط المعاصر الذي ينطبق على كلّ شعب، فيأخذ الحكام (ونخبة معينة أخرى) قوة ويجرؤون على نشر إيديولوجيا «الخصوصية» و»مواجهة الغزو الثقافي الغربي» و تقاليدنا. ينطلقون من إغرائنا بأننا أمة مختلفة وخير الناس- وتلك عنصرية- إلى أن يقابلوا عنصرية الغرب، بعنصرية مضادة، هي دونية من دون شك.
فليس طبيعياً أن نعتبر معادلة الضحايا بيننا وبين إسرائيل على هذه الطريقة، بل الأجدى أن تجري المواجهة بإبراز الجانب العنصري في سلوك إسرائيل ومن يدعمها، نلجأ إلى القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان واتفاقية جنيف والضغوط المدنية، فذلك سلاح يؤمّن ضغطاً أقوى- في بلادهم، وفي ظروفنا- وهو أمضى من الرصاص في الألفية الثالثة.
أمّا الظاهرة الأخرى القديمة الجديدة، فهي انتعاش الشفوية في ميدان الخطاب العربي، أو لعلها غلبة الخطابة على الخطاب، هذا شائع يكاد يكون سائداً في المجتمعات العربية عموماً، يتورّم في الأيام الحارّة، أو في «أيام العرب» المعاصرة.
الوسط المعني هنا بالنقد هو النخبة السياسية-الإعلامية، التي تجد متنفسّاً لها في أوقات المصائب، فتملأ الجوّ وتغلقه بالمأثور من الخطاب أو الموروث منه، لتدفع بمن يحاول الحفاظ على عقلانيته أو يخاطبها عند غيره إلى الزاوية الضيقة، فلعلّ باحثين في المصطلحات والكلمات يجرون دراسة على ما يغلب في الفضاءين السياسي والإعلامي في مثل هذه الأيام. نحن نلمس جملاً وكلمات وحروفاً مكررة، ونراها تتطاير فوق رؤوسنا، حتى تكاد تحجب الأفق.
ليس صحيحاً أن يُقال «العرب ظاهرة صوتية» إلاّ في لحظة غضب معذورة، لكننا نرى وجوهاً تغيب في أيام الجهاد الأكبر، وتحضر على إيقاع الطبول الذي لم يذكره الفراهيدي بين بحوره.
* كاتب سوري