المثقفون، أولئك الطغاة الآخرون
أدونيس
1 –
في المقابلة التلفزيونية التي أجراها معي الأستاذ الشاعر زاهي وهبي (تلفزيون المستقبل، بيروت 18 كانون الأول الماضي 2007)، سمّيت رداً على سؤال طرحه عليّ، بعض الشعراء العرب الذين أجد في كتاباتهم ما يعنيني بشكل خاص، عارفاً أن الإجابة عن مثل هذا السؤال لا يمكن إلا أن يخالطها شيء من الخطأ، خصوصاً، حين يتحتم عليك أن تحفر التسمية في ثلاثة أشخاص بين عشرات. وبدلاً من أن ينظر الى هذه التسمية في دلالتها التمثيلية نُظر إليها بوصفها حكماً وتقويماً قاطعين: وقوفاً الى جانب شعراء ضد آخرين، وانحيازاً الى بعضهم ضد بعضهم الآخر.
كان ذلك، بالنسبة إليّ، دليلاً إضافياً على أن الطغيان في الحياة العربية لا ينحصر في السياسة، وإنما يمتد كذلك الى الثقافة، بعامة، والى الشعر والرواية، بخاصة. فأنت لست حراً في أن تُفصح عن ذوقك أو رأيك في الشعر والرواية. وإذا تجرأت وأفصحت فسوف تُلاقي «جزاءك». خصوصاً أن بين الشعراء والروائيين مَن لا يجوز المساسُ بهم، كأنهم عجولٌ مقدسة. وبينهم آخرون ينبغي إهمالهم ونبذهم، ولا يجوز التلفّظ بأسمائهم. وبينهم آخرون كلٌ منهم يعدُّ نفسه أنه «الأول»، دون شك، ودون نقاش.
كان أسلافنا يقولون بلسان شاعرهم: «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، لكن، ها هي تجربة الحداثة في الثقافة العربية تقول ما يناقض ذلك تماماً. وها هي الحرب التي تُشنّ باسم الشعر والرواية والفكر لا تقل عنفاً عن الحرب التي تُشنّ باسم السياسة.
الطغيان في الحياة العربية شامل من ألف هذه الحياة الى يائها.
– 2 –
نَعُدّ المال الذي ينفقه النظام في بناء «الوطن»، غير أننا لا نَعدّ المشردين والسجناء والقتلى.
– 3 –
تمرّ الأفكار العظيمة في الحياة العربية كمثل غيوم تعبر الفضاء، دون أن «تُمطر»، ودون أن «تُخصب» أية تُربة، أو «تُغيّر» أي شيء. ويبدو أصحابها كمثل شهبٍ لا تكادُ أن تظهر حتى تنطفئ وتغيب.
– 4 –
منذ الطفولة، وبخاصة في المدارس الدينية، يتعلم العربي «فن» الموت، والنظر الى الحياة كأنها عبءٌ يجب الخلاص منه.
وإذا تذكرنا قول المتنبي: «الموت نوعٌ من القتل»، فإن الطفل العربي يبدأ حياته بتعلّم «القتل».
– 5 –
خَرْقُ «القواعد» الأدبية والفنية في المجتمع، هو، بمعنى ما، خرقٌ لكل ما هو «سياسي» في هذا المجتمع.
الغريب أن هذه القواعد خُرقت جميعها في المجتمع العربي، وبقيت السياسة، كما هي، بأجهزتها، وآلياتها، ومؤسساتها. الانقسام في هذا المجتمع واضح، وأحياناً يبدو حاداً بين «أهل الخرق» و «أهل السياسة».
هكذا يبدو المجتمع العربي جسماً ضخماً يعيش في حالة من الانقسام، أي في حالة من الاحتضار الدائم.
لا بد من استكمال الخرق لكي يعود هذا المجتمع الى الحياة، أو الى استكمال الحياة.
– 6 –
ما أقسى الحياة، إذا لم تحتضنها المخيلة.
– 7 –
كم هي عبثية وفاجعة في آن، حياةُ الفرد العربي:
لا يملكُ، لكي يدفع ثمن حياته،
إلا حياته نفسها.
– 8 –
الحساسية العربية السائدة في المؤسسة الثقافية تنهض أساسياً عن «الحكمة».
وصحيح أن «الحكمة» معرفة، لكنها أقل المعارف شأناً، ذلك أنها فكرٌ مُشترك، رخوٌ، مبتذل.
«الحكمة» شيخوخة الرغبة.
-9-
مكونات الفرد العربي، ثقافياً، دينية – اجتماعية. الجانب الذاتي الإبداعي فيها، شبه غائب أو ضئيل جداً.
لهذا يتحرر العربي ظاهرياً، لكنه في باطنه، في حقيقته، يظل كائناً دينياً.
– 10 –
هل يمكن تجزئة العصر الراهن على مستوى الكون؟
نقول، مثلاً: عصر عربي خاص، داخل العصر الكوني العام؟
بأية صفة آنذاك نصف هذا العصر العربي؟
بالعلم؟ بالتقنية» بالعقل؟ بالحرية؟ بالشعر والفن والرواية؟ بالفكر والفلسفة؟
ما العصر العربي في هذا العصر؟
– 11 –
متى نقدر أن نقول عن فكر أو أدب أو فن إنه يُطيل أمد التخلف؟
عندما يكون خارج المغامرات الكبرى، متصالحاً، ولا يطرح أي سؤال خلاّق على أي شيء.
– 12 –
إذا كان مبدأ السيادة الوطنية معياراً للدولة، فإلى أي مدى يمكن القول إن للدولة في العالم العربي سيادة وطنية، بالمعنى العميق الكامل لهذه الكلمة؟
– 13 –
«هناك عجائب كثيرة في هذا الكون،
لكن، لا شيء أعجب من الإنسان».
(سوفوكليس في «انطيغونا)