صفحات ثقافية

حمّام بغدادي لجواد الأسدي: الضراوة المتقشِّفة يرطّبها الحنين المجروح

null
ممثلان، نضال سيجري وفايز قزق، أخوان، أصغرهما نضال، يتنازعان بضراوة متقشفة للسيطرة على الفضاء السينوغرافي لـ”مسرح بابل”، الحمراء، بيروت. عنوان العرض “حمّام بغدادي” للمخرج العراقي المتلَبْنَن منذ تقاسمه مع ريمون جبارة جائزة الابداع في أيام قرطاج المسرحية. شرسٌ هو جواد الاسدي، ويكاد يبدو وحشياً في بعض ابتكاراته، انما هي وحشية مرطّبة بمثل حنين تخترقه تعبيرية رومنطيقية مجروحة. ذلك ان هذا العراقي الذي يمضي حياة في الاغتراب يبدو كأنه لم يغادر مرةً العراق، بل كأنه يحمل العراق في بواطن مشاعره الكربلائية ليجول بها كمن يرغب بعدم سلخ نفسه عن نفسه.
“حمّام بغدادي” مبرمج حالياً في “بابل” بيروت والمسرحية تعود الى بيروت، الى مكان الانطلاق في شهر نيسان 2005 الى بحور المهرجانات العربية. وكانت “حمّام بغدادي” نالت جائزة أفضل ممثلين في المهرجان التجريبي الدولي في القاهرة. رؤيتهما معاً مجدداً على منصة بيروتية تشعل فتيلا خفيا في شرايين مدينة تستعيد البعض من رونقها السابق.
“الحدث”، طبعاً العراق. والشقيقان نضال وفايز يتخاصمان حول كل ما يعيشانه معاً في منزلهما المشترك وفي ادارتهما كسائق ومعاون لسيارة باص يسوقها الأخ الكبير. وفي “الحدث” حكاية لبقة للدلالة على الركائز العريضة لواقع المجتمع العراقي. للنادرة أصداؤها في عرض مدته ساعة وربع ساعة، يشي بأي نوع من الملامس الفيزيائية والنفسية، يعمل جواد الأسدي على إبرازها في عمل مسرحي مكهرب الشغف، انفعالي، غرائزي الى آخر الغرائز، وأكول.
انه عرض لا رحمة فيه على من يروي القصص، على رغم ان في الاعماق بعضاً من هذه المشاعر الملونة بالغضب والعنف ورمي الحقائق بغزارة البوح حينما العواطف تلغي الكلام. يبرز هنا الغريب من الملامح الانسانية التي يفوح عرقها في مخيلة مؤلف ولد من رحم المسرح العراقي وهو يتنزه الى اليوم.
في التفاصيل يعلن جواد الاسدي نياته في تعرية الوضع السياسي والاجتماعي للحالة العراقية الراهنة. الاطار نموذجي لهذه التعرية، استعارة مفرداتُها من مفردات البيت، متمثلة في شقيقين، القوي منهما يأكل الضعيف، والقوي متواطئ مع المحتل على شقيقه الصغير والضعيف.
رمزيةٌ جداً قصة نقل المرشح، وبواطن العرض مليئة بالتفاصيل، من الحدود العراقية الى داخل بغداد. شقيقان في خصام، ومرشح قتيل هو ضيفهما داخل صندوقة في الباص. انها الحرب التي لا تفارق حالياً الهواجس الكبرى للمسرحيين العرب. انه ضمير المكان الفوّار بالفواجع. وللمكان حضور مشعّ في عروض جواد الاسدي حيث انه يخطف اليه ليس فقط الثقل الزمني للواقع وانما يتغلغل بخبث تقريباً وبروح لا تخلو من المراوغة، ملمّحاً متهماً صارخاً واضعاً كل غضبه في هذا النوع من الصراخ الذي على رغم عويله الكربلائي يحمل كل حزن بلاد ما بين النهرين لكأنه ولد من عذاب البشر.
طبعاً، كما في كل عمل اخراجي له، يبتكر جواد الاسدي لمنصته غلافاً سينوغرافياً بين تعبيرية متطرفة وحنين كالذي يفجره جرح على البارد. “حمّام بغدادي” عرض للكلام فيه ملاذاته التي لا تخشى مغامرة حتى في تزويج مفرداته، كالحار مع البارد والدافئ مع الذهني والمعقول، على عبثية لا تكاد توقظ المسرح حتى يعمل المؤلف على محوها.
نص لمؤلف ومنصة كممثل وإطار فضائي يغذّي الكلام بالرعشة الهوجاء، والمشهدية بالحنين المجروح.
للشغف الفكري كما لملذات الحواس، عرض “حمّام بغدادي” لجواد الاسدي.

نزيه خاطر
nazih.khater@annahar.com.lb

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى