سمر يزبك في «رائحة القرفة»: الفقر والثراء وجهان لهاوية واحدة
شوقي بزيع
تتصدى الكاتبة السورية سمر يزبك في روايتها الأخيرة »رائحة القرفة« الصادرة عن دار الآداب لموضوعة الجسد والرغبة والعلاقات العاطفية المثلية في المجتمع السوري والعربي بوجه عام.
والحقيقة أن القارئ العربي بدأ يقارب هذا النوع من المواضيع بالكثير من الحذر والتوجس ليس بسبب طبيعته المحافظة، وهو الذي يحتاج أكثر من أي أحد آخر إلى من يخلخل القيم السائدة ويعمل على تقويضها، بل لأن موضوعة الجنس والعلاقات المحرمة باتت منذ سنوات عدة محلاً للاستغلال واستثارة الغرائز والرغبة في الرواج والانتشار السريع. وقد شهد هذا النوع من الكتابة طفرة واسعة وغير مسبوقة في العقدين الفائتين بحيث ازدحم سوق النشر العربي، والخليجي بوجه خاص، بعشرات الأعمال الروائية التي لا تقف عند حدود الإيروتيكية المحضة بل تتعداها بأشواط لتتلمس طريقها إلى الانتشار عبر الابتذال البورنوغرافي في أحط أشكاله وأكثرها سوقية وافتعالاً.
لا يعني ذلك بالطبع دعوة مبطنة إلى الردة والنكوص والعودة إلى تقاليد الكتابة السردية المحافظة. ذلك أن التجرؤ على تلمس الواقع وكشف النقاب عن بواطنه وخفاياه كان في أساس التقاليد العربية الكتابية سواء في »ألف ليلة وليلة« أو في كتب التراث وخزائنه النثرية والشعرية المتمثلة في كتابات الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وأبي نواس وابن الرومي وابن حزم الأندلسي وعشرات غيرهم. ولكن الجنس في هذه الأعمال لم يكن يرد في سياق الإثارة الغرائزية المفتعلة أو بهدف الترويج والانتشار بل في سياق التفاعل الطبيعي مع قضايا البشر ونوازعهم وحاجاتهم الطبيعية. في حين أن الكثير من الروايات العربية التي صدرت في الآونة الأخيرة تفتقر إلى المشروعية والعصب والمسوغ السردي ويبدو الجنس فيها متقصداً لذاته ونافراً ومنقطعاً عن السياق الروائي أو الاجتماعي العام.
ما يمنع سمر يزبك من الوقوع في هذا الفخ هو قدرتها اللافتة على انتزاع الجسد من شهوانيته النافرة والعزلاء وربطه بمنابته الاجتماعية والطبقية والنفسية، بحيث يصعب على القارئ أن يفصل بين الإيروتيكي وبين الإنساني أو السوسيولوجي في الرواية. وهو إذ يشعر أحياناً بذهاب الكاتبة في تجرؤها إلى التخوم الفاصلة بين الأدبي والغرائزي إلا أن يزبك سرعان ما تقنعه بالعدول عن هواجسه وريبته عبر رد الأفعال إلى خلفياتها والنوازع إلى مصادرها الأولى في ظلامة النفس. وما يميز يزبك عن غيرها من كاتبات الإثارة الساذجة، اللواتي تكاثرن كالفطر في السنوات الأخيرة، هو وعيها العميق بموضوعها الذي يجمع بين البحث الاجتماعي والتحليل النفسي دون أن يقع في شرك أي من المقاربتين، ودون أن يخسر سلاسته السردية المشوقة. فالكاتبة تحرص أشد الحرص على منع وعيها المعرفي وثقافتها الواضحة من إفساد السرد وإرهاقه تحت وطأة الكتابة الذهنية المتعسفة، وهو ما سمح للرواية بأن تنمو في فضاء سلس وتلقائي رغم الجهود المضنية التي تقف وراءه.
تبدأ »رائحة القرفة« بحادثة مفصلية وحاسمة في حياة أبطالها، هي حادثة اكتشاف السيدة الدمشقية الثرية حنان، وعلى حين غرة، بأن خادمتها الفتية علياء تقيم علاقة جنسية مع زوجها الكهل أنور بعد أن ضبطتهما معاً مضطجعين في سرير واحد. وفي حين أن الزوج لم يظهر أثناء المداهمة تلك أية ردة فعل تذكر، وهو الذي تحولت علاقته بزوجته إلى ما يشبه الرماد، لم تجد الخادمة علياء ما تفعله إزاء اضطراب سيدتها المأساوي سوى الهرب ومغادرة المنزل الفخم الذي أقامت فيه سنوات طويلة. كان يمكن لهذه الحادثة بالطبع أن تمر مرور الكرام، وهي التي لا تختلف بشيء عن حوادث الخيانات المماثلة التي يشهدها العالم كل يوم، ولكن سمر يزبك تتخذها ذريعة مناسبة لمشروعها السردي ولتسليط الضوء لا على حياة بطلتيها حنان وعلياء فحسب بل على أسرتيهما المتباينتين في النشأة والمكانة والظروف، كما على جوانب مختلفة من حياة المجتمع الدمشقي وأحواله وتقاليده.
كانت لحظة الصدام المباغتة تلك هي الفرصة المؤاتية أمام كل من السيدة وخادمتها للعودة إلى لحظة الحقيقة التي لا بد من انكشافها، كما كانت ذريعة الكاتبة لتمكين بطلتيها من استعادة حياتيهما المتباينتين والمتقاطعتين في الآن ذاته. هكذا تتوزع فصول الرواية بشكل شبه عادل بين حنان وعلياء عبر نوع من الفلاش ـ باك الذي يعيد بذرة المأساة إلى ترابها الأول. يتاح لنا إذ ذاك أن نكتشف أن غضب حنان الجم لم ينصب على علياء بسبب علاقتها غير المشروعة بالزوج شبه العنيف بل بسبب رغبة حنان في امتلاك علياء بالكامل بعد أن ارتبطت بها بعلاقة جنسية مثلية لسنوات عدة. بعد ذلك تعود الكاتبة بنا القهقرى لنتعرف إلى حياة البطلتين السابقة على لقائهما المشترك، فعلياء القادمة من أحد أكثر ضواحي العاصمة السورية فقراً تنتمي لأسرة بائسة يتسلط عليها أب فظ وجاهل وشهواني، فيما الأم وبناتها يعملن خادمات في بيوت الأثرياء ويرزحن تحت وطأة الجوع والشظف والمهانة. في ذلك الحي البائس يسكن سائقون منحلون وجنود فقراء ولاجئون مدقعون وبشر في أسفل السلم الاجتماعي. وفي ذلك الحي تعشش الجريمة مع الفقر والانحراف مع الجهل والتخلف. وفي ذلك الحي تضطر علياء الكبرى لمسايرة رب عملها الشهواني من أجل الحصول على القليل من المال، ثم لا تجني بعد ذلك إلا الإعاقة الدائمة بسبب ضرب أبيها المبرح لها ومن ثم التعرض لاحقاً للاغتصاب الذي قادها إلى الموت، لتحل محلها علياء أخرى هي بطلة الرواية التي عاشت مع صبيان الأحياء الشرسين وتخلقت بأخلاقهم وطباعهم الذكورية.
وكما تهرب علياء من واقعها المزري تهرب سيدتها حنان من واقعها البورجوازي الخالي بدوره من العاطفة والدفء الإنسانيين. فهي تنفر من أبيها لضعفه وتنازله عن دوره الأبوي، وتنفر من أمها لفظاظتها وتسلطها المهين على الأب، وهي إذ تجبر في الوقت ذاته على الارتباط بزوج لا تحبه ترى في جسد خادمتها علياء ما يتيح لها فرصة إصلاح الخلل الذي أصابها بثلم عميق في الروح كما في الجسد، وفرصة مماثلة للانتقام من تسلط الأم من جهة ومن الحياة التي حرمتها من الإنجاب من جهة ثانية. هكذا باتت كل واحدة من المرأتين بحاجة إلى الأخرى، حيث لا الغنى ولا الفقر وضعاهما على طريق السعادة. وحين كانت علياء تهرب من منزل مخدومتها كانت تنظر إلى الوراء باستمرار لعل هذه الأخيرة تعيدها إلى فردوسها الضائع، في حين كانت حنان تنتظر دون جدوى عودة خادمتها من تلقائها إلى المنزل، وكانت صرختها باسم علياء هي الاستغاثة الأكثر مأساوية بين الاستغاثتين قبل أن تعود علياء إلى حي الرمل وحنان إلى حي المهاجرين.
تصدر الكتابة الروائية عند سمر يزبك من منطقة الوعي الشديد بالعالم، كما سبق وأشرت، ومع ذلك فهي تملك أسلوباً متوتراً ومشدود العصب، ومتصلاً بالقلب دون أن تغرقه العاطفة أو تحوله إلى إنشاء توصيفي أو تفجيع ميلودرامي. لا بل إن الكاتبة تعرف تمام المعرفة كيف تعدد مستويات السرد، جامعة بين مستلزمات التدفق الشعوري من جهة وبين مقتضيات التحليل والتقصي والتعليل المنطقي للوقائع في بعض الأحيان. وهو ما تستعين عليه بالمونولوج الداخلي الذي يتكرر غير مرة لتظهير صورة الصراع داخل النفس الإنسانية، أو بتنويع مستويات السرد الذي يظهر عن طريق توزيع الخطوط بين الأبيض والأسود، كما في بعض روايات فوكنر وفيرجينيا وولف. كما تلجأ يزبك إلى الأسلوب الإيحائي، أو إلى التصعيد الحسي ذي الدلالة الرمزية والبسيكولوجية، الذي يذكّر أحياناً بمناخات كافكا في رواية »التحول«، كما في المقطع التالي:
»الباب كان موارباً. ولولا الضوء المنبعث كخط مائل نحو مرآة الممر لما انتبهت حنان الهاشمي إلى الهسيس، وهي تمشي حافية القدمين، بعد أن قفزت من فراشها كملسوعة تحلم أنها تحولت إلى امرأة بخمس أذرع وثلاثة أثداء«.
وإذ تنحو كتابة سمر يزبك أخيراً إلى الإحاطة بالجزئيات والتفاصيل تحرص في الكثير من وجوهها على اقتناص الحواس واستنفارها وتوظيفها في خدمة السرد، بحيث تتحول رائحة القرفة إلى مصدر دائم لشحذ الشهوات، والذكريات أيضاً، بما يلزمها من عناصر الاستثارة والترجيح. فضلاً عن تحول الرواية في بعض الأحيان إلى ما يشبه الوثيقة الهامة التي تكشف عن عادات المجتمع الدمشقي وطرائق عيشه الموزعة بين عالم »الحمامات«، المغلق على تقاليده وطقوسه وأبخرته الشهوانية، وبين عالمي الفقر المدقع والغنى الفاحش اللذين يتقاسمان غربة الإنسان ومآله المأساوي.