إسرائيل في طريق مسدود
برهان غليون
كان من المنتظر أن لا يحظى قرار مجلس الامن 1860 المتعلق بوقف إطلاق النار في غزة أن لا يحظى بأي احترام، لا من قبل إسرائيل ولا من قبل المقاومة الفلسطينية. فإسرائيل التي أدركت أنها خسرت الرهان في غزة ما كانت لتقتنع بوقف إطلاق النار قبل أن تنتقم لنفسها من المدينة وسكانها، وتجعل من عدد الضحايا التي تلحقها بالفلسطينيين التعويض الوحيد عن الإفلاس السياسي لحملتها اللا إنسانية. أما قوى المقاومة الفلسطينية فليس من مصلحتها أن تقبل أي وقف لإطلاق النار يقتصر على معالجة المسائل الإنسانية ولا يطرح المسائل السياسية، وفي مقدمها مسألة الاحتلال الذي هو الأصل في كل ما حصل ويحصل منذ عقود من محن ومآس في فلسطين. وليس هناك شك في أن البند الذي ينقص هذا القرار هو ربط وقف إطلاق النار بفتح أفق الخلاص من الاحتلال والخروج منه، وإلا فلن يعني إلا ضياع المزيد من الوقت لتمكين إسرائيل من توسيع رقعة استيطانها والإعداد لحملات جديدة متى ما هضمت الإخفاق الحالي.
لم يعد من المجدي للعرب حني الرأس والقبول بأقل القليل درءا للمخاطر أو توفيرا للتضحيات. فلا إسرائيل مقتنعة بتقديم القليل طالما تستطيع التهام الكل، ولا الشعوب العربية راضية عن منطق الهزيمة المسبقة الذي يوجه سلوك معظم الدول العربية ويحبط مبادراتها قبل أن ترى النور. ومن الأفضل لهؤلاء أن يستثمروا صمود الشعب الفلسطيني واستعداد الرأي العام العربي للتضحية من أجل تغيير محتوى سياساتهم، والعودة إلى منطق السياسة الدولية الطبيعية، أي منطق السيادة والاحتكام للقانون والشرعية الدولية، من دون تنازلات مسبقة وجوائز مجانية تقدم لهذه الحكومة الاسرائيلية أو الأمريكية أو الاوروبية أو تلك، لضمان دعمها وتأييدها في مفاوضات سياسية لم تنتج حتى الآن سوى مزيدا من السيطرة العسكرية والاستيطانية الاسرائيلية وفائضا من الهزيمة والإحباط والمهانة العربية.
يستدعي هذا، قبل أي شيء آخر، أن تكف الدول العربية عن المراهنة على الآخرين، بما في ذلك مجلس الامن، للضغط على إسرائيل، وتدخل هي نفسها في الصراع، باعتبارها معنية به، ولا تتصرف كدول محايدة او خائفة او مهزومة. وليس من الصحيح أن هذه الدول لا تملك وسائل ضغط كافية لإجبار إسرائيل على مراجعة حساباتها، والكف عن الاستهانة بها، والدوس على الحقوق العربية، والتصرف في فلسطين ولبنان وسورية والعراق وغيرها من البلدان، كما لو كانت هي وحدها التي تقرر معنى الحق والقانون، أو كما لو كانت إرادتها هي القانون في هذه المنطقة المركزية من العالم.
ولا أقصد بالضغط هنا إصدار بيانات الإدانة أو الشجب. فلا يكفي لرد العدوان ولا حتى لردعه، وإنما اتخاذ قرارات عملية تفرض نفسها بالضروررة. فما ينبغي عمله اليوم في مواجهة المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة هو إجراءات يكون لها آثار عملية مباشرة، إقتصادية وسياسية واستراتيجية. وأول ما كان ينتظر من العرب أن يتخذوه في إطار الجامعة لإنقاذ سياتهم الاسرائيلية المفلسة هو قطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع تل أبيب، حتى ينتهي العدوان، وأقصد بالعدوان الاحتلال نفسه وما يلحق به من استيطان وحصار وحملات عسكرية تأديبية هنا وهناك، والإعلان الصريح والمباشر عن دعمهم الكامل لشعب غزة ومقاومتها، وتهديدهم بتزويدهما بالمعدات والسلاح إذا استمر الحرب.
ما كان لمثل هذا الموقف أن يمثل أي خطر على الموقف العربي ولكنه كان بالعكس سيعززه في المحافل الدولية، ومنها مجلس الامن، إذ سيكون معناه أن العرب قرروا بالفعل الخروج من عقلية التسليم بالامر الواقع والاستسلام للقوة، والدخول في الحياة الدولية على قاعدة الالتزام بالمسؤولية تجاه شعوبهم، وبقاعدة احترام القانون والحقوق الشرعية تجاه الرأي العام الدولي. وكان هذا الإجراء سيمثل أول إشارة إلى استعداد العرب معاقبة اسرائيل لسخريتها من مئات ملايين العرب، ومن جميع حكوماتهم، خلال أكثر من عقدين من مفاوضات السلام الفارغة، ورفضها الانصياع إلى نداء وقف العمليات العسكرية في غزة من دون شروط، وإنهاء الحصار اللاإنساني الذي فرضته على شعبها، انتهاكا لكل القوانين الدولية والإرادة العربية.
لا يطلب ذلك تحقيقا لمصلحة الشعب الفلسطيني فحسب، وإنما في سبيل استعادة الدول العربية صدقيتها السياسية، واحترام الرأي العام العالمي لها، واعتراف الامم الأخرى بأهلية حكوماتها وجدارتها في تمثيل شعوبها، أي النظر إليها بوصفها حكومات قومية بالفعل وليست شبكات مصالح خاصة منظمة على شكل دولة. وفي هذه الحالة كان سيكون من الممكن إنقاذ سياسة السلام العربية، والوصول إلى الهدف الذي دفع العرب ثمنه سلفا، ولم يقطفوا أي ثمرة من ثمراته، لا في تحرير الأرض، ولا في استرجاع الحق الفلسطيني، ولا في إنهاء كابوس الحروب والاستعمار الاستيطاني والتمادي في سياسة الاحتقار والإذلال وزرع الفوضى والدمار في المنطقة.
لقد أصبح من الواضح أنه من دون رد فعل قوي من هذا النوع، يظهر استعداد العرب وقف مهزلة مفاوضات سلام لا غاية منها سوى التغطية على الحرب التوسعية، وعدم ترددهم في العودة إلى خيار المقاطعة الشاملة لاسرائيل، سيفقد مفهوم السلام العربي معناه، وتتحول سياساتهم في هذا المجال إلى خدعة تنقلب عليهم أكثر مما تفتح لهم سبل الخروج من أزمة القصور والعجز التي دفعتهم إليها.
من هنا تضع الحرب في غزة العرب أمام تحد كبير، هو إثبات صحة خيارهم الدخول في عملية سلام مع إسرائيل ونجاعتها. فما لم يظهر العرب مقدرتهم على الرد بفعالية على الأزمة التي فجرتها في وجههم إسرائيل، فسوف يجدون أنفسهم واقعين في فخها، أي في طريق مسدود تماما، وسيتحملون وحدهم ما ينجم عن ذلك من خسائر مضاعفة.
فإذا لم يشعر الاسرائيليون بأن اغتيال عملية السلام، وهذا هو مضمون سياستهم الفعلية، يمكن أن يحرمهم على الأقل من المكاسب الكبرى التي حققوها باسمها، لن يكون هناك ما يردعهم عن الإمعان في سياستهم الاستعمارية التقليدية التي درجوا عليها، والتعامل مع السلام كوسيلة لتخدير العرب والضحك عليهم.
لا يليق بدول تحترم نفسها أن تتسول مواقف ضغط من دول أجنبية، ولا حتى من مجالس دولية. حتى تستحق اسم الدولة ومفهومها، ينبغي أن تكون قادرة على القيام هي نفسها بالضغط، أي بالدفاع عن مصالحها العليا. ومن الخطأ الاعتقاد يأن هناك دولا او منظمات دولية مستعدة للتضحية بمصالحها لخدمة نظم عربية ترفض هي ذاتها مثل هذه التضحية لخدمة هذه المصالح نقسها. لا يمنع هذا من وضع الدول الغربية الداعمة لاسرائيل، والمنظمات الدولية، أمام مسؤولياتها، وتذكيرها بتعهداتها المتعلقة بحقوق الإنسان، وفي كل مناسبة، إنما لا ينبغي المراهنة على تحريك الضمير الأخلاقي والقانوني، مهما كان نبله، لتحقيق أهداف سياسية، ولا بالأحرى استراتيجية، ومن باب أولى استخدامه كأداة للعمل السياسي. الدولة أو الدول التي ليس لديها وسائل للضغط خاصة بها، أي وسائل للعمل السياسي، ليست دولا، ولا مكان لها في الخريطة الدولية، ولا تستفيد، مهما فعلت، أي شيء من استدرار عطف المجتمع الدولي والمنظمات الدولية.
تطرح معركة غزة اليوم كل سياسة السلام العريية واستراتيجيتها على الطاولة، وتقوض الأسس التي قامت عليها، ولا تخص غزة او شعبها وحدهما. وهي تهدد بتقويض أسس استقرار الدول والمجتمعات العربية. فإما أن ينجح القادة العرب في إعادة بث الصدقية في خياراتهم السياسية الاستراتيجية، وتحويلها إلى خيارات جدية ومقنعة وفعالة، أو يدينوا أنفسهم بالاستسلام لسياسات إسرائيلية مرضية ولا مسؤولة تدفع بهم، بالرغم منهم، ومن مناشدات الرأي العام العالمي وإداناته وشجبه اللامتناهي، وغير الفعال، إلى الانهيار، وتدفع البلاد لتي يحكمونها إلى مزرعة للفوضى والدمار السياسي، وتسلمها، عاجلا او آجلا للميليشيات الأهلية المتنافسة.
وإذا كان هناك درس يمكن استخلاصه من حرب غزة الأخيرة فهو دخول إسرائيل في حقبة الانتصارات المستحيلة، بانتظار أن يجمع العرب قواهم الكثيرة لبناء المقاومات المبدعة والحاسمة، والتخلص من كابوس الهيمنة والاحتلال والإذلال.