إنه بسام حجار.. الذاهب إلى الجوار المخيف
عارف حمزة ()
أي كلام لا يصلح ولا يخفف من الورطة الكبيرة التي وضعنا بها الشاعر والصديق الحنون بسام حجار. “هذه ليست مزحة”. علينا أن نقول له بالعيون الدامعة والمكوية بإتقان. ربما لو كان هنا الآن وفتح عينيه الحزينتين من جديد، ولو للحظة، كان سيعبر عن ذلك بالضحك طويلاً على ألمنا الذي تركنا فيه. ولكنه كان سيحزن. لأنه من حيث لا يدري كسر مزهريات قلوبنا الواحدة تلو الأخرى، وسقطت عليه الزنبقات هناك في الجوار المخيف. الزنبقات التي لن تذبل عليه. التي لن تذبل أبداً.
ليس بضعة أشياء كما قال يوما ًما. بل الملايين من الأشياء يمكن البقاء عليها ومن أجلها، على الأقل، ما أبشع هذه الكلمة وما أكثر أنانيتها، من أجلنا. هو الذي كان يرى أن الحياة يلزمها بضعة أشياء فقط علينا أن نفقدها كي نشعر بالحياة. الفقدان يعني تملك الحياة. لذلك كان عليه أن يجرَّ حطام نهاره كعربة خيل ٍ ثقيلة في عمل متتالٍ لشخص لا يستحق كل هذا الألم وهذا الحرمان. “جاء نهار ولم أنتبه، على الرغم مني، حين ماتوا جميعا، أقصد مَن أحببت منهم ومَن أحبني. لم أنتبه. ثم يأتي نهار آخر، بمحض المصادفة، أجره ُ كعربة خيل حتى أنهك َحطام النهارات جسمي”. يكتب بسام بهذه العذوبة الجارحة. بهذه الرقة الجارحة. هو الذي ظنناه محتشدا ًعلى الدوام وأنيقا ًوحنونا يكتب كشخص وحيد يطل على الحياة ولا يعيشها. وإلا ماذا تعني كتابته الدائمة عن الموت والفقد والخوف منهما على أحبائه؟. وحتى عندما لم يكن يطل عليها من مكان شاهق، وهو المكان الذي يليق به دائماً، كان يجلس في بيته كي يقطف الأيام من حمالة التقويم دون أن يعيشها، بينما كان يقلبها في المكتب بمزاج راكد. لذلك كان دائم العيش مع الماضي الذي لم يمت حتى أنه لم يمض.
أنا لا أتحدث عن بسام حجار الكاتب والمثقف. المترجم المحترم والمحترف. أنا أتحدث عن الشاعر والإنسان والصديق الحنون. عن الصامت الذي يتحدث كأنه يكتشف الكلام ويبتسم كأنه يخترع الابتسامة. عن فرط وجوده في كل مكان. عن التفاتته فجأة عند إشارة المرور دون أن يعرف المارة أي ملاك في السيارة الآن. دون أن يعرف الملاك، الذي قال له اتبعني، أي سكين طويلة وحادة قد زرعها في عيوننا التي مرضت من بعده.
أنا لا أتحدث عن بسام الزوج والأب والعاشق، فهناك من يستطيع أن يموت مئات المرات بدلا ً عني في ذلك، ولكنني أتحدث عن الأخ الذي ظل يحن لأقربائه الموتى حتى ظننت ُ بأنه يستدرج الموت بذلك ويتأبط ذراعه في الشارع ومبنى الجريدة.. ثم يذهب به إلى البيت ويحممه هناك بروية ورقة في البانيو الصغير المخصص لهذا الحبيب الكبير. أليس هو من قال: “خذني الآن/ فما يجديني عام آخر أو عامان/ أو ثلاثة “. وقال أيضاً ” لا الألمُ، / بل مكانه بعد أن يزول،/مكانه الذي له/ يبقى موجعا / لشدة ما يزول”. و”القفص والكناري / ثم / القفص بلا كناري”. وكذلك “نعش وحيد/ زنابق كثيرة”.
لم تكن تعرف الممرضة التي شكـَّت الإبرة في ساعده الأيمن، كي تأخذ قليلا ًمن دمه، أي وخزة رقيقة سرت في قلوبنا أيضاً. كما لم تكن تعرف عندما حلّلت دمه أي دم حللته، وكم من الملائكة ظلت تراقب تلك الخراطيم الصفراء وقد تحولت إلى ميدان أحمر للحب و الحنين. وإذا كانت تعرف ذلك، ولا بد لها أن تعرف الآن، فعلينا أن نذهب إليها ونربت على كتفها التي ربت عليها بسام حجار.
الطبيب يعرف. أنا أعرف ذلك. لذلك لا أستغرب أن يفتح الشباك ويصرخ من نافذة الطابق العاشر: أنا افتقدك. هذا أقل ما يمكن أن يفعله على طيرنا الذي طار للأبد.
أنا حزين الآن. مثل جيش مهزوم. يبكي بكامل جنوده وأسلحته وأشلائه وجياده الأصيلة الميتة و… يطارد ُ الأعداء بالدموع.
لا تعرف الردهات في المشفى، والأشجار البلاستيكية، والآهات الرطبة، ولوحة الأزهار الكبيرة… على أي عينين جميلتين كانت تطل !.
بهذه الطريقة
ترك
القصيدة
أرملة
وقراء الشعر
يتامى.
– ألن يأتي بعد اليوم؟. تسألُ الأشجارُ الريحَ في الرملة البيضاء.
– سيأتي… بالتأكيد سيأتي.. يقول البحر.
عندما قالت لي الصديقة الشاعرة عناية جابر بأن بسام حجار مريض، وأجرى عملية جراحية لاستئصال ورم سرطاني من وجهه، كنت ُ أريدُ أن أتصل به. أن أسمع صوته على الأقل. لكنني تراجعت ُعن ذلك. لأن بسام متعب الآن ويحتاج للراحة. لأن الذي كتب كثيرا ًعن الحزن لا يريد أن يكون مصدر حزننا. والذي تحدث طويلا ًعن المرض لا يريد أن يكون هدف المرض. والذي تحاور وجلس وضحك وذهب مع الموت لم يكن يريد أن يكون المرافق الأبدي للموت هذه المرة. وإنما كان يريد أن يوصل الموت، كصديق، إلى خارج البيت ثم يعود إلى أشغاله الهادئة.
لم أتصل. لكنني فكرت أن أكتب مقالة على شكل رسالة مطولة إلى أخته “دلال” التي ذهبت إلى “الجوار المخيف” كي تكف وتتوقف عن استدراج بسام إلى جوارها الأليف كأخت تفتقد الحنان. أن تتوقف عن زيارته في المكتب والسيارة والصلاة والمشفى والشعر والمنام.. وأن تبقى وحيدة هناك كما أرادتْ منذ البداية من دون سترتها الصوفية وفرشاة أسنانها… ولكنني لم أنشر الرسالة خوف أن أجرح بسام بالتدخل في شؤونه العائلية ورغباته. وكي لا يبدو الأمر للآخرين كوداع وتأبين مسبق لهذا الشاعر الحبيب.
هل سيتوقف والدك “يوسف” عن زيارة ذلك البيت الذي كنت تسكنه كمحارب صامت ونادم على الراحة ؟. والأشباح والكوابيس، يا بسام، وصوت تكسير الأواني هل غادر معك؟.
أنا لا أحقد على أختك دلال، ولا على والدك يوسف، لأنها استدرجتك كي تفسر وتهون عليها ذلك الرخام. أنا أحبها، ولكن لن أغفر لها، لأنها أخذت ما أحبه.
والآن يا بسام حجار الغالي أنت ترى جيدا ًما صنعته بي على الأقل. وتضحك وتعرف بأن كل هذه الكلمات لن تفلح بإعادتك إلي. ولكن قل لي الآن. الآن من فضلك: “إذا كانت سيارات الأجرة تمر بجوار نومك / أو إذا كان الطريق سهلا / لكي لا أضيع”.