صفحات ثقافية

سيدة الملكوت: سفر في جغرافيا الأرض والذات والروح

null
نديم جرجورة
إنه مزيجُ أنواع أدبية عدّة (سرد روائي، نثر شعري، مناخ إنساني) وحيوات وأنماط متفرّقة من العيش وسط الانهيارات والخيبة والقلق. إنه نتاج إبداعي يصل الذاتيّ بالعام، ويربط الواقع المتأزّم بالحصار الخانق الذي يعانيه المرء في وحدته بين الناس، وفي عزلته داخل جدران النزاعات اللامتناهية في السياسة والاجتماع والعيش والصحافة. ذلك أن الكاتب السوري المثنّى الشيخ عطيّة (مواليد 1953) صنع من الألم الذاتيّ (لا يعني هذا ألمه الشخصيّ البحت أو المباشر، بل التجربة الذاتية التي يُمكن لكثيرين اختبارها وتحويلها إلى سؤال جماعي)، الناتج من نضال سياسي وانفعال عاطفي و«سفر» دائم في المنافي المترامية هنا وهناك، أساساً أدبياً لنصّ مفتوح على اللحظات المشحونة بالتمزّق والوجع. في حين أن السرد، المكتوب بلغة الأنا الأقرب إلى متتاليات أدبية مفتوحة على سيرة ذاتية أو مذكّرات شخصية للرواي، غاص في تشعّبات التفاصيل اليومية لمناضل منفيّ، قد تكون مرآة حيّة لتجارب أناس آخرين، بقدر ما تحتفظ لنفسها بخصوصية التجربة الفردية.
تنويع أدبيّ
لا تكتفي رواية «سيدة الملكوت» بالنثر الأدبي مادة للكتابة، ولا بسرد مقتطفات من سيرة ذاتية خاصّة بالراوي. فهي، بتوغّلها في الذات ومشاعرها وحالاتها النفسية والجسدية، استعانت بمناخ الشعر المنثور وجمالياته أداة لمنح الوصف (الإنساني والاجتماعي والذاتيّ) ركيزة أجمل في التعبير عمّا يجيش في هذه الذات من غضب وخيبة وتمزّق وانكسار. وهي، بجعلها الوصف الملطّخ بفضاء الشعر الوسيلة الأنجع لمقاربة الألم والتعب، أفسحت مجالاً أرحب للقول الأدبي المفتوح على عوالم وأسئلة ملتبسة ومعلّقة. فـ«المناضل» يروي سيرته، والقارئ يذهب بها إلى رحاب السياسة والعمل الحزبي والانقسام الفكري في داخل معارضة سياسية لنظام حاكم، من دون أن يتغاضى عن جمالية الحبّ الممزّق إما بسبب صدمات اليوميّ والمنافي، وإما لأن قوة الحب وجماله لا يكتملان إلاّ بمعاناة المرء صدمة الفراق والابتعاد.
بعد مجموعتين شعريتين صدرتا في بيروت، «نعم هناك المزيد» (1980) و«فم الوردة» (1989)، اختار المثنّى الشيخ عطيّة الرواية مساحة أوسع للتعبير الذاتيّ عن انفعال ورؤية ومشاكسة أدبية في السياسة والصحافة والعمل الوطني. وإذا بدا الانتقال الأدبي من الشعر إلى الرواية سمة منتشرة في الأوساط الثقافية العربية، خاصة في الآونة الأخيرة، فإن «سيدة الملكوت» ظلّت «وفيّة»، إلى حدّ بعيد وجميل في آن واحد، إلى الشعر، خصوصاً في تلك اللحظات الإنسانية المؤثّرة: خيبات حبّ مبتور ونضال مسيّج بلعبة المصالح الضيّقة والتخوين والعجز عن العثور على مكان (جغرافي أولاً، لكن روحيّ وإنساني أساساً)؛ خيبات التحوّل الخطر الذي غرقت فيه سوريا، والأفكار الضخمة والأحلام الكبيرة التي انتهت عند دَرْك من البؤس والتمزّق لا مثيل له. كأن المثنّى الشيخ عطيّة ـ وهو المتعمّق في سرد هذه التفاصيل كلّها بلغة سلسة تخفي غضباً وتوتراً لا يؤثّران سلباً على نوعية النصّ وآلية الكتابة السردية والوصفية، ولا يجعلانهما (النص والكتابة) مرتبكين ـ يضع القارئ أمام لوحة مثيرة للتمعّن في ألوانها الغامقة ونسيجها المعقّد، وهما (أي الغامق والمعقّد)، في الوقت نفسه، قدر بعض الشخصيات ومسارها الإنساني.
يوميات المنفى
عاش البطل/الراوي يومياته المنثورة في أصقاع الدنيا ومنافيها، في سعي دائم إلى الخروج من المأزق باستعادة الذاكرة والبحث في أسباب الخيبة والانكسار. هرب من بلده سوريا، بسبب انتمائه إلى أحد فروع المعارضة، وأمضى في باريس حياة تشرّد ودمع وقلق، وغادر مدينة الأضواء إلى نيقوسيا، فبدت هذه الرحلة الغريبة مستمرّة في التشرّد في أرض المجهول. حاول، للتخفيف من وطأة الجرح عليه، كتابة رواية. ولعلّ وصفه فضاءها العام ينطبق على «سيّدة الملكوت» أيضاً: «أستعيد المحور البنيوي الذي وضعته لروايتي في أن تكون نصاً مفتوحاً متدفّقاً يكسر حواجز الزمن ليكشف علاقة تشابك اليوميّ بالميثولوجيّ، الواقع بالحلم، كي أبلور حياة شباب جيلي في لحظة حسّاسة من تاريخ بلدي» (ص 178). واللحظة الحسّاسة في بلده مفتوحة ومتدفّقة هي أيضاً من الداخل إلى الخارج، لأن الصراع السياسي والثقافي نزاعٌ في داخل المعارضة الداخلية والخارجية، ولأن هموم الوطن الصغير متأثّرة بمآزق الوطن الكبير. هناك المعارضة السورية وأزماتها الكثيرة، في الخطاب السياسي ولغة التخوين والإحباط بسبب المطاردة والقمع والسجون والمنافي والمصالح المتشابكة والمتضاربة والذاتية والعامّة؛ هناك الحرب الثانية في الخليج، وما طرحته من أسئلة جديدة على الفرد والجماعة؛ هناك التشرّد الدائم والبحث المضني عن واحة ضيّقة لراحة جسد متعب ونفس مثقلة بألف همّ وانكسار وروح هائمة وسط هذه الصحراء الشاسعة. هناك، أيضاً، الحبّ المحاصر بجدار الخيبة والاختناق في تلوّث البيئة المضطربة والعلاقات المتوترة، وكلّها طالعة من فجوة الصراع السياسي والاجتماعي من داخل البلد الأم إلى بقاع المنافي والهجرات والذوات والعلاقات الشخصية والأرواح.
شكّلت «سيّدة الملكوت»، بالنسبة إليّ، لحظة ممتعة في السفر في هذا الأتون المضطرب في جغرافيا الأرض والذات والروح، وفي ذاكرة لا تنضب من الخيبات والآلام والفواجع. ولعلّ أجمل فقرة تختزل الروح الهائمة للنص المفتوح على جرح الإقامة وثقوب الغربة ومتاهاتها، كامنٌ في ما قاله البطل/الراوي في نهاية المطاف: «ها أنا مرّة أخرى بين السماء والأرض. مرّة أخرى، أحلّق في هاوية أفق مفتوح على عذاب تساؤلاتي. الشمس بدأت تميل للغروب. يا إلهي. هكذا أراها من نافذة الطائرة. غروب ساحر كالعادة لكنه مخيف. يا إلهي. لقد أصبح الأمر حقيقة، ولم يعد لعبة وقوف أمام المتوسط لافتراض أنه الفرات، ولأخاطبه متكسّرا «أيها المتوسّط في الروح». ها أنا مرّة أخرى بين السماء والأرض أمام أفق مفتوح على هاوية اللامكان» (ص 317).

الكتــاب: «سيـّدة الملكـــوت» (روايــــة).
الكــاتـــــب: المــثنّى الشيــــخ عطيـّة.
الناشر: «المؤسّسة العربية للدراسات والنشر» (بيروت، الطبعة الأولى، 2006).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى