عن المحاكم الدوليَّة وقلق الجناة ورقصاتهم
هوشنك أوسي()
تتعدّد الأسباب والتوُّجهات، والقتل واحد. وحين تغيب العدالة عن أرضٍ ما، هذا يعني أن الجريمة صائلة وجائلة، ومستشرية ومعشِّشة، دون حسيب أو رقيب. ولبنان، هذا البلد الفريد، كان ولمَّا يزل، يتمتَّع بهامش ديموقراطي، رغم كل أهوال الحروب الأهليَّة التي مرَّت به، والنزاعات الإقليميَّة، التي كان مسرحاً لها. لكن، الهامش الديموقراطي ذاك، لم يكن ليضمن العدالة، التي تثلج صدر ذوي الضحايا، وتفرح قلوبهم، وتردع وترهب القتلة والجناة الإرهابيين. وكثيراً ما كان المستبدِّون والقامعون لشعوبهم في الشرق الأوسط، وحين يودُّون تبرير قمعهم وظلمهم لشعوبهم، كانوا يلجأون إلى تعداد مساوئ ومخاطر و”قبائح” و”فضائح” التجربة الديموقراطيَّة اللبنانيَّة، قائلين لمن يحلم بالديموقراطيَّة في بلادهم، كلاماً من طينة: “انظروا إلى ما جلبته الديموقراطيَّة للبنان من فوضى وإرهاب وطائفيَّة وفتن ومؤامرات ومقامرات…الخ”!. لكن، الديموقراطيَّة اللبنانيَّة، باتت على تخوم إنجازها العدالة للبنانيين. فبالديموقراطيَّة وحدها، يمكن للعدالة أن تنتقم من الجناة، وتثأر لنفسها، أن تحصِّن نفسها في لبنان، وفي أيّ مكان. وهذا ما سيحصل، ويقدّم لبنان مجدّداً درساً لنا، وللشرق الأوسط، وللعالم. لبنان الآن، يوقظ الشرق الأوسط، على طقوس وتقاليد في الديموقراطيَّة والإصرار على السعي نحو العدالة، مهما كانت الأكلاف. لذا، يريد الطغاة والمستبدّون تدمير هذا البلد، قبل أن يستنبت في شعوب الشرق الأوسط، شتلة الانتفاض من أجل الديموقرطيَّة والعدالة، ومحاسبة المجرمين، وأعداء الحريّة والعدالة. فمثلما كان لبنان مشتلاً للنهضة واليقظة والاستنارة العربيَّة، في مواجهة دياجير الحكم العثماني، مطلع القرن المنصرم، ها هو الآن، وفي مطالع هذا القرن أيضاً، يسعى لأن يكون مشتلاً للديموقراطيَّة والعدالة. لذا، فإن قتلة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ورفاقه، وبقيّة شهداء حريّة واستقلال لبنان، لا يقلّون دمويّة ووحشيَّة من جمال باشا السفَّاح. وحيث ما ذهب الأخير، إلى مزابل التاريخ، سيذهب هؤلاء القتلة أيضاً.
وبعد طول انتظار وترقُّب وآلام وأحزان ودماء وعناد…، انطلقت المحكمة ذات الطابع الدولي، لمقاضاة الإرهابيين القتلة في لبنان. وذهبت كلّ فصول ومشاهد ومحاولات عرقلة التحقيق الدولي، أدراج الإصرار اللبناني والدولي على كشف الحقيقة. وذهبت كلّ فصول ومشاهد ومحاولات عرقلة وتعطيل المحكمة الدوليَّة، أدراج العناد والإصرار اللبناني والدولي على كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، وطيّ سجلّ طويل عريض، من جرائم الاغتيال السياسي في لبنان. لكن، لا زال من المبكِّر الاطمئنان على لبنان، ومن خلاله، على الشرق الأوسط. فـ”الإصبع المرفوع”، لم يتّجه بعدُ صوب القتلة، ولمّا يزل هؤلاء، طلقاء. ومن حقّ ضحايا كلّ جرائم الاغتيال السياسي في لبنان أن يفرحوا. ومن حقّ كلّ ضحايا جرائم الاغتيال السياسي في العراق وسورية وتركيا وإيران، وكلِّ مكان، أن يفرحوا للبنان، ويمنّوا النفسَ بنسخةٍ من هذه المحكمة الدوليَّة ـ اللبنانيَّة في بلدانهم أيضاً. كما أنه من حقِّ كلِّ المجرمين والقتلة، ليس في لبنان وحسب، وبل في كلّ أنحاء العالم، أن يقلقوا ويخافوا، وأن يرتدعوا، وأن يعلموا أن أيّة محاولة جديدة، لنسف العدالة، أو الفرار منها، ستعرِّيهم أكثر.
بالتأكيد، أن الذين أمروا وخططوا ونفَّذوا جريمة اغتيال الحريري، وسائر الجرائم الأخرى، كانوا يتابعون تلك “اللحظة التاريخيَّة” في انطلاقة العدالة الدوليَّة ـ اللبنانيَّة، من على شاشة التلفزة، بكثير من القلق والترقُّب والخوف والرعب. وبالتأكيد أيضاً، أن اللحظات الباقيَّة، من عمر هذه المحكمة، ريثما تصدر قرارها الظنِّي، وحكمها القطعي، هذه اللحظات، ستكون جزءاً من العقوبة بحقّ هؤلاء القتلة، لما في تلك اللحظات من عذابٍ للمجرمين. بالتأكيد، أنّهم الآن، يتخيّلون أنفسهم خلف القضبان. وربما هذه اللحظات الجدّ قاتلة، هي التي ستقتصُّ من القتلة المجرمين، في كلَّ لحظة. بالتأكيد، أن النوم يجافيهم الآن، وسيجافيهم رويداً أكثر فأكثر. لكن، حسبهم معتقل في لاهاي، هو بمثابة فندق خمسة نجوم، مقارنة بسجون ومعتقلات بلادهم، التي لا يضاهيها “غونتانامو” و”أبو غريب” في البشاعة والوحشيَّة، يقضون فيه المتبقّي من حياتهم. هذا، إنْ لم يتولّى الرعب والخوف والقلق…، إنهاء حياة أولئك القتلة.
على ضوء ما سلف؛ لو كان صدَّام حسين يعلم أنه سيحاكم، ويُقدَّم للعدالة، على ما اقترفه بحقِّ شعبه، ومعارضيه، وبحقّ المنطقة، لربما راجع نفسه قليلاً، قبل ارتكاب تلك الفظائع. ولو كان سلوبودان ميلوسوفيتش، ورادوفان كارازيتش يعلمان أنهما سيقدَّمان للعدالة، لربما فكَّرا قليلاً بتجنُّب ارتكاب جرائمهما. ولو عرف الرئيس السوداني عمر البشير، أن العدالة ستطرق أبواب السودان، عبر محكمة الجنايات الدوليَّة، لما اخترع شيء اسمه “الجنجاويد” في دارفور، كي يرتكبوا تلك المذابح الوحشيَّة. لكن، متى يمكننا أن نقول: إن زمن الإفلات من العقاب ولَّى، وأنه صار للعدالة سلطة دوليَّة، تطال كلّ مجرم، كائناً من كان، وفي أيّ زمانٍ ومكانٍ كان؟. والجواب، ببساطة؛ حين نجد محاكمات دوليَّة، للمذابح التي ارتكبت بحقّ الأرمن مطلع القرن المنصرم، للمذابح التي ارتكبت بحقّ الأكراد في تركيا، في انتفاضة 1925، وانتفاضة ديرسم (1937ـ 1938)، والتي راح ضحيتها، وفاقاً للتقديرات الرسميَّة، 12 ألف من الاكراد العلويين، ووفاقاً للتقديرات الكرديَّة، ما يناهز 60 ألف كردي علوي. هذه الانتفاضة، التي لا يسمح الأتراك بالكشف عن الأرشيف السرّي للدولة المتعلّق بها، حتّى بعد مضي أكثر من 70 سنة عليها، آن للعدالة الدوليّة ان تفتح ملفَّاتها وتقاضي مرتكبيها ولو بعد موتهم. نعم، لقد كان انطلاق المحكمة دوليَّة الخاصَّة بلبنان، “لحظة تاريخيَّة” يخالطها فرح ذوي الضحايا وقلق ورعب الجناة وأمل ضحايا آخرين. وحين نرى أن ملفّ المذابح التي إرتكبتها إيران الشاه وإيران الخميني بحقّ العرب والأذريين والأكراد، أمام المحاكم الدوليَّة، حينئذ يمكننا الاطمئنان على الشرق الأوسط والعدالة الدوليَّة.
حين نرى رقصات الرئيس السوداني حاملاً سيفه، أمام حشود المتجمهرين أمامه، كم يُذكرنا هذا المشهد برقصات الرئيس العراقي السابق وسط حشوده المليونيَّة، التي كانت تهتف: “بالروح بالدم نفديك يا صدَّام”. والمآلات الكارثيَّة للأخير معروفة. وعمر البشير راقصاً من شدَّة الغيظ والحنق والخوف…، من العدالة، بعد إصدار محكمة الجنايات الدوليَّة مذكّرة اعتقاله، يُذكرنا ببيت شعري عربي يقول: “لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً… الديك يرقصُ مذبوحاً من شدَّةِ الألمِ”. “رقصة الغيظ” تلك، الخشية الكبرى، أن نشهد ما يعادلها في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، وذلك حين تعلن المحكمة الدوليَّة، الخاصَّة بلبنان، قرارها النهائي.
() كاتب كردي مقيم في بيروت
المستقبل