صفحات ثقافية

اختراع موريل ” للكاتب الأرجنتيني أدولفو بيوي كاساريس

null


أدولفو بيوي كاساريس

ترجمة من الإسبانيّة: أحمد يماني

في إحدى المقابلات مع الكاتب الأرجنتيني أدولفو بيوي كاساريس المولود في بوينوس أيرس عام 1914، طرح عليه سؤال يتعلق بمتى وكيف بدأ الكتابة فأجاب: دون شك قبل أن أبدأ القراءة… أود القول قبل أن أكتشف الأدب. روايته الأولى ¨ إيريس و مارجريتا ¨ كتبها وهو في الحادية عشرة من عمره،
كانت الرواية انتحالا لــ ¨ petit Bob “ للكاتبة الفرنسية Sibylle Aimée Marie Antoinette Gabrielle (1849-1932) والتي كانت تكتب تحت الاسم المستعارGYP، كتبها ليفتن قريبة له كان مغرما بها كثيرا. في الرابعة عشرة كتب قصّته الأولى ” الزهو أو مغامرة مريعة ” وبفضل والده الذي موّل له عملية الطباعة تمكن من نشر كتابه الأول ” تمهيد ” وهو في الخامسة عشرة من عمره وندم بعد ذلك على نشره وحاول ألاّ يطلع عليه أحدا. هجر الدراسة الجامعيّة نهائيا بعد أن حاول دراسة القانون والفلسفة والآداب ولم ينجح في إتمام أيّ منها. لكنّ انتسابه إلى عائلة بورجوازية ميسورة الحال ولأب كان كاتبا محبطا أتاح له أن يتفرّغ تماما لكتاباته وقراءاته منذ صغره وأن يتحصّل على قراءات معمقة للآداب العالمية. في عام 1932 يتعرّف على خورخي لويس بورخيس وستجمعهما صداقة نادرة أدبية وشخصية دعت البعض إلى تسميتهما ” بيورخيس” وسيكتبان معا أكثر من خمسة كتب بدءا من العام 1942 وحتّى عام 1977. في عام 1933 نشر كتابه الثاني ” سبع عشرة طلقة على ما هو آت “ وقد حاز على بعض الاهتمام، إلا أن كتابه ” عماء ” قد حاز على اهتمام نقدي موسّع وهو الذي نشره عام 1934. وفي نفس العام يتعرّف على الكاتبة سيلبينا أوكامبو التي ستصير زوجته في العام التالي، وسيكتبان معا كتابا اسمه ” الذين يحبّون يكرهون ” عام 1946. وسيكتبان بالاشتراك مع بورخيس كتاب ” أنطولوجيا الأدب الفانتازي.”

بكتابته ” اختراع موريل ” عام 1940 سيتحوّل كاساريس إلى واحد من أهمّ كتّاب أدب الفانتازيا في أمريكا اللاتينية وسيعتبرها هو نفسه أوّل إصدار جادّ له وسيعقبها برواية أخرى عام 1945 هي ” خطّة هروب ” والتي يمكن رؤيتها كامتداد بشكل مّا لــ ” اختراع موريل “. ثمّ توالت رواياته بعد ذلك: حلم الأبطال 1954، يوميات حرب الخنزير 1969، النوم في الشمس 1974، مغامرة مصوّر في لابلاتا 1985، بطل ناقص 1993، من عالم لآخر 1997. بالإضافة إلى الكثير من المجموعات القصصية من بينها: التمثال المنزلي 1936، الحبكة السماوية 1948، جانب الظلّ 1962، بطل النساء 1978، حكايات مفرطة 1986، دمية روسية 1991.

كما كتب عدة كتب بالاشتراك مع بورخيس نذكر منها: ستّ معضلات من أجل السيد إيسيدرو بارودي 1946، أخباربوستوس دوميك 1967، قصص جديدة لبوستوس دوميك 1977.

في عام 1991 يحصل على جائزة ” ثربانتس “، أهمّ جائزة للآداب الإسبانية، وستكون تتويجا لرحلة أدبية طويلة. في عام 1999 تنتهي حياة كاساريس، عن أربعة وثمانين عاما، في بوينوس أيرس وقبل ذلك بقليل كان قد قال: فكرة الموت هذه لا تروق لي نهائيّا. لو كان بإمكاني أن أعيش خمسمائة عام لوافقت بل والتمست: ألا يمكنك منحي بعض سنوات أكثر؟.

هنا الأجزاء الأولى من روايته الأشهر ” اختراع موريل“.

اختراع موريل

اليوم، على هذه الجزيرة، حدثت معجزة. حلّ الصيف مبكّرا. وضعت السرير بالقرب من حمّام السباحة وظللت أستحمّ إلى وقت متأخّر. كان من المستحيل النوم. دقيقتان أو ثلاث بالخارج كانت كافية ليستحيل الماء الذي عليه أن يحميني من هذا السكون المريع إلى عرق. في الفجر أيقظني صوت فونوغراف. لم أستطع العودة للمتحف لأبحث عن أشيائي. تسلّلت عبر الوهاد. أنا هنا في المنخفضات الجنوبية، بين نباتات مائية، حانق بسبب البعوض، بماء البحر أو بماء جداول قذرة حتى خصري. أرى أنّني استبقت بشكل عبثي هروبي. أعتقد أنّ هؤلاء لم يأتوا للبحث عني، ربّما لم يروني بالأساس. لكنني أواصل مصيري، محروما من كل شيء، منفيا إلى المكان الأكثر تقشّفا، والأقل صلاحية للسكنى في هذه الجزيرة في مستنقعات يمحوها البحر مرّة أسبوعيّا.

أكتب ذلك كي أترك شهادة على المعجزة المضادّة. في خلال أيّام قليلة إذا لم أمت غريقا، أو مصارعا من أجل حريتي، فإنني أودّ أن أكتب الدفاع أمام الناجين وكذلك مديح مالتوس*1. سأهاجم، في تلك الصفحات، مستنفذي الغابات والصحارى. سأثبت أنّ العالم، بالإتقان البوليسيّ والوثائقيّ وبالصحافة والإذاعة والجمارك، يجعل من أيّ خطإ للعدالة أمرا يتعذّر إصلاحه، إنّه جحيم مجمع عليه بالنسبة للمطاردين. إلى الآن لم أكتب إلا هذه الورقة فحتّى بالأمس لم أكن قد احتطت لشيء.

كم من مشاغل في هذه الجزيرة المنعزلة! يا لصلابة الخشب التي لا تبارى! وما أرحب الفضاء على الطائر المتقلّب!

رجل إيطالي، كان يبيع السجاجيد في كالكوتا، منحني فكرة المجيء إلى هنا. قال بلغته:

بالنسبة إلى شخص مطارد، بالنسبة إليك، ثمّة فقط مكان واحد في العالم، لكنّ هذا المكان لا يعاش فيه. إنّها جزيرة. أنشأ بها أناس بيض، حوالي العام 1924، متحفا وكنيسة صغيرة وحمّاما للسباحة. كانت المنشآت مكتملة ومهجورة.

قاطعته: أريد مساعدتك للذهاب هناك. واصل التاجر: لم يمسّها لا القراصنة الصينيّون ولا سفينة معهد روكفلر*2 المدهونة بالأبيض. إنّها موطن لداء مازال غامضا للآن، يقتل من الخارج للداخل. تسقط الأظافر والشعر ويموت الجلد وقرنيّة العين ويحيا الجسد ما بين ثمانية إلى خمسة عشر يوما. كان ملاحو إحدى البواخر التي كانت قد رست على الجزيرة مسلوخي الجلد وصلع الرؤوس ومن دون أظافر، كلهم موتى، عندما عثر عليهم جواب البحار الياباني نامورا. كانت الباخرة غارقة بطلقات مدفع.

لكنّ حياتي كانت من الفظاعة بحيث أنّني قرّرت الرحيل…حاول الإيطالي أن يثنيني. في النهاية تحصّلت على مساعدته.

بالأمس، للمرّة المائة، نمت في هذه الجزيرة المهجورة… متأمّلا المباني فكّرت فيما تكلّفه جلب تلك الأحجار، كان الأسهل إقامة فرن للطوب. نمت متأخّرا وأيقظني في الفجر الصراخ والموسيقى. حياة المطارد جعلت نومي خفيفا: إنني على يقين أنّه لم يصل أيّ مركب ولا أيّة طائرة ولا أيّ منطاد. ومع ذلك، بين لحظة وأخري، في هذه اللّيلة الصيفية الثقيلة، فإنّ أرض الربوة الملأى بالحشائش قد كسيت بأناس يرقصون ويتمشّون ويسبحون في الحوض، كمصطافين مقيمين منذ زمن في لوس تيكيس أو مارينباد.

من مستنقعات المياه المختلطة أرى الجزء الأعلى للربوة والمصطافين الذين يقطنون المتحف. من هيئتهم العصيّة على الشرح يمكنني الافتراض أنّهم أثر في رأسي لحر ليلة أمس، لكن هنا لا توجد هلاوس ولا خيالات: هنا يوجد بشر حقيقيّون، على الأقل بقدر ما أنا حقيقيّ.

أنّهم يرتدون بذلات كتلك التي كانت تلبس منذ أعوام قليلة: أمر يكشف، فيما يبدو لي، عن أناقة تامة. ومع ذلك، عليّ أن أعترف أنّه من العادي الآن أن يندهش المرء بسحر الماضي القريب.

من يعرف بأيّ مصير لمحكوم بالإعدام أنظر إليهم، دون انقطاع، بشكل لا يمكن تحاشيه. يرقصون على حشائش الربوة الملأى بالأفاعي. هم أعداء غير واعين أنّهم، كي يستمعوا إلى Valencia y Té para dos من فونوغراف شديد القوة تغلب لهم على ضجيج الريح والبحر، قد حرموني من كلّ ما كلّفني من عمل كثير وممّا لا غنى عنه كي لا أهلك، وأنّهم تركوني أمام البحر في مستنقعات مميتة.

ثمّة خطر في لعبة النظر إليهم هذه، فككلّ جماعة من المتعلّمين لابدّ أنّ لديهم طريقا خفيّا من القناصل وبصمات الأصابع سيفضي بي، إذا ما اكتشفوني، ببعض المراسم والإجراءات، إلى السجن.

أبالغ: أنظر ببعض الافتتان، فمنذ زمن لم أر بشرا، إلى هؤلاء الدخلاء الكريهين. لكن سيكون مستحيلا التطلّع إليهم طوال الوقت: أولا: لديّ عمل كثير، والمكان قادر على قتل قاطن الجزيرة الأكثر مهارة، وقد وصلت لتوي، ولا آلات معي. ثانيا: بسسب خطر أن يرونني أتطلّع إليهم في زيارتهم الأولى لهذه المنطقة، وإذا أردت تحاشي ذلك عليّ أن أبني أوكارا خفيّة في الأدغال. أخيرا: هناك صعوبات مادية في أن أراهم وهم في أعلى موضع من الربوة ولمن يريد أن يتجسّس عليهم. من هنا فإنهم يبدون كعماليق عابرة، يمكنني رؤيتهم عند اقترابهم من الوهاد.

حالتي يرثى لها. عليّ أن أعيش في هذه المنخفضات في وقت يرتفع فيه الجزر كما لم يحدث أبدا. منذ أيّام قليلة كان هناك واحد هو الأكبر منذ أن وصلت إلى هذه الجزيرة.

عندما تعتم أبحث عن أغصان وأغطّيها بأوراق. لا يدهشني أن أصحو وأنا في الماء. يرتفع المدّ علي في السابعة صباحا، وأحيانا قبل ذلك. هناك ارتفاعات تأتي مرة واحدة أسبوعيّا يمكن أن تكون قاطعة. مشقوق في جذوع الأشجار حساب الأيام، خطأ واحد يمكنه أن يملأ رئتي بالماء.

أشعر باستياء أنّ هذا الدور يستحيل إلى شهادة. إذا كان عليّ أن أستسلم لهذا، فعليّ السعي أن تكون أدلتي مما يمكن البرهنة عليها، بحيث أنه، إذا ما وجدني أحد متهما بالتزوير، فلا يظنّن أنّني أكذب عندما أقول إنهم حكموا علي ظلما. سأضع هذه المرافعة تحت شعار ليوناردو ostinato rigore * وسأحاول تتبعها.

أظنّ أن اسم هذه الجزيرة ( فيلينجس ) وأنّها تتبع أرخبيل ( إليسي ). يمكن لحضراتكم أن تتحصّلوا على إيضاحات أكثر من تاجر السجاجيد دالماسيو أومبريلليري (21 شارع حيدر آباد، ضاحية رامكريشنابور، كالكوتا). ذلك الإيطالي أطعمني عدّة أيام أمضيتها ملفوفا في السجاجيد الفارسية، بعدها شحنني في قبو سفينة. لا أورّطه، عندما أذكره في هذه اليوميات، لست ناكرا لجميله

الدفاع أمام الناجين لن يترك شكوكا: كما في الواقع، في ذاكرة البشر – حيث ربّما توجد الجنّة – سيكون أومبريلليري متسامحا مع شخص مطارد ظلما و حتّى في الذكرى الأخيرة التي يظهر فيها سيذكرونه بالخير.

هبطت من السفينة في راباؤول. وببطاقة توصية من التاجر زرت عضوا في المنظمة الأشهر في صقلية، على الضوء المعدنيّ للقمر، وعلى دخان مصانع حفظ الأسماك، تلقّيت تعليماتي الأخيرة وقاربا مسروقا، جدّفت حانقا، ووصلت إلى الجزيرة (ببوصلة لا أفقه فيها شيئا، دون توجيهات، دون قبعة، ومريضا أهلوس) جنح القارب إلى الرمال ناحية الشرق (بلا شك فإن النتوءات الصخريّة المرجانية التي تحوط الجزيرة كانت غاطسة). بقيت في القارب لأكثر من يوم ضائعا في وقائع ذلك الرعب ناسيا أنّني كنت قد وصلت.

خضرة الجزيرة وافرة. نباتات، أعشاب، زهور ربيعية وصيفية وخريفية وشتوية متتابعة على عجل، على عجل في الولادة أكبر منه في الموت، بعضها يجتاح الزمن وأرض الآخرين، مكدّسة دون كابح. في المقابل، الأشجار مريضة، رؤوسها جافّة، وجذوعها شديدة البروز. لديّ تفسيران: إمّا أنّ الأعشاب تمتصّ طاقة الشمس وإما أن الجذور قد وصلت إلى الصخور. واقع أن الأشجار الجديدة سالمة يبدو تأكيدا للافتراض الثاني. أشجار الربوة تتصلب إلى درجة استحالة العمل عليها، كذلك لا يمكن التحصل على شيء من أشجار المنخفض، يذيبها ضغط الأصابع وتبقى في اليد نشارة دبقة وتشظيات رخوة.

الجانب الأعلى من الجزيرة يحوي أربعة وهاد كثيفة ( ثمة صخور في الوهاد الغربية) هناك يقبع المتحف والكنيسة وحمام السباحة. المنشآت الثلاث حديثة وتأخذ شكل زاوية، ملساء وبحجارة غير مجلوة. يبدو الحجر، كما في مرات كثيرة، مقلدا بشكل سيء ولا يتماشى البتة مع الطراز.

الكنيسة الصغيرة عبارة عن علبة مستطيلة ومسطحة ( يجعلها هذا تبدو بالغة الطول). حمّام السباحة مبني جيدا، لكن كما أنه لا يتجاوز مستوى الأرض، فهو حتما يمتلئ بالأفاعي والعلاجيم والضفادع البرية والحشرات المائية. المتحف مبنى ضخم ذو طوابق ثلاثة ودون سطح ظاهر، وبممرّ في الواجهة وآخر صغير في الخلف وببرج أسطواني. وجدته مفتوحا، في الحال كنت منتصبا داخله، أسمّيه متحفا لأنه هكذا أسماه التاجر الإيطالي، أي مبررات كانت لديه؟ من يدري قد يكون هو نفسه يعرف هذه المنشآت، من الممكن أن يكون فندقا رائعا يتسع لخمسين شخصا أو مصحّا.

للمتحف رواق بخزائن كتب لا تنفذ وناقصة : لا يوجد سوى روايات وشعر ومسرح، هذا إذا لم يدخل في الحسبان كتيب كان فوق رفّ من المرمر الأخضر Belidor*4: Travaux-Le Moulin Perse-Paris،1937 – والآن يحشو جيب خرقة البنطلون الذي ألبسه. أخذته لأنّ اسم Belidor بدا لي غريبا وأيضا لأنني تساءلت إذا ما كان بإمكان الفصل المعنون ب < Moulin Perse > أن يفسر لي وجود تلك الطاحونة في المنخفضات. تفحصت الرفوف باحثا عن مساعدة في بعض الأبحاث التي قطعتها عملية الهروب والتي في عزلة الجزيرة حاولت أن أواصلها. أعتقد أننا أضعنا الخلود لأن مقاومة الموت لم تتطور، تحسيناته تشدد على الفكرة الأولى البدائية، الاحتفاظ بالجسد حيا. فقط يجب البحث عن احتفاظ بالوعي.

الحوائط في الهول من المرمر الوردي، ببعض العوارض الخضراء، كأعمدة غارقة. النوافذ بزجاجها الأزرق يمكن لها أن تطاول الدور الأعلى من البيت الذي ولدت فيه. أربع كؤوس من الألابستر، تشع بضوء كهربائي، بإمكان أربعة أنصاف دستة من الرجال أن يختبئوا داخلها. الكتب تحسن الديكور قليلا. باب يفتح على الصالون الدائري، باب آخر ضئيل مغطى بستارة يفتح على السلم الحلزوني.

هناك في الممر السلالم الرئيسية، مصنوعة من معجون المرمر ومفروشة بالسجاجيد، وثمة كراس من القش والحوائط مغطاة بالكتب.

غرفة الطعام تقريبا ستة عشر مترا في اثني عشر مترا. أعلى مثلث عواميد الماهوجني في كل حائط هناك مصاطب تشبه مقصورات لأربع آلهات جالسات _ واحدة في كل مقصورة _ شبه هندية، شبه مصرية، بلون الأوكر، من الفخار. أكبر ثلاث مرات من الإنسان، تحوطها أوراق داكنة وناتئة من نباتات جصية. أسفل المصاطب ثمة لوحات برسوم لـفوجيتا، ناشزة لتواضعها. طابق الصالون الدائري عبارة عن حوض للأحياء المائية. في علب زجاجية شفافة، في الماء، ثمة لمبات كهربائية (الإضاءة الوحيدة لهذا الغرفة التي بلا نوافذ). أتذكر المكان بقرف. عند وصولي كانت هناك المئات من الأسماك الميتة. كانت عملية إخراجها يقشعر لها البدن. تركت الماء ينساب أياما وأياما، لكن دائما ما أشم هناك رائحة سمك متعفن (يحملني هذا إلى شواطئ الوطن، بغبش أعدادها الوفيرة من الأسماك، حية وميتة، قافزة من الماء وملوثة مساحات هائلة من الهواء، بينما السكان المسحوقون يطمرونها.

بالطابق المضيء وأعمدة صمغ اللك الأسود التي تحوطه، في تلك الغرفة يتخيل الواحد نفسه ماشيا بشكل سحري فوق مستنقع، في وسط غابة. من فرجتين تطلان على الهول وصالة صغيرة، خضراء، وبها بيانو وفونوجراف وساتر من المرايا به عشرون واحدة أو أكثر.

الغرف حديثة وفخمة وكريهة. هناك خمس عشر شقة. في شقتي صنعت شيئا مدمرا، لم يأت بنتيجة كبيرة. لم يكن لدي لوحات أكثر – لبيكاسو – ، ولا زجاج شمسي ولا أغلفة كتب ذات توقيعات قيمة، لكنني عشت في خرابة متعبة.

بدأت اكتشافاتي في الأقبية في فرصتين متشابهتين. في الأولى – وكانوا قد بدؤوا في إنقاص مؤونة الطعام – كنت أبحث عن طعام واكتشفت المولد الكهربائي. عندما كنت أجوب القبو لاحظت أنه ليس ثمة من حائط واحد به الكوة التي كنت قد رأيتها من الخارج، بالزجاج السميك والقضبان الحديدية، نصف المستترة بين أغصان الصنوبر. كأنني كنت في مناقشة مع واحد يؤكد لي أن هذه الكوة غير واقعية ومرئية في حلم، خرجت لأختبر ما إذا كانت لا تزال موجودة.

رأيتها من جديد، هبطت إلى القبو وكانت هناك صعوبة كبيرة في تحديد اتجاهاتي، والعثور من الداخل، على الموضع الذي يطابق الكوة. كنت في الجهة الأخرى من الحائط، بحثت عن شقوق، أبواب سرية. الحائط كان مستويا تماما وشديد المتانة. فكرت أنه في جزيرة، في مكان مقفل لابد أن هناك كنزا. لكنّني قررت أن أهدم الحائط وأدخل، لأنّه بدا لي أكثر معقولية أن يوجد مخزن للمؤونة، هذا إن لم يكن مخزن رشاشات وذخيرة.

بالحديد الذي كان متاحا لسد أحد الأبواب، وبفتور متزايد، قمت بفتح ثقب: ومنه كان يرى وضوح سماوي. اشتغلت كثيرا وفي ذلك المساء نفسه كنت قد أصبحت بالداخل. إحساسي الأول لم يكن الاستياء من عدم عثوري على مؤونة ولا الراحة لاكتشاف طلمبة ضخّ المياه ولا المولد الكهربائي، بل الدهشة الطويلة واللذيذة: كانت الحوائط والسقف والأرضية مصنوعة من البورسلين السماوي، وحتى الهواء نفسه (في هذه الغرفة التي لا يصلها ضوء النهار إلا عبر كوة عالية ومختفية بين أغصان إحدى الشجرات) كانت له تلك الشفافية السماوية والعميقة التي تبدو في رغوة شلال.

أفهم قليلا في المواتير، لكنني لم أتأخّر في جعلها تعمل. عندما ينفد ماء المطر أقوم بتشغيل الطلمبة.

كلّ ذلك فاجأني: بسببي أنا نفسي وبسبب البساطة والحالة الجيدة للماكينات. لا أتجاهل أنه من أجل مقاومة أية ثغرة، فقد اعتمدت فقط على استكانتي. أنا أحمق لدرجة أنني حتى الآن لم أتحقق من عمل بعض المواتير الخضراء الموجودة في الغرفة نفسها، ولا تلك الاسطوانة المجنحة في الوهاد الجنوبية والمتصلة بالقبو عن طريق ماسورة حديدية. لو لم تكن بعيدة جدا من الشاطئ لعززت إليها علاقة ما بالمد والجَزْر، يمكنني تخيل أنها تستخدم في شحن المكثف الذي لابد أن يكون للمولد. بسبب هذه الحماقة أقوم بتوفير كبير إذ لا أقوم بتشغيل المواتير إلا عند الضرورة. مع ذلك، في إحدى المرات، كانت كل أضواء المتحف مضاءة طوال ليلة بكاملها. كانت المرة الثانية التي أقوم فيها باستكشافاتي في القبو. كنت قد وقعت مريضا وكان يحدوني الأمل بأن ثمة صندوقا للأدوية في مكان ما في المتحف، بالأعلى لم يكن هناك من شيء، نزلت إلى القبو وفي تلك الليلة تجاهلت مرضي، نسيت أن الأهوال التي كنت ألاقيها تأتي، فقط، في الأحلام. اكتشفت بابا سريا وسلما وقبوا آخر. دخلت إلى حجرة متعددة السطوح _ تشبه أحد مخابئ القصف التي رأيتها في السينما _ بحوائط مغطاة بسدادات زجاجات ذات نوعين: إحداها من مادة تشبه الفلين، والأخرى من المرمر، موزعة بتماثل. خطوت خطوة: عبر رواق من حجر، في ثمانية اتجاهات، كما في مرآة، رأيت الغرفة نفسها تتكرر ثماني مرات. بعد ذلك سمعت خطوات كثيرة، واضحة بشكل مزعج، من حولي وبالأعلى وبالأسفل، تجوب المتحف. تقدمت قليلا: انطفأ الضجيج، كما في جو من الثلج، كما في المرتفعات الباردة لفنزويلا.

صعدت السلالم، كان هناك الصمت والضجيج الوحيد للبحر، سكون تسللات أمّ أربعة وأربعين. خفت من اجتياح الأشباح، من اجتياح البوليس، أقل احتمالية. قضيت ساعات بين الستائر، غاضبا بسبب الاختباء الذي فرضته على نفسي ( كان من الممكن رؤيتي من الخارج: لو أردت الهرب من شخص ما كان في الغرفة لكان على أن أفتح النافذة ). تجرأت بعد ذلك على تفتيش البيت، لكنني ظللت مضطربا: كنت قد سمعتني محاطا بخطوات واضحة، على ارتفاعات مختلفة، غير مستتبة.

في الفجر نزلت مرة أخرى إلى القبو، أحاطتني نفس الخطوات، من بعيد ومن قريب. لكنني استوعبتها تلك المرة، منزعجا، واصلت تجوابي في القبو الثاني، مخفورا بشكل متقطع بالسرب اللطيف للأصداء، وحيدا بشكل مضاعف. هناك تسع غرف متماثلة، خمس أخرى في قبو أكثر انخفاضا، تبدو كمخابئ قصف. من كانوا أولئك الذين شيدوا في العام 1924، بالتقريب، هذا المبنى؟ ولماذا تركوه مهجورا؟ من أي قصف كانوا يخافون؟ من المدهش أن مهندسي هذا البيت جيد البناء قد احترموا التحيز الحديث ضد النتوءات الزخرفية، إلى الدرجة التي ينشئون فيها هذا المبنى الذي يختبر التوازن العقلي: أصداء التنهدات تجعلنا نسمع تنهدات، على القرب، وعلى البعد، طوال دقيقتين أو ثلاث. حيث لا يوجد صدى يكون الصمت مرعبا كذلك الثقل الذي لا يدعنا نهرب، في الأحلام.

القارئ الحصيف بإمكانه أن يستخرج من تقريري كتالوجا من الأشياء والمواقف ومن الأفعال المدهشة بشكل ما، آخرها ظهور ساكني الربوة الحاليين. أيمكن أن تكون ثمة علاقة بين هؤلاء وبين أولئك الذين عاشوا عام 1924؟ هل بالوسع وجود رابط بين سائحي اليوم وأولئك الذين شيدوا المتحف والكنيسة وحوض السباحة؟ لا أعتزم التصديق أن واحدا من بين هؤلاء الأشخاص قد قطع لمرة واحدة Valencia y Té para dos من أجل تنفيذ مشروع هذا البيت الذي يقف صامدا، حقيقة.

ثمة امرأة بين الأحجار تعاين غروب الشمس كل مساء. تضع منديلا ملونا محبوكا على رأسها. يداها الاثنتان على ركبة واحدة، شموس خفيفة هي التي لابد قد أعطت لجلدها هذا اللون الذهبي، من عينيها، وشعرها الأسود، ونصفها الأعلى تبدو كواحدة من تلك البوهيميات أو الإسبانيات اللواتي يظهرن في اللوحات الأكثر بشاعة.

بانضباط أزيد في صفحات يومياتي هذه، وأتناسى تلك الصفحات التي ستعذر لي الأعوام التي قضاها ظلي على الأرض الدفاع أمام الناجين ومديح بالتوس. ومع ذلك، فإنّ ما أكتبه اليوم سيكون احترازا. هذه السطور ستبقى ثابتة بالرغم من ضعف قناعاتي. علي أن أضبط نفسي على ما أعرفه حاليا: يتناسب مع سلامتي أن أتخلّى، نهائيا، عن أيّة استعانة بشخص آخر.

هوامش:

1- توماس روبرت مالتوس، اقتصادي بريطاني(1766-1834)، من مؤلفاته: بحث في مبدإ العمران“.

2- معهد روكفلر: منظمة أسسها عام 1901، في نيويورك، جون ديفيسون روكفلر. وهي ذات توجه محصور في البحث العلمي في المجال الطبي. هامش طبعة كاتيدرا.

3- ليوناردو دافينشي: الصرامة المعاندة.

4- (Bernard Forest de Belidor (1698-1761، عسكري ومهندس فرنسي وله عدة كتب في المجال الهندسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى