شعراء شباب كأنهم يكتبون قصيدة واحدة
عابد اسماعيل
لا تزال قصيدة النثر في سورية تعيش مخاضها الخاصّ، وتتلمّس ملامحها في مرحلةٍ متقلّبة، يصعب القبض على هويتها. وعلى رغم الشّوط الطويل الذي قطعته، فنياً وفكرياً، في إحداث افتراق أو اختلاف عن خطاب روّاد الحداثة، وتمرّدها على النمط الجمالي الذي اختطه هؤلاء، إلاّ أن هذه القصيدة لا تزال تعيش أزمتها المزمنة، التي عانت منها، ربمّا منذ لحظة ظهورها كنصّ إشكالي، قبل نصف قرن، كسر نمط القصيدة الموزونة بفرعيها الكلاسيكي والتفعيلي، لكنّه لم يتمكن، عميقاً، من تغيير فلسفة المضمون أو الرّؤيا الجمالية للشعر. من هنا نحن أمام حساسية فنية مشروخة، يعتريها انفصام بنيوي عميق، يتناهبها، جوهرياً، هاجسان مفصليان: نوستالجيا البلاغة الأدونيسية، وإغواء الشّفافية الماغوطية. وقد توسّع هذا الشّرخ وتفاوت تأثيره بين تجربة شعرية وأخرى، وجعل القصيدة الجديدة تفشل، حتى الآن على الأقل، في التأسيس لهوية شعرية مستقلة، يمكن الرّكون إليها، والتعرّف إلى ملامحها ومزاياها الفنّية. ولم ينجح معظم شعرائنا الجدد في التأسيس لانزياح شعري مفصلي، ناهيك عن قطيعة معرفية، تخرجهم من دائرة التأثّر بأسلافهم الرّاهنين، على رغم الرّغبة القوية في ابتداع خطاب لغوي مختلف، يتمرّد على الأنساق والرؤى التعبيرية السالفة، قديمها وحديثها.
ولعل نظرة خاطفة على اثني عشر ديواناً فازت بمسابقة احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية للعام 2008، تكشف مدى التقلّب والضبابية في المزاج الشعري، على صعيد النبرة والأسلوب والرؤيا، على رغم وجود بعض النصوص القليلة التي نجحت نسبياً، في الهروب من التنميط، وقبضت على جذوة القصيدة، من دون الاحتراق كلّياً بنار السلف. في ديوانها «ستعرف بعد ذلك»، تفاجئنا الشاعرة فيوليت محمّد بصوت نحيل، خافت، وبحساسية تغلب عليها اللّمسة السنتيمنتالية، تذكّرنا بشعرية الرّاحلة دعد حداد. فثمة شغف في حشد التفاصيل النهارية، تضيع على أثرها بوصلة الحبكة، مع أنّ الشاعرة، وبخاصة في مقاطع تميل إلى التكثيف والاختزال، تنجح في كتابة الومضة السريعة كما في قصيدة «الصحراء»، حيث التكثيف المقطّر، يستعير فصاحة الهايكو: «هي كثيبٌ واحدٌ/ والأخرى مثلنا نسخٌ كربونية». وعلى النقيض منها، يهرب رائد وحش، في ديوانه «لا أحد يحلم كأحد» من التكثيف إلى الرّحابة، ومن التلعثم إلى الإفصاح، مظهراً نضجاً شعرياً لافتاً، يتجلّى في رغبته الحقيقية في تخطي المألوف، وقبول الصّادم والمباغت، عبر دمجه اليومي بالميتافيزقي. وثمة جرأة في تفعيل التناصّ، وخلق سياقات متداخلة، تنقذ المعاني من الارتجالية التعبيرية، كما في قصيدة «ما تفعله الرّوايات»: «تفقدُ الثقةَ بالنّوم بعد مسخِ كافكا، وتطولُ ليالي الأرق شهوراً، وحين تنامُ، تنهشكَ كوابيسُ تصلحُ مادةً لسينما هتشكوك، ثم إنكَ كلّما صحوتَ تركضُ إلى المرآة». يقتربُ من هذه الحساسية المركّبة، شيئاً ما، معاذ اللحام، في ديوانه «من أطلقَ النارَ أولاً»، إذ ثمة رغبة مماثلة في دمج الثقافي بالعاطفي، لكنّ هذا الذكاء لا يكفي لمعانقة بؤرة الفعل الشعري، جمالياً. فقصائده تبدو مثل مسودات أولى تحتاج إلى صقل أكبر. والشّاعر يستسلم للخطاب السائد، ربما في محاولة منه لإثبات إتقانه حرفته، فينسج على منوال شعري مألوف، ويسمح لأصوات شعرية أخرى بالتسرّب إلى صوته: «كحرفٍ هائمٍ/ أشعلَ لفافةَ اللّغة/ الحافلة بالأفعال/ وبالأسماء الفاعلة/ أغلقَ درجَ الذّاكرة المثقلة/ وأطفأ قصيدتَه ونام».
ولا يشذّ سامر محمد اسماعيل في ديوانه «متسوّل الضوء» عن الاستسلام لأنماط كتابية مألوفة، وإن كان لديه الكثير من الومضات التي تكفي وحدها لإنقاذ الدّيوان ككل، كما في هذا المقطع الذي يختزن ثراءً نفسياً عالياً: «متى تعودين لرجلِ ثلجٍ/ صنعهُ الصبيةُ… ثم تركوه/ لشمسِ الظهيرةِ». ولكن، في المقابل ثمة كم هائل من المقاطع المكرّرة لديه، تفرغُ قصيدتَه من فواصل الصّمت والتردّد والحيرة، وتجعل لغته أكثر صخباً وضجيجاً. ويفترق جولان حاجي عن اسماعيل في الرّؤيا والحساسية في ديوانه «ثمة من يراك وحشاً»، فنقرأ لديه لغةً أكثر ثراءً، مشغولة بأسلوب يبتعد من التنميط، يركّز على التفاصيل، حيناً، للتعبير عن صراعات الأنا، وعلى التجريد حيناً آخر، لمقارعة بعض المفاهيم الكبرى، ما يجعله أكثر تحرّراً في القفز فوق النسق، وأكثر رغبة في كتابة نص يحكمه منطق داخلي مركّب، وبنية شعرية واضحة. وتبتعد قصيدته عن الاسترسال المجّاني، مع أنه يحشد التفاصيل، لا من أجل تعزيز الشّفوية، بل لإغناء البعد النفسي للمجاز، وترجمة المكابدة الداخلية للتجربة، كما في هذا المقطع الجميل: «يدورُ المفتاحُ المنسوخُ في القفلِ الصدئ/ فأقولُ أتيتِ/ ويربكُني ذهولي/ فأخفي رقمَ هاتفكِ المدوّن على تذكرةِ السّينما/ وأهرعُ حافياً إلى العينِ السّاحرة». في هذا السياق، لا يقلّ قيس مصطفى، في ديوانه «أبحث عنك على غوغل» براعةً من حاجي في تفجير الطاقة النفسية المخبوءة في التفاصيل المرئية، بل نلمس لديه جرأة أكبر في التجريب، تجعله يقحم مفردات أجنبية كثيرة، وهذا لا يؤثّر في أصالة اللمسة الشعرية لديه، وبخاصة اعتماد المفارقة العاطفية، التي توسّع الهوةَ بين المجرّد والمحسوس: «أنا الذي رسمتكِ/ وجلستُ أرقبُ غرابتكِ/ أجهلُ من سيمحوني/ لو تعودين/ أشعلُ الماء/ وأذوب». هذه المفارقة تشكّل الكيمياء الخفية للصدمة الشعرية، لكنّها تخونُ محمد ديبو في ديوانه «لو يخون الصّديق»، إذ نجد لديه استسلاماً للصّنعة القسرية، والدوران في المألوف الشعري، فالمواضيع متكرّرة والمجاز متوقّع، واللغةُ تغيب عنها التلقائية، كما في قوله: «أيّها المتلألئ على شهوات الغياب/ الرّاقد في كريات الروح/ الحاضر في غياب الأبد/ العابق في تضاريس الجسد». ولا يخفى أن اللّغة هنا منهكة وشائعة، وتنتسب إلى إنشاء أدبي جاهز، تسترجعه الذّاكرة آلياً.
يتقاطع مع محمد ديبو في هذا الصّدد، وبخاصّة الوقوع في فخ الذاكرة الأدبية المنمّطة، غياث المدهون في ديوانه «كلّما اتسعت المدينة ضاقت غرفتي»، الذي يحرّف رؤيا النفّري كأنما في رغبة لإنزال البلاغة الصوفية من عليائها، لكنّ المدهون لا يفعل شيئاً من هذا، فنجده يقع في الخطابية المفتعلة، ويكتب القصيدة، بصفتها نصاً أدبياً متكامل العناصر، مدرسياً أنيقاً، لكنه يخلو من كلّ مغامرة للخلق، أو التجديد، ويعززّ ذلك شغف المدهون بالإيقاع العروضي، والجملة التقليدية الحكيمة، كما في قصيدة «موت»: «كانت حياةً وانتهت/ عصفورُ هذا القلب غرّد عالياً/ هبت رياحُ العتم لكن ما سكت/ كانت حياةً وانتهت». يشاطر المدهون في هذه الوقفة الكلاسيكية، الشاعر تمام تلاوي، في ديوانه «تفسير جسمكِ في المعاجم» الذي التزمَ حساسية قبّانية واضحة، كما في قصيدة «دفتر الأسرار»، إذ يقول: «بيني وبين أصابعي/ أسرار كلّ نهودهنّ/ وعلى فمي/ أخبارهنّ/ من شاءَ منكم أن يشاهدَ عريهنّ/ إذن ليفتح دفتري/ وليدخلنّ». وتسير قصائد ديوانه على هذا النمط الخطابي المثقل بالبلاغة الحاضرة، وإن اعترفنا للشّاعر بفضيلة تمثّله للحساسية التقليدية، في رسم الصورة، وإتقان العروض، وتوظيف موسيقى الصّرف والنحو في بنائه للقصيدة وفهم آلية عملها الدّاخلية. ويقارب مناف محمد في ديوانه «خذ ما شئت» خطابَ العشق من زاوية أخرى، مختلفة تماماً عن التلاوي، إذ يفرغ الجملة العاطفية من نبرتها الملحمية العالية، ويتجنّب الخطابة الموزونة، والعاطفة المقفّاة، كأن يقول: «لكِ أنتِ فقط/ أهديتُ القلادةَ المرصّعةَ/ بكلّ النجوم/ وسأستريح في حضنِ الرّيح…/ إلى الأبد»، لكنه يقع، في تنميط من نوع آخر، يجعل قصيدته فريسة سهلة لفيض تفاصيل مجّانية، غير موظّفة جيّداً، ما يفاقمُ انفصالَ الصّوت عن وهج الرؤيا الداخلية، ويمهّد الطريقَ لتسرّب تقريرية جافّة، تغلغلت في معظم قصائد ديوانه.
في هذه الدّواوين الجديدة، يمكن تلمّس التعدّدية في الأسلوب والحساسية والرؤيا، على رغم التفاوت الكبير في النبرة، بين شاعر وآخر. وعلى رغم ضبابية المشهد وتقلّبه، إلاّ أننا نعثر، تحت الرّماد، على شرارة تتوقُ حقاً إلى التجديد والتخطّي، كما توحي تجارب جولان حاجي، ورائد حش، وقيس مصطفى، ولكن، في المقابل، نجد نزعة أكثر طغياناً، تتمثّل في الاستسلام لبلاغة جاهزة، ماغوطية حيناً، وأدونيسية حيناً آخر، تقتفي خطى السّلف، القريب أو البعيد، وتجعل النص الجديد يتجمّد في دائرة بلاغية مقفلة، تتناسخ أنماطها ونظائرها، وتتشابه همومها ومواضيعها، وتتحنّط معاييرها الجمالية، وتجعل الشّعراء الجدد، في غالبيتهم السّاحقة، يكتبون قصيدةً واحدة، تتكرّرُ في أشكالٍ وقوالبَ مختلفة.
الحياة