صفحات ثقافية

مجرّد تأبين

null
عناية جابر
يستفزّني الانتباه المتأخر الى الميتين. من يموت منهم حديثاً. يبقى الميت طي النسيان في حياته, حتى يموت موته الأبدي فتستوي في الكتابة عنه عند الجميع, عاطفة الحب والفقد. يموتون فيصبحون في تناول كل من تعوزه مقالة ويحتاج الى حيّز في جريدة. يموتون, وهي الفرصة اخيراً, سانحة للمشتغلين في الصحف لتدبيج ما عجزوا عن تدبيجه في حياة الميت وفي انجازاته. يكثر الحب ويتدفّق التذكر وتنهال الألفة, وهو الموت يوّحد الكتابات في خوضها المنسحب على الميتين كافة. الشاعر الجميل, والروائي العظيم, والصديق الحميم, حتى ليتشّهى واحدنا حياً ما يقال في ميت شبع موتاً. هذه كانت صديقته الحميمة, وذاك رفيق دربه وكاتم أسراره, وآخر اكتشفه بعد موته, ورابع لا يجد ما يقوله من فرط حزنه على الفقيد, مع ذلك تكرّ سبحة كلماته حتى لتفوق كلمات من صدف أن عرفه فعلاً.
لا يخلو الأمر من مُتفجّع عن حق, ومن متألم صادق أو كاتب موضوعي, ثم إن «مهنة» الكتابة في الصحف, تستدعي على ما نعرف جميعاً للأسف, أن نهبّ هبّة رجل واحد (وامراة واحدة) لوداعات الميتين, والراحلين للتّو. والحق, أن هذا عرف صحفي واجب درج عليه الإعلام العربي كما الغربي, سوى هذه المغالاة عندنا, لدرجة الوقوع في المغالطات أحياناً, التي تجعل الكتابة في مطلق راحل أو راحلة, مُتاحة لمجرّد ملء «هواء» بياض الصفحات, ولكل من عنّت بباله مرثية او مناجاة للروح الذاهبة أو للكتابة لمجرد الكتابة أو لتأبين الذات في ثنايا تأبين الميت.. كلمات التأبين في الصحف الغربية, منتقاة بدقّة وموضوعية, وموكلة الى أكثر الكتّاب قرباً وفهماً من نتاج الراحل او الراحلة وإن لم تعدم بعض الإضاءات الحميمة اللماحة والمقتضبة, على مزايا طبعت الراحل وصفات وسمت حضوره.
لا أستثني نفسي, أنا المشتغلة في الإعلام وتطالني منه تردداته المخجلة أحياناً, فتراني أُقحم مساهماتي السريعة, وإن (على استحياء) في ما كنت وددت لو حُيّدت عنه. سوف يحضر هنا السؤال الذي لا بدّ من حضوره: هل نترك لكاتب رحل, ان يرحل من دون وداع؟ هل تكريمه بعد مقدمتي الطويلة هذه, ضرب فحسب, من ضروب احتياجاتنا الإعلامية الى ملء شغور الصفحات؟ الحقيقة وببساطة أن رحيل المبدعين الذين أغنوا حياتنا ومفرداتنا يحتاج الى سوى هذه الكرنفالات التأبينية والاستعراضات العاطفية. قد تكون كلمة نعي, أو بعض السطور في تعداد اعمال الراحل, أو جملة
دافئة, أكثر من كافية, على أن تتبعها من دون استعجال دراسات المختصين والمتابعين الجادين لأعمال المبدعين الراحلين, يكون مكانها في الدوريات أو الكتيبات أو حتى الكتب بحسب درجة أهمية الراحل وعطاءاته الثقافية والإبداعية عموماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى