الشباب.. في متاهة الأصالة والحداثة
فادي دخان
مسألة العادات والتقاليد المحلية والدخيلة, كثيراً ما تصدَّى لها علماءُ الاجتماع والمفكرون, من ابن خلدون في العصر الوسيط, وحتى دوركهايم في عصر الحداثة, وليس بجديدٍ القول: إن عملية التلاقح الثقافي ورسوخ البنية المعرفية الأصيلة لدى المجتمع تلعبان دوراً رئيساً في تقبُّل هذا المجتمع لسلوكِ الآخر وفكره، أو رفضه لهما.
وبما أننا نعيش في عصر بات فيه من المستحيل التصدي للغزو الثقافي، ومنع تسرُّبِ ما لدى الشعوب التي تعيش في عالمنا المعاصر, يصبح لزاماً علينا الالتفاتُ إلى مرجعيَّتنا الفكرية والعودةُ إلى بيئتنا الثقافية البكر, والتعاملُ بكل حيادٍ وموضوعية مع تراثنا المعرفي بصورته الخام. وما هذا الالتفات إلا لاستجلاء ما يتناغم وطبيعتَنا البشرية كشرقيين، وما يلبي تطلعاتنا وحاجاتنا المجتمعية والمعرفية.
إن عملية الرجوع إلى الماضي بكل تداعياته الفكرية والثقافية ليست عملية بسيطة تكتفي بالتغني على أمجاده والتباهي بإنجازاته على مختلف الصعد, وهي ليست كما يراها البعض تراجعاً للخلف بعكس التقدم للأمام, بل هي عملية معقدة تنشد استظهارَ ما عفا عليه الدهر من أصيل قيَمِنا، وتنفض الغبار عن أسسنا المعرفية وأصولنا الفكرية وطبيعتنا الثقافية, والتي ترتبط بنا ارتباطاً وثيقاً بالمعنى البيولوجي, وتدمغ وجودَنا الفكري وسلوكنا الاجتماعي بدمغتها الشرقية, شئنا أم أبينا, ولا يخفى ما للدراسات الأنثربولوجية العربية والتي بتنا نفتقدها الآن من أثر في كشفِ البنية الفكرية الفطرية, والطبيعة العقلية التي نتعامل وفقاً لها مع الوجود من حولنا..
من هنا, تغدو عملية استحضار التراث وإسقاط حاضرنا عليه ضرورةً ملحّة لتصحيح هذا الحاضر, والتوجه بثقة نحو المستقبل, إننا بذلك نعاود اكتشافَ أنفسنا وفقاً لإرهاصات العصر، ونستنطق جذورنا الفكرية والحضارية متخذين منها شحنة تدفع بنا نحو تحديات المستقبل في الوجود أو العدم.
ولعلنا لا نجاوب الصواب إذا قلنا: إن الشرق يقتات على فتاتِ ما ينشره له الغرب, بغثّه وسمينه, متخذاً من هذا الفتات دستوراً يساعده على اللحاق بركب التطور والحداثة, وما الشبابُ إلا تلك الفئة الأكثرُ تقبُّلاً للجديد واستعداداً لتبني الأفكار وتطبيقها على صعيد الممارسة اليومية.
إن ما نلمسه جلياً في فكر الناشئة هو ملازمة عقدة الأجنبي لفكرهم وتأصُّلها في وعيهم، بحيث غدا من الصعوبة بمكان الفكاكُ من هيمنته، ولا نعني هنا نبذَ ما لدى الآخر أو إنكارَ دوره في رسم معالم المدنية والحداثة، إنما نرمي إلى التقليدِ الأعمى والأخذ العشوائي لكلِّ ما نظنه جيداً أو عصرياً من عاداتهم وأنماط سلوكهم.
لقد عمل عصرُ الحداثة في أوروبا على سكِّ الحرية كعملة واحدةٍ ووحيدة، يتعامل بها مع مختلف قضاياه السياسية والفكرية والاجتماعية!, وكلُّ ما فعله متثاقفونا الشباب وغيرهم هو جلبُ هذه العملة “الحداثوية الغربية” وطرحُها في الشرق, غائباً عن أذهانهم موضوعُ تحويلها إلى عملةٍ شرقية، أو إضفاءِ معالم المجتمع العربي عليها. وهنا نحن اليوم ندفع “فرق السعر” بين مفهوم الحرية في الغرب وكيفية تطبيقه في المجتمع الشرقي.
علينا أن نأخذ من الحداثة روحَها, تاركين أمرَ تطبيقها وأشكالَ ممارستها إلى طبيعةِ كل مجتمع وتفهُّمه لها. على سبيل المثال: لنصنع من مقولة هيغل “الحرية هي تفهُّم الضرورة” شكلاً عربياً وتفهُّماً شرقياً لمدلولها وكيفيةِ إسقاطها على مجتمعنا, لا أن نقفَ ونرى كيف تعامل الغرب مع هذه المقولة, ومن ثم نستورد ممارسته لها على الصعيد العملي.
إن الانفتاح على الغرب والاطلاع على منجزاته في ظل غياب الوعي والتثقيف العربيين حديا بالناشئة إلى فقدان الثقة بما لدى مجتمعهم من منجز ثقافي وفكري- على ندرته كماً ونوعاً – واللجوءِ إلى امتصاص أشكال السلوك الغربي، دون أن تكلـَّفَ النفسُ عناءَ التفكير باتساق تلك الأشكال وانسجامها مع بنية المجتمع الذي يعيشون فيه, وهذا مردُّه إلى حالة الخواء الفكري عن كلِّ أصيل في ثقافتنا وتراثنا. مبتعدين عن حالة الثبات على قاعدة معرفية ومنهج سلوكي وسطي يستوعب ضروراتِ المجتمع، ويبحث في كلِّ ما يدفعه للتقدم, مؤمناً بالتغيير تبعاً لتغير الثقافة, ومؤمناً في الوقت ذاته بالثوابت الفكرية التي لا يجوز المساس بها أو تجاوزها.
– دمشق
fadiduk@gmail.com
خاص – صفحات سورية –