تجليات إشكالية الشباب الثقافية
معتز حيسو
من المعلوم بأن مستقبل المجتمع يتحدد موضوعياً بناءً على الواقع الذاتي والموضوعي للشباب بكونهم الحامل الفعلي لمشاريع التغيير الاجتماعي، لذلك فإن رصد وتحديد ودراسة واقع الفئات الشابة وما تعانيه من إشكاليات يعتبر الخطوة الأولى في سياق رسم إستراتيجية تطور المجتمع. وعلى هذا الأساس يجب النظر إلى أن ما يعانيه الشباب من إشكاليات لا يمكن فصله عن الأزمة الاجتماعية العامة والمركبة. مما يعني موضوعياً أن واقع اجتماعي مأزوم سوف ينتج إنساناً إن لم يكن مأزوماً فإنه يعاني جملة من الإشكاليات والتناقضات بمستويات متعددة ومتنوعة. ومن المفيد أن ننوه بأن أشكال تجليات نمط الوعي الفردي تتحدد على قاعدة الوعي الاجتماعي السائد الذي يتحدد على قاعدة العلاقات الإنتاجية المسيطرة ، ويتجلى وفق أشكال من العلاقات الاجتماعية المرتكزة على الترابط والتحدّد المتبادل. وتشكل إشكالية علاقة الشباب بالثقافة جانباً مهماً من الأزمة الاجتماعية الراهنة،ويمكننا تحديد أسبابها على مستويين : أولاً : عام / كلي يتحدد من خلال سيطرة الشركات الإعلامية العالمية في الدول الكبرى على وسائل الإعلام الحديثة والتي من خلالها يتم العمل على تنميط أشكال الوعي والمعرفة والثقافة عالمياً بأشكال وعي استهلاكي فردي سطحي ،ترفي ،جنسي ،عنفي ، سلعي .. .
ثانياً: خاص / جزئي يترابط مع المستوى الأول من خلال سيطرة الجهات الحكومية الرسمية على الوسائل الإعلامية ومراكز صنع القرار والمؤسسات والمنظمات الاجتماعية والتربوية، والتي من خلالها يتم العمل على صياغة و تشكيل وعي اجتماعي يتماهى مع أشكال الثقافة الرسمية / المسيطرة المتناقضة ظاهرياً وشكلانياً مع النمط الثقافي المعولم بأشكاله المختلفة ،هذا إضافة إلى التناقض الإشكالي للخطاب الإيديولوجي مع تجليات ومعطيات الواقع الموضوعي ، ويترابط في هذا السياق ضعف وتخلف الإمكانيات التقنية والأداء الإعلامي .
لقد نجحت الأجهزة والمؤسسات الإعلامية والثقافية الرسمية من خلال احتكارها المنابر الإعلامية وسيطرتها على المؤسسات الاجتماعية في تشكيل أشكالٍ متعددة من الوعي الاجتماعي الاستهلاكي والسطحي الذي يكرس ابتذال الإنسان وتسليعه ويحط من كينونته وإنسانيته التي يفترض أن تكون قيمة مطلقة .. والذي يساهم نسبياً بالارتداد إلى الوعي الأهلي /العشائري والجهوي والطائفي والإثني …/الذي يعزز في ظل سيادة ثقافة الخوف وتهميش وتغييب الفكر النقدي مفاهيم الخضوع ،التسليم،التقيّة،التملق،المداهنة… بأشكال ومستويات مختلفة.
إن إشكالية غياب و تغييب الثقافة المدنية والفكر العلماني القائم على التحليل والتركيب والنقد البنّاء الذي يكرس مفاهيم التواصل الثقافي تتقاطع موضوعياً مع إشكالية تغييب القوى السياسية عن جذرها الاجتماعي الذي يشكل الحاضن لمشاريع التغيير والتطور المجتمعي.
ـــ يمكننا تحديد أسباب تراجع الاهتمام بتطوير وتنمية المستوى الثقافي بأشكاله العامة والذاتية الفردية انطلاقاً من: 1ــ تراجع دور الأسرة التعليمي والتربوي نتيجة لتزايد الضغوط المادية والحياتية، وزيادة تأثير الشارع، المدرسة، النوادي والمنظمات الرسمية.. ، أما الجانب الأهم فإنه يتمثل بالغزو الإعلامي الذي ينمّط ويحدد أشكال التجليات الثقافية ، ونحن هنا لا نقلل من أهمية الرقابة الأسرية على الوسائل الإعلامية التي باتت بمتناول الجميع. بل نؤكد على أهمية توسيع وتعميق دور الأسرة التربوي والتعليمي في الحد من التأثيرات السلبية للوسائل الإعلامية و تجاوز أشكال وعي اجتماعي مستلب ومشوه بات يهدد بتفكيك التماسك الأسري والمنظومات القيمية الإيجابية ، وهذا يفترض العمل على تجاوز أشكال الأسرة البطريركية / الذكورية في سياق تكريس سيرورة تطور وعي اجتماعي يؤسس لثقافة التواصل و الحوار الحر والديمقراطي القائم على الندية والاحترام المتبادل للتّعبير عن المكنونات الجوانية للفرد.إن ترسيخ وتكريس العلاقة الأسرية القائمة على الحوار الديمقراطي يساهم في تجاوز أشكال الوعي والثقافة السائدة ويقلل من آثارها السلبية اجتماعياً، من دون أن يعني هذا تجاهل أو إلغاء الترابط بين الأسرة ومحيطها الاجتماعي.أما التركيز على أهمية دور الأسرة التعليمي مرده بشكل رئيسي إلى تراجع الدور التعليمي والتربوي في المؤسسات التربوية التعليمية،إضافة إلى تراجع مكانتها الاعتبارية في ظل انتشار ظاهرة خصخصة التعليم التي تتوضح تناقضاتها السلبية على المستوى الاجتماعي .
2ــ تراجع دور المؤسسات الثقافية العلمانية التي يفترض أن يكون لها الدور الريادي في صقل الهوية الثقافية الفردية والمجتمعية (ويكمن السبب في ذلك بالواقع السياسي القائم على احتواء واحتكار المؤسسات المدنية الرسمية في سياق تكريس نمط ثقافي أيديولوجي أحادي….)
3ــ وفي سياق الهيمنة الأحادية الإشكالية على المؤسسات الثقافية والإعلامية الرسمية، فإنه يتم تسهيل انتشار الفكر الأيديولوجي الديني عبر وسائل الإعلام الرسمية والمؤسسات الثقافية و الحد من تأثير الفكر العلماني اجتماعياً. ونعلم أن تحقيق التوازن الثقافي يفترض إطلاق حرية التعبير لكافة الأطراف والتشكيلات الثقافية لتكريس ثقافة الحوار الديمقراطي والإنتاج المعرفي اجتماعياً .
4ــ غياب الدافع والأمل نتيجة للانسداد النسبي لآفاق المستقبل ، ويكفي في هذا المجال أن نقارن أشكال تجليات النشاطات الثقافية والمدنية والسياسية في اللحظة الراهنة مع مراحل تاريخية سابقة كانت الظروف السياسية والأمنية أكثر قسوة وأشد تعقيداً مما هو سائد الآن، وكان المجتمع آنذاك وتحديداً الشباب يضج بالحيوية والنشاط.
5 ــ إن تعثّر المشاريع التغييرية والإصلاحية الرسمية أدى إلى تردي المستوى الاقتصادي الذي تتجلى آثاره بتزايد معدلات البطالة وارتفاع مستويات الفقر والتفاوت الاجتماعي .. وأسس في إطار تغييب المشاريع المدنية والسياسية العامة إلى تكريس فكرة الخلاص الفردي والنكوص والارتداد إلى الذات الماضوية .
6ـــ من أسباب الابتعاد عن الاشتغال بالحقل الثقافي الذي يمكن أن يكون مدخلاً إلى الممارسة السياسية سيطرة ثقافة الخوف.ويتزامن تراجع الاهتمام الثقافي مع تقاطع الدور الوظيفي للمؤسسات الإعلامية الرسمية مع أهداف الشركات الإعلامية العالمية الكبرى التي تعمل على تنميط أشكال الوعي والثقافة العالمية في إطار تذرير المجتمع وتكريس ثقافة فردانية تغيّب الوعي النقدي في إطار بنية تبعية.
7ــ يجب التمييز بين المستويين الثقافي والتعليمي ،إذ بقدر ما تساهم المؤسسات التعليمية في القضاء على الأمية ، فإنها تساهم في تشكيل إطار وبنية علمية معرفية عمادها الأساسي التلقين والتجميع التراكمي للمعلومات في سياق استبعاد الآليات المنهجية التحليلية والعقل النقدي ، ليبقى دور التثقيف والمثاقفة مرهوناً بالمؤسسات المدنية والحقوقية والمنظمات والأحزاب السياسية التي يتراجع دورها بفعل أسباب ذاتية وأخرى موضوعية تنعكس على كافة الفعاليات الاجتماعية والمدنية والسياسية .
8ــ إن الهيمنة الأيديولوجية التي تحاول الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الرسمية تكريسها في تنميط الثقافة الاجتماعية تساهم في الحد من فاعلية التشكيلات والجمعيات والمنظمات الثقافية والسياسية العلمانية واليسارية ، بينما يتم إطلاق الحرية لممثلي الفكر الديني في التعبير عن هويتهم الثقافية والتي على أساسها يتم توسيع وتعميق دائرة الاستقطاب الاجتماعي ثقافياً ، وتحديداً في الأوساط الشبابية التي تعاني من تراجع دور المؤسسات المدنية / العلمانية. إضافة إلى إن تراجع دور الدولة الرعائي يساهم في تزايد دور الجمعيات والمؤسسات الخدمية الدينية التي تجاوز عددها (1300جمعية خيرية ) ونتساءل هنا عن ماهية تأثير هذه الجمعيات في الوعي الاجتماعي ، ولماذا يطلق العنان لنشاطاتها الثقافية والخدمية بينما يتم تقيد حركة ونشاط المنظمات و الجمعيات ذات السمة المدنية والعلمانية …
9ـــ من الواضح بأن انعكاس تناقضات الأزمة الاقتصادية العالمية على المستوى العالمي سوف يعزز من إمكانية نهوض عام لحركات اليسار العالمي و المؤسسات المدنية والحقوقية ، مما يمكن أن يساهم في تغيير الخارطة الثقافية العالمية ،وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى تكثيف الجهود الاجتماعية والسياسية والثقافية والمدنية لإيجاد آليات عمل تنطلق من الواقع الراهن / الملموس.
بالتأكيد يوجد أسباب أخرى لم نأتي على ذكرها وتساهم في تراجع مستوى الاهتمام بالنشاط الثقافي في المستوى الاجتماعي العام وفي الأوساط الشبابية تحديداً.وهذا يعني بأن الموضع يبقى مفتوحاً للحوار والمشاركة من كافة المهتمين بالشأن العام وقضايا الشباب بشكل محدّد.