أموال افتراضية وواقع ملحّ…
نهلة الشهال
تعرفون قصة سليمان الحكيم مع الامرأتين المتنازعتين على أمومة طفل؟ لعلنا نقترب من ذلك مع ما يقال له إعادة إعمار غزة! ولكن وبداية، وقبل ذلك، هل طُرح التساؤل المشروع حول التكرار اللامتناهي ذاك لإعادة اعمار أجزاء من فلسطين؟ أقصد الطرح بجدية تستدرج استنتاجات: لماذا يمكن لإسرائيل أن تدمر بلا حدود ما تشاء، دون خشية من محاسبة من أي نوع، ثم تتولى أموال عربية ودولية التعويض؟ بل، وعلاوة على ذلك، يصرح من تبدد أموالهم بهذه الشاكلة أنهم لن يسمحوا بأن «تمس سمعة دولة إسرائيل»، كما قال رئيس الوزراء الفرنسي مؤخرا، في نهاية حفل العشاء السنوي الباذخ الذي يقيمه «تجمع المؤسسات اليهودية الفرنسية» وتحضره كل الطبقة السياسية… والانكى أن التجمع إياه يجيز لنفسه «معاقبة» من لا يروق له بحرمانه من شرف الدعوة! وفي مؤتمر شرم الشيخ لإعادة الاعمار، أعادت هيلاري كلينتون التذكير بشروط – هكذا هو اسمها الرسمي – الرباعية للتعامل مع حماس: الاعتراف بإسرائيل، الموافقة على الاتفاقات الفلسطينية-الإسرائيلية السابقة، ونبذ العنف. وهي شروط ديبلوماسية معقولة لتأسيس أرضية لتوافقات… شرط أن تفرض على طرفي «النزاع»! نتنياهو لا يوافق عليها، ولا يعترف بمنظمة التحرير (وليس بحماس)، ويرفض أوسلو و»حل الدولتين». وهو لا ينبذ العنف كما لم تنبذه ليفني، التي تهدد في الوقت الذي ينعقد فيه مؤتمر شرم الشيخ بالعودة لتأديب غزة. الإمعان في التغاضي عن كل ذلك، في هذا الموقع الحساس والحاد من العالم، يحوّل السياسة إلى وضعيات وليس إلى أفعال، والاطراف إلى موقع «لاعبي أدوار»، كما في المسرحيات الرديئة.
تلك هي مأساة السيد محمود عباس. فهو يحظى بدعم كل هؤلاء، ولكن بلا اثر لتلك المكانة الدولية «الشرعية» على الواقع. يردد صبح مساء التعويذة التي لم تعد سحرية: «حل الدولتين»، بينما تعلن»السلام الآن»، وهي منظمة إسرائيلية معتدلة، صهيونية، ولا تضع موضع شك وجود إسرائيل، أنها اكتشفت مخططات حكومية قيد التنفيذ لبناء 73 ألف وحدة سكنية جديدة في الضفة الغربية، ولمضاعفة عدد المستوطنين. ومن دون حاجة لاكتشافات، تتوسع مستوطنة معالي أدوميم لتتصل بالقدس، وتتم مصادرة ما تبقّى من بيوت عربية في المدينة بهدف تدميرها، ويتكرس فصل الضفة الغربية إلى قسمين غير متصلين، كما السيطرة الإسرائيلية التامة على القدس: هذه وقائع على الأرض وهي مشيدة من باطون مسلح، ومن بشر يحتلون المكان، لا يأبهون كثيراً بما يقال من ثرثرة حول «حل الدولتين».
أما غزة فتبدو وكأنها ستارة تخفي هذا الذي يجري. الحرب على غزة، دمار غزة، ثم إعادة اعمار غزة، ومعضلة حماس في غزة!! ضجيج طحَنَ الناس في غزة ليس إلا. فالقطاع لا يمكن أن يكون قاعدة لمشروع سياسي، وقضية هوية من يتولى فعلاً السيطرة عليه ليست أكثر من وهمٍ في أفضل الأحوال، أو تواطؤ مع ذلك الواقع البشع، سواء كان واعياً أو لم يكن: فذلك لا يؤثر في النتائج. ولقياس مقدار العبث في الموقف العام، نستحضر تصريحات السيد محمود الزهار، الذي قال باطمئنان لا يحسد عليه، إن السلطة عاجزة على كل حال عن توزيع الأموال والمساعدات الدولية المرصودة لغزة، ولا بد من التعامل مع حماس.
نعود إلى قصة سليمان الحكيم. فهل تعطَّل تلك المساعدات كي تثبت حماس أنها مرجع غزة؟ سيما والأهم، أن تلك المساعدات ما زالت افتراضية، وسط ضبابية الموقف السياسي الذي يلف المسألة الفلسطينية. لا يتبع السؤال منطق سد الذرائع ولا يتطلبه من حماس، ولكنه يطرح موضوع التاكتيكات ووظيفة التصريحات. فمن الواضح أن مؤتمر شرم الشيخ ينتمي إلى آلية سياسية وظيفتها الأساس ليست الهدف الإنساني نفسه – إنقاذ الناس في غزة – وإنما التحشيد العربي- الدولي حول السلطة. ليس حباً بها، وإنما لأنها أفضل وسيلة متوفرة تتيح الاستمرار في «إدارة الموقف» حول المسألة الفلسطينية. ماذا تعني إدارة الموقف؟ انها تحديدا لعب الأدوار ذاك، التمثيل والادعاء، عوضاً عن التصدي للاستعصاء السياسي القائم، وهو أولا وقبل كل شيء إسرائيلي، كما هي إسرائيلية الإجراءات الفعلية المتواصلة على الأرض لفرض واقع محدد.
ومن جديد، تقع حماس في الفخ: لا تعترف بأوسلو ولكنها تخوض الانتخابات التشريعية، وحين تتورط بالحصول على الأغلبية، تشكل حكومة، وتمضي وقتها بعد ذلك في الدفاع عن شرعية تلك الحكومة وفي إثبات أن لا شيء ممكن من دونها. المنطق نفسه اليوم حيال المساعدات الدولية لغزة، وحيال عناصر التسوية العائدة لها، ومنها فتح المعابر، إلى آخر النقاط المطروحة. فعن أي شرعية نتكلم؟؟ إنه خيار لا يمكن لحماس تلافي الإجابة عنه. فهي، إن كانت تستهدف بالدرجة الأولى الشرعية الدولية الرسمية، تعرف، كما قالت كلينتون، الشروط. وهذه على كل حال شرعية قاصرة، ليس لأن المجتمع الدولي غير مهم أو غير موجود، بل لأنه لا يملك اليوم حلا لفلسطين، وإن مؤقتاً وإن مرحلياً وإن جزئياً: لا يملك ما يقدمه لفلسطين سوى السعي لإبقاء الفلسطينيين على قيد الحياة… بل حتى ذلك ليس مؤكداً! ولقد اضمحلت شرعية السلطة لهذا السبب بالذات.
هناك بالمقابل شرعية مفتقدة: إنها – ستكون – وليدة تعيين الأفق، الرؤية التي يهتدي بها النضال الوطني الفلسطيني اليوم، وفي ظل مجمل تلك المعطيات، مضافاً إليها القدرة الفائقة على الصمود وفق فعل إرادي يتحدى المعطيات الموضوعية، ولكنه يغرف مما هو أعمق وأبعد من اللحظة. وكمثال، لو يتم تبني رفع شعار استقالة السلطة أمام الأمم المتحدة، وكسر حلقة «إدارة الموقف» تلك و»شغل الأدوار»، فيتعين أن يتمكن المجتمع الفلسطيني من تحصين نفسه عبر امتلاك أدواته السياسية والأهلية، القادرة على قيادة الصراع مع محتل انكشف عنه كل غطاء بفعل غياب الوسيط أو الستارة التي هي السلطة كمؤسسة. فما هي – وأين هي – تلك الأدوات، وما هي مهامها، وما هي عناوين إدارة الصراع مع الاحتلال، ما هي أطره، بما فيه الصراع المسلح نفسه…
الحياة