إسرائيل كعدوّ… كـصديق
جوزيف مسعد*
كان موقف إسرائيل دائماً متذبذباً من النظام الأردني الذي تحالفت معه منذ العشرينيات، في الوقت نفسه الذي كانت تحاول فيه إضعافه عندما استوجبت استراتيجيتها ذلك. وهذا ما يفسر حيرة النظام الأردني التاريخية تجاه مكانة إسرائيل كعدو أو كصديق. فقد فكر البعض في إسرائيل في قلب النظام عام 1967 ثم عادت إسرائيل لمساندة النظام عسكرياً كي يبقى في الحكم عام 1970. وبينما اقتنع الملك الحسين بعد التسعينيات بأن تذبذب إسرائيل قد انتهى لمصلحة تحالف مع نظامه وصداقة معه، فإن الكثير من الوطنيين الأردنيين (وبعضهم شوفينيّ كاره للفلسطينيين) لم يقتنع بذلك. فقد عارض الكثير من الوطنيين الأردنيين معاهدة وادي عربة عام 1994 في سياق استنتاجهم الصحيح أن تذبذب إسرائيل تجاه الأردن ما زال مستمراً ولم ينته. ويدّعي هؤلاء، وهم على حق في ذلك، أن إسرائيل على استعداد للتضحية بالنظام الأردني لمصلحة إقامة دولة فلسطينية في الأردن خلال طردها المستقبلي لفلسطينيّي الضفة الغربية إليها، وهو مشروع اقترحه أرييل شارون في السبعينيات، وله مروّجون مهمّون في حزب العمل. وقد كان شارون يودّ لو أن إسرائيل ساندت منظمة التحرير في حرب عام 1970. وهذا ما يفسر الرد المرتبك للحكومة الأردنية إزاء مجازر إسرائيل في غزة، الذي يعبّر عن عودة شكوك النظام الأردني في النيّات الإسرائيلية تجاهه. فقد عُزل مدير المخابرات الأردني محمد الذهبي في الأيام الأولى للحرب على غزة، وهو الذي كان قد أعاد فتح الحوار مع حماس منذ شهور قليلة، بينما سُمِح بخروج تظاهرات عارمة تضامناً مع غزة في أرجاء البلاد مع قمع شرطي محدود، ولكن الضغوط الأميركية ـــ السعودية ـــ المصرية هي التي طغت أخيراً، متمثّلة بقرار الحكومة الأردنية إعادة سفيرها إلى تل أبيب بعدما استدعته لبضعة أيام للتعبير عن معارضتها للحرب على غزة. تشير هذه الأحداث إلى أن للحكومة الأردنية أولويّات وانشغالات مختلفة عن نظيرتيها في مصر والسعودية، ولكنّها تأمل وتفضّل أن تظلّ إسرائيل صديقة للأردن وألّا تتحوّل إلى عدو.
أما النظام المصري، الذي يعتبر إسرائيل حليفته الأهم في المنطقة بعد الولايات المتحدة، فمقتنع بأنّ إسرائيل لا تحاول قلبه، وهو محقّ في ذلك. ولهذا لم تُعدّ إسرائيل عدوّاً لمصر منذ منتصف السبعينيات. إن العهد الذي حاولت إسرائيل خلاله قلب نظام عبد الناصر قد ولَّى إلى غير رجعة، ومنذ انفتاح نظام السادات الاستسلامي على إسرائيل، أصبحت إسرائيل تدعم النظام المصري دون ورع مما جعل النظام المصري يدعمها إلى أبعد الدرجات حتى، كما يزعم البعض، على حساب مصالحه. ومنذ عهد الرئيس ريغان، أصبحت إسرائيل صديقاً حميماً للمملكة السعودية ومن بعدها كل ممالك الدول الخليجية فضلاً عن صداقتها المديدة مع ملوك المغرب. وكان نظام بورقيبه في تونس قد رفض منذ منتصف الستينيات اعتبار إسرائيل عدواً، كما هي الحال مع القوات المسيحية الفاشية في لبنان، التي اعتبرت وما زالت تعتبر إسرائيل صديقاً.
والأهم من كل هؤلاء هو رفض السلطة الفلسطينية تحت قيادة عرفات وعباس اعتبار إسرائيل عدواً إلا لفترة مؤقتة سبقت وفاة عرفات وبعدما اقتنع الأخير بأن إسرائيل تحاول تقويض حكمه. عدا هذه الفترة الوجيزة، لم يستطع عرفات ولا عباس من بعده الامتناع عن تقبيل قادة إسرائيل من مجرمي الحرب واحتضانهم.
نحن نعيش في عهد أبعد ما يكون عن عقد الخمسينيات عندما كانت إيران الشاه، وتركيا، وإثيوبيا هايلي سلاسي حلفاء إسرائيل والولايات المتحدة، وكانت إيران وتركيا حليفتَيْ العراق والأردن الهاشميّين. وقد كان إجماع الأنظمة العربية آنذاك قائماً على أن تحالف إيران وتركيا وإثيوبيا وإسرائيل كان تحالفاً مع الإمبريالية ضد العرب. أما اليوم، فحقيقة أن إيران وتركيا هما القوتان الوحيدتان في المنطقة اللتان تصرّان على سيادة محلية وإقليمية ضد الاجتياحات الإمبريالية والاحتلالات الكولونيالية قد قلبت الأمور رأساً على عقب. فالأنظمة العربية اليوم هي التي تدفع باتجاه سيادة إمبريالية وكولونيالية في فلسطين والعراق وإيران، بينما تقاومها إيران وتركيا. بما أن القوى الشعبية في البلاد العربية وفي إيران وتركيا مستمرة في معارضتها للإمبريالية الأميركية بشراسة، فإن هذا الوضع يُبقي الأنظمة العربية وحدها كالقوى المساندة للإمبريالية في المنطقة.
وقد فشلت، في هذا السياق، الحملات الشوفينية الكارهة لإيران هيلاري كلينتون (جوناثان إرنست ــ رويترز)هيلاري كلينتون (جوناثان إرنست ــ رويترز)والشيعة، التي رعتها وترعاها الحكومات السعودية والمصرية والأردنية وحتى السلطة الفلسطينية المتعاونة نيابة عن إسرائيل والولايات المتحدة، في تغيير المواقف الشعبية العربية من الإمبريالية. وقد عقَّد دخول تركيا إلى المعسكر الداعم للسيادة المحلية والإقليمية حملات الكراهية التي تدعو إليها الأنظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، نتيجة سنّيّة تركيا، أو على الأقل لاشيعيتها. وبناءً على ذلك، فإن النظام العربي الوحيد الذي ما زالت تهدده إسرائيل هو النظام السوري، على الرغم من مفاوضاتها السرية معه في الوقت نفسه. لذلك تظل إسرائيل العدو الرسمي لسوريا.
إن أخطر أعداء الأنظمة العربية اليوم هي كل معارضة محلية تهدف إلى قلب النظام وتعرض الحزمة نفسها من الخدمات على الولايات المتحدة التي يعرضها النظام القائم. من هنا، يعتبر النظام المصري الإخوان المسلمين أخطر عدو له. وما كان للإخوان المسلمين أن يُقلقوا النظام المصري لو كانوا معادين للإمبريالية ورافضين تقديم خدمات إليها، بل كان النظام سيفرح لو كان الإخوان أكثر راديكالية حيث كان النظام عندها سيثبت للولايات المتحدة أنه القوة الوحيدة المستعدة لتقديم خدمات للسيد الإمبريالي الأبيض، إيهود باراك (دافيد بويموفيتش ــ أ ف ب)إيهود باراك (دافيد بويموفيتش ــ أ ف ب)أو في حالة أوباما، نصف الأبيض. إن استعداد الإخوان المسلمين لتقديم خدمات إلى الولايات المتحدة هو ما يجعلهم خطرين على النظام، حيث إن بإمكان الولايات المتحدة أن تستبدل النظام القائم بهم إذا أصبح هذا النظام عالي الكلفة على المصالح الأميركية. ومن هنا يتضح عداء النظام المصري لحماس ويكمن أيضاً عداء حلفاء النظام في مصر من الليبراليين واليساريين لها، حيث إنهم والنظام يرون حماس امتداداً للإخوان المسلمين.
الإشكال هنا هو في أن حماس، بخلاف الإخوان، تعدّ أكبر معارض للاستعمار الإسرائيلي والإمبريالية الأميركية. ففي السياق الفلسطيني، كانت السلطة الفلسطينية برئاسة عرفات وعباس، لا حماس، من قام بتشييد تحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة. فالمنافسة بين السلطة وحماس ليست منافسة على من سيخدم الولايات المتحدة أكثر، بل على من سيخدم مصالح الشعب الفلسطيني أكثر. والعلاقة المتوترة أحياناً بين السلطة والنظامين الأردني والمصري هي نتيجة محاولة الأولى الاستحواذ على حصتها، على حساب هذين النظامين، في خدمة الولايات المتحدة.
لقد نشط المثقفون الفلسطينيون في الضفة الغربية، شأنهم شأن نظرائهم الليبراليين في طول العالم العربي وعرضه، في شيطنة حماس كقوة ظلام في المنطقة. وما يهول هؤلاء المثقفين (وبينهم عدد لا بأس به من المسيحيين الليبراليين والعلمانيين الذين يُطلق عليهم في بعض أوساط رام الله تهكماًَ اسم «حزب المسيحيين الديموقراطيين») هو إمكان منع حماس المشروبات الروحية إن اعتلت سدة الحكم. وإن افترضنا أنه يمكن حماس أن تمنع المشروبات الروحية إن تسنى لها أن تحكم دولة فلسطينية محررة في مستقبل غير معلوم، فإن هؤلاء المثقفين يفضلون ديكتاتورية متعاونة لا لبس فيها تسمح بشرب كأس ويسكي على إمكان ديموقراطية مقاومة تمنعه. هذا لا يعني أن حماس ستحكم بالضرورة بطريقة ديموقراطية، ولكن إن كانت قد انتُخبت ديموقراطياً، وهو ما حصل فعلاً، فيجب إعطاؤها الفرصة لتثبت التزامها بالنظم الديموقراطية التي تعد بها اليوم، وهي فرصة كان مثقفو الكومبرادور على استعداد لمنحها لفتح ويواصلون منحها للأخيرة الآن بعدما مأسست حكماً ديكتاتورياً متعاوناً مع الاحتلال. وقد كان القمع الذي مورس في الضفة الغربية أثناء مذابح غزة قد شرعنت له الجهود المتضافرة لهؤلاء المثقفين. فقد كان المشهد في الضفة الغربية، باستثناء الخليل، مشهداً فضائحياً. فقد شهدت مدن عربية كعمان وبيروت، فضلاً عن ذكر المدن والبلدات الفلسطينية داخل إسرائيل، تظاهرات جامحة كانت على الأقل تحوي أكثر من مئة ضعف عدد المتظاهرين في رام الله الذين لم يتجاوز عددهم الألفي متظاهر والذين قامت عصابات السلطة الفلسطينية المتعاونة بضربهم.
وقد كان فلسطينيو الضفة يتابعون قناة الجزيرة بدلاً من التظاهر تضامناً مع أهل غزة وبدلاً من أن يَتَحَدّوا وكلاء إسرائيل في السلطة التي تحكمهم. وبينما كان قمع السلطة والجيش الإسرائيلي عاملاً رئيسياً، فإن الصمت الذي خيّم على الضفة كان نتيجة أعوام من الحرب النفسية لشيطنة حماس التي شنتها السلطة ومثقفوها على الشعب. إضافةً إلى هذا، فحقيقة أن ربع مليون فلسطيني يعملون في أجهزة السلطة الأمنية والبيروقراطية ويعيلون على الأقل ثلاثة أرباع مليون فلسطيني آخر في الضفة يجعل هؤلاء مرتهنين لـ«عملية السلام» واستمرار السلطة في الحكم كي يؤمّنوا قوت يومهم. هذا العامل البنيوي والمادي هو الأهم في تقويم صمت فلسطينيي الضفة أثناء مجازر غزة، وهو صمت لا يستحق إلا الازدراء. وحتى بعض التظاهرات التي نظمتها فتح في رام الله، حيث قامت الشرطة النسائية التابعة للسلطة المتعاونة بضرب المتظاهرات من حماس، تضمنت من نادى بالمرور أمام السفارة المصرية تضامناً مع موقفها تجاه غزة وحماس.
إن رحلة مثقفي الضفة الغربية قد وصلت بهم أخيراً إلى هنا: فبعد أدّوا دوراً رئيسياً في التنازل عن حقوق المواطنة التامة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وبعدما تنازلوا عن حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى فلسطين، ها هم اليوم يتنازلون عن حق فلسطينيي غزة بالأكل والحصول على الكهرباء. وتتم كل هذه التنازلات كي تحكم الضفة الغربية سلطة متعاونة مع الاحتلال تؤمن لهؤلاء المثقفين ما يحتاجون إليه من ويسكي جوني واكر، بلاك لابل (وهو مشروبهم المفضل، مع أن البعض بدأ بتفضيل شيفاس عليه أخيراً). إذن، وفي هذا السياق كيف لا تكون إسرائيل صديقاً وحليفاً وهي الحاجز المنيع الذي لن يسمح لحماس بمنع الويسكي أبداً؟
في هذه الأثناء، تُنتظر نتائج الانتخابات الإسرائيلية بشيء من القلق. فاستراتيجيات السلطة الفلسطينية المتعاونة ستختلف حسب الفائز. فإن فاز نتنياهو، وهو من خرّب لعبة السلطة وأوسلو عام 1996، فسوف يحاول عباس أن يستخدم خطاباً أكثر وطنية بمعارضته للممارسات الإسرائيلية، متأملاً من حكومة أوباما دعمه ضد اليمين الإسرائيلي، حيث تأمل السلطة المتعاونة أن يستخدم أوباما ضغوطاً سياسية على نتنياهو لن يستطيع أوباما استخدامها في حال فوز باراك. أما إن فاز باراك، فعندها ستكون السلطة المتعاونة مطمئنة وستستمر في عملها الدؤوب كوكيل للاحتلال. وباراك، وهو الصديق المقرّب لعائلة كلينتون الفاسدة، سيكون صديقاً وفياً لمن يشاطره اسمه في البيت الأبيض، وستسعى السيدة كلينتون لمنع أي ضغوطات سياسية بإتجاهه. أما بالنسبة للشعب الفلسطيني، فليس هناك فارق بين مجرم حرب يساري أو يميني يتربّع على رأس المستعمرة الاستيطانية. وبالنسبة إلى من لا يزال يمنّي النفس بأن الشعب الإسرائيلي يريد السلام، فدعم هذا الشعب لمجازر غزة يقضي على هذه الآمال. فإن أمضى الألمان يومهم على الشواطئ يوم الاجتياح النازي لبولندا عام 1939، وإن هلّل الأميركيون في حاناتهم وبيوتهم لمشاهد الألعاب النارية فوق بغداد بينما كان الجيش الأميركي يذبح مئات الآلاف من العراقيين في عامي 1991 و2003، فإن يهود إسرائيل أصروا على الجلوس في مقاعد الصف الأول على الهضاب المطلة على غزة كي يشاهدوا العرض حياً على الهواء، وهم يفتحون زجاجات الشامبانيا ويهللون لقتل المدنيين، وكان أكثر من نصفهم من النساء والأطفال.
لا ترغب حكومة أوباما ولا الإسرائيليون ولا الأنظمة العربية في أداء إلا لعبة واحدة، وهي ليست بلعبة جديدة. فلعبة إزالة الشرعية وتجاهل حماس هي إعادة للعبة إزالة الشرعية عن منظمة التحرير الفلسطينية التي أدّوها عندما كانت الأخيرة تمثل مصالح الفلسطينيين في الستينيات والسبعينيات وبعض سنيّ الثمانينيات. وقد أوكل حينها الأميركيون والإسرائيليون الشأن الفلسطيني للنظام الأردني كي يمثل فلسطينيّي الضفة إلى أن وعدت المنظمة أن تغدو خادماً وفياً للمصالح الإسرائيلية والأميركية وبدأت باعتبارهما صديقتين لا عدوّتين. وبينما نجحت هذه الاستراتيجية نجاحاً باهراً في إنهاء العداء بين معظم الأنظمة العربية وإسرائيل، فقد فشلت فشلاً ذريعاً في إقناع الشعب العربي بأنها ليست عدوة.
إن انتصار إسرائيل العسكري على المدنيين الفلسطينيين الذي كُلِّل بذبح هذا الشعب الأعزل، وهزيمتها أمام حماس المتمثلة بعدم استطاعتها إنجاز أي من أهدافها من الحرب لم يزدها محبة ولا زاد مريديها في العالم العربي محبة عند الشعوب العربية أو عند الدول الإقليمية المسلمة التي ترفض تقديم الطاعة الكاملة للولايات المتحدة. لقد أصبحت المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية صديقة كل الأنظمة المضطهِدة في المنطقة، ولكن صداقتها هذه عمّقت عداء أغلبية الشعوب التي اختارت أن تزرع نفسها في وسطهم.
* أستاذ السياسة
وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك. سيصدر كتابه «ديمومة المسألة الفلسطينية» قريباً عن دار الآداب.
الأخبار