النص الكامل لكلمة الشاعر السوري فرج بيرقدار
خلال مراسم تسلُّمه جائزة “توشولسكي” في السويد
أصدقائي الأعزاء..
بدايةً بودي الاعتذار عن ركاكة إنكليزيتي، وربما تشوُّشها بسبب محاولات تعلُّمي السويدية.
يقول المثل الإنكليزي: “إذا أنت ركضت وراء نعجتين، أو لغتين في مثل حالتي، فإنك لن تمسك شيئاً”.
سأحاول الركض في كلمتي المقتضبة الآن وراء الإنكليزية فقط، فإن خذلتني اللغة هنا أو هناك، فأنا مطمئن إلى أن مشاعري لن تضل طريقها إليكم.
شرف عظيم لي أن تكون جائزة توشولسكي من نصيبي لهذا العام، وأن يكون ممثل الحكومة السويدية السيد ““Frank Belfrage، هو من تفضَّل بتسليمي الجائزة.
في الحقيقة أشعر أن الكلمات لا تكفي لشكر نادي القلم السويدي/ أسرتي في المنفى.
بودي لو أشكرهم بيديَّ وعينيَّ وقلبي.
كنت ضيفاً على نادي القلم الكاتالوني في برشلونة، حين اتصلت بيMaria Modig رئيسة لجنة “كتَّاب في السجن” في نادي القلم السويدي، ومعها الكاتبة السويدية من أصل إيراني “آزار محلوجيان”، لتزفَّا إلي نبأ فوزي بجائزة توشولسكي.
أومضت في ذاكرتي أسماء عدد ممن فازوا بها قبلي من أمثال: آدم زاغاييفسكي، دون ماتيرا، شيركو بيكه سه، سلمان رشدي، فرج زركوحي سليم بركات، تسليمة نسرين، سمير اليوسف، ناصر زرافشان، وآخرين كثر.
أمطار غزيرة بدأت تهطل في داخلي. بعض تلك الأمطار يشبه البكاء، وبعضها يشبه الرقص، بعضها يشبه حنين السجناء إلى المنفى، وبعضها يشبه حنين المنفيين إلى بلادهم حتى لو كانت كلها سجناً.
ولكن مثلما كنت في السجن محاطاً برفاق قادرين على ترويض وحشية السجن.
فإن لي في المنفى أيضاً أصدقاء قادرين على ترويض وحشة المنفى.
أنا شخص محظوظ حقاً، مثلما اعتقدتُ دائماً، حتى حين كنت في سنوات الرمل والجمر والغياب، إذ أعلنت يوماً، أمام أصدقائي ورفاقي في السجن، أنني المحظوظ رقم واحد بين جميع سيئي الحظ.
يومها اعترض، على تفاؤلي، الصديق الدكتور عبد العزيز الخيِّر بقوله: محكوم خمسة عشر عاماً، وتعتقد أنك محظوظ؟!
ربما كان معه حق في ذلك الحين، وإن كنت أتوقَّع الآن أنه يمكن أن يعيد النظر، أو يجد تفسيراً ما لحقيقة إحساسي أو حدسي.
ما أكثر أوجه الشبه بين السجن، أعني بلادي، وبين المنفى. ولكي لا يبدوا متطابقين تماماً، ينبغي علي أن أشير إلى أنني أسير في شوارع ستوكهولم بدون أن أتلفَّت ورائي لأعرف مَنْ يتعقَّبني.
في وطني الأمّ كنت مضطراً للتلفّت باستمرار إلى الوراء ومراقبة كل ما حولي.
أمضيت حتى الآن سنتين آمنتين وسعيدتين في ستوكهولم.
للأسف أمضى توشولسكي سنواته في السويد على نحو تراجيدي مؤلم، بلغ ذروته في انتحاره الفاجع.
أتراه احتجَّ على ظلم ظروفه في السويد، أم على تعامل السلطات مع كاتب مثله، أم على انسداد الأفق الذي كان يحلم به، هو الشاعر والكاتب المرهف الهارب من الجحيم النازي في ألمانيا، بحثاً عما لم يجده فيها، وفتَّش عنه في السويد فلم يجده أيضاً؟!
إن لم تستطع السويد إنصاف توشولسكي في حياته، فقد عرفت كيف ترد له الاعتبار وتكرِّمه في مماته من خلال جائزة سنوية باسمه.
أعتقد أن السويد اليوم غيرها في أيام توشولسكي، كما آمل لها أن تكون نحو الأفضل دائماً في المستقبل.
شكراً مرة أخرى لنادي القلم الذي استحدث الجائزة في عام 1984، وأطلقها للمرة الأولى عام 1985.
أعود لأقول إني حقاً سعيد هنا في ستوكهولم، إذ لا يعترض سبيلي أحد، ولا يتطفَّل علي أحد، ولا يتعقَّبني في حلي وترحالي أحد، ولا يعرفني إلا الأصدقاء.
أجهزة الأمن السويدية، بطبيعة الحال، لا تتعقَّب إلا الخطرين على الأمن العام، بمعناه السويدي وليس السوري، فهل تتوقعون أن فوزي بالجائزة سيجعلني خطِراً، أم سيجعلني أكثر أمناً وحصانة؟
لكم أن تضحكوا إذا كان الضحك هو الجواب الملائم.
فوزي بجائزة توشولسكي سعادة كبرى عصية على الترجمة.
ولكن تقتضي الصراحة مني أن أقول: إنها ليست سعادة صافية، ذلك لأن مثقفين وكتاباً عديدين في بلادي تضيق عليهم زنازينهم.
ليس البروفيسور عارف دليلة أولهم، ولا المفكِّر ميشيل كيلو آخرهم.
لا أتحدَّث عن بلادي إلا في وصفها مثالاً لعديد من البلدان المحكومة بطغاة، قد لا يكون الغزاة إلا واحدة من “عطاياهم”!
آمل أن يكون بإمكاننا أن نفعل شيئاً من أجل أولئك الكتَّاب. إنهم بأمسِّ الحاجة إلى دعم أو حماية ربما مشابهة للتي حظيت بها منكم سابقاً وأحظى بها الآن.
أخيراً وليس آخراً.. أتمنى أن تتفهموني لو قلت:
إني لا أستطيع أن أتخيل، أن نفس الكلمات، التي أودت بي إلى السجن أربعة عشر عاماً في بلادي، قد منحتني جائزة توشولسكي في السويد؟!
حقاً إنها لمفارقة غريبة.
أليست كذلك؟!