تعقيباً على يوسف عبدلكي حول لوحة خالد الساعي: هل هي عودة إلى اللون الواحد؟
علي العائد
في مقالة يوسف عبدلكي (أضحى التيار الحروفي في مكان ناء من التجربة التشكيلية.. الفنان خالد الساعي يذهب إلى الحج والناس راجعة!)، المنشورة في السفير الثقافي بتاريخ ٦ شباط، كمٌّ هائل من التعالم في التجربة الفنية العربية، أدخلنا في تعميمات من الأسماء، وتعميات تقنية جعلت المقارنة التي أرادها بين رواد الحروفية، وبين تجربة خالد الساعي، تذهب إلى وضع النتيجة قبل المقدمات، فقد أخذنا في استعراض تاريخي طويل، في مقالة هي أصلاً قصيرة، ولا تحتمل هذا الخلل في التوازن، ليقول منذ البداية »الفنان خالد الساعي يذهب إلى الحج والناس راجعة!«، فهل يقصد حقاً أن الساعي يكرر استنساخ تجارب الحروفيين الأوائل في السبعينيات؟
لعل الأستاذ عبدلكي يعرف أن الاستنساخ هنا غير متاح، فاستخدام خط الثلث في لوحات الساعي ليس مذمة، لكن الفضيلة التي أتى بها الساعي هي إعادة إحياء خط الديواني الجلي، الطاغي بجماليته على معظم لوحات معرضه في المركز الثقافي الفرنسي، وهو المعرض المناسبة لما كتبه الأستاذ عبدلكي. ولا أعرف إن كان من حسن الحظ، أو سوئه، أنني لم أطلع سوى على أعمال اسمين من الأساتذة الذين ذكرهم عبدلكي، هما التونسي نجا المهداوي، والعراقي ضياء العزاوي، فإذا كان المهداوي يعتبر أحد أساتذة الساعي بمعنى ما، كون المهداوي حروفياً، فإن الساعي قد تجاوز الأستاذ موهبة وإنجازاً، وهذا مما يسعد الأستاذ أكثر مما يغيضه، أما ضياء العزاوي فلن نجد بينه وبين الساعي مشتركات، فالعزاوي تشكيلي مبدع بالمعنى الأصولي للكلمة، ولا يمكن بحال وصفه بالحروفي، ولا يعني أن فناناً ما يضع حرفاً في مكونات لوحته أنه حروفي، فمثل هذه الحروفية تقف على هامش التشكيل. ولولا أن التقنيات جعلت الحدود بين الفنين المتمايزين تضيق لكان لنا أن نفصل بينهما كلياً.
التدفق العاطفي؟
ونعلم أن المنطقة المشتركة بين الفنان المخطط والفنان الملون تجعل الحروفي أقرب إلى المخطط، غير أن الحروفي جعل من اللون منطقة مشتركة أخرى مع التشكيل. ومن هنا يمكن تنبيه الأستاذ عبدلكي أن الحرف إحدى وسائل الحروفي في إنتاج لوحته، وليست كلها، وقد يضير لوحة الساعي، أو لا يضيرها، أنه يستخدم أسماء للوحاته تثير شبهة التعالم، لكن استخدام عبارة صوفية لن تجعل منه صوفياً، وإذا استخدم اسم (بلوز من شيكاغو)، أو (لغة احتفالية ـ سان جون بيرس)، فهذا لن يذهب بخيالنا سوى إلى نوع من التأثر المحمود كما أظن لدى معظم الفنانين. ولعلك أستاذ عبدلكي تحاول أن تطبق، كناقد، مقاييس بصرية واقعية على لوحة الساعي الأقرب إلى التجريدية، لكننا لم نجد في معرضه الأخير مقولة أو جملة واحدة في جميع لوحاته، إنما هي عبارة عن تشكيل من حروف على مساحة لونية قاتمة، وقد قدمت أنت نفسك وصفاً غرافيكياً لها في مقالتك، رغم أنك قللت من القيمة الغرافيكية لتقنيات الساعي، التي لم تصل إلى تلك المتانة لدى أحمد شبرين، أو الحسابات والحساسية اللونية لدى محمود حمّاد، أو التدفق العاطفي لدى شاكر حسن آل سعيد، أو التقشف الصوفي لدى حامد عبد اللـه. ولا أعرف تماماً ما الذي تعنيه بالتدفق العاطفي، أو التقشف الصوفي؟ وإذا لم يكن الفن مساحة مفتوحة للألوان والأخيلة، وحتى المبالغات والشطحات، فأي الأشياء تستحق منا الترف والذهاب في الأحلام، حتى المستحيلة منها؟ وهل الذهاب في الغرافيك واسكتشات الفحم لأسماك وأحذية هي ما يستحق المديح؟ لا أعتقد أن التقشف في الأحلام فنياً على الأقل، يستحق منا إحالة الحياة إلى الأبيض والأسود فوق ما هي سوداء أصلاً! إلا إذا كنت تحب اللون الرمادي؟ ولا أظنك كذلك.
ولولا أن الأستاذ عبدلكي، يأتي من خلفية يسارية معارضة، حتى في نقده الفني، لكان في مقدورنا أن نضع ملاحظاته على الاحتضان النفطي للحروفية في مقامه الصحيح، إن كان في الفن مجال للصحة والخطأ، لكن رائحة »الأصولية« الفنية التي تفوح من لهجته تجعل من نقطة انطلاق منطقه النقدي مقتلاً لمقولته في هذه الجزئية بالذات، فاللوحة الحروفية عند خالد الساعي لقيت التقدير من نفط أميركا وكندا والأرجنتين، ومن نفط سويسرا وفرنسا، قبل نفط الخليج العربي، ونفط إيران وتركيا، فأية تهمة تثير الفخر هذه، وأية تهمة أن يلقى الفنان التقدير الفني والمالي، وأية تهمة يمكن أن توجهها إلى مجموع لجان تحكيم الجوائز التي نالها الساعي في أكثر من مكان خارج العالم العربي، وبمعدل جائزة واحدة، على الأقل، في كل سنة منذ عام ١٩٩٧!
أعرف تماماً أن الأستاذ يوسف عبدلكي مقل في الكتابة السياسية والنقدية، فما الذي دفعه أو حرّضه على الكتابة، وهو الفنان الغرافيكي والكاريكاتيري، بمعنى أن هذا هو مجاله ومنطقته التعبيرية؟ لعلَّ في معرض الساعي الأخير ما يلفت الانتباه إلى درجة الخروج من عزلة الصمت، وهو كذلك، فالترف اللوني يثير نوعاً من الغيرة عند كل مشاهد، فكيف بالفنان!.. ولا أظن أن يسارياً، مثل يوسف عبدلكي، دفع ثمناً كبيراً لخياره، يلجأ اليوم إلى تمجيد اللون الواحد حتى لو كانت الجماهير الغفورة، كلها، ذات لون واحد، لكن هذه الجماهير، إن كانت موجودة ومتابعة للفن، لا تطمح بالتأكيد إلى العودة إلى اللون الواحد، إن كانت غادرته أصلاً.
(دمشق)