الحلم الهندي
الياس خوري
هل انتصرت بوليوود في هوليوود، أم تمّت أَمْرَكَة الهند في اميركا؟ “مليونير مدن التنك”، الذي يدور في ضواحي الفقراء في مومباي، اكتسح اوسكارات هذه السنة، ليعلن ان التزاوج بين انتاج اميركي واخراج بريطاني وحكاية هندية، يستطيع استعادة الحلم الاميركي، ولو في بوليوود.
“slumdog millionaire”، سحر الجمهور الاميركي بحكايته البسيطة ذات النهاية السعيدة، قبل ان يعلن انتصاره الاوسكاري الكبير. الحكاية البسيطة المأخوذة من رواية عن البرنامج التلفزيوني المعولم “من سيربح المليون؟”، تأتي في وقتها تماما وسط الأزمة الاقتصادية التي تضرب الاقتصاد الأميركي.
لم يسبق لي ان رأيت نيويورك هكذا: محال تجارية تُقفل، بنوك كبرى على حافة الافلاس، شركات تأمين عملاقة تتهاوى، وصناعة السيارات في الحضيض. وجوه تستطيل بالهلع والخوف، ومجتمع يدفع ثمن وحشية الجشع الذي افلت من عقاله مع ما يطلقون عليه هنا اسم “الريغونوميكس” (نسبة الى رونالد ريغان) والذي حوّل الاقتصاد في المرحلة البوشية الى رفاهية وهمية قائمة على النهب والتشبيح. باراك اوباما يحاول انقاذ اقتصاد متهالك، عبر اعادة الاعتبار الى الطبقة الوسطى وقيمها، وعبر تأكيد إمكان استعادة العقلانية في السياستين المالية والاجتماعية.
لكن هوليوود سبقت السياسة كالعادة، فقامت بتفصيل حلم ملائم للحظة الراهنة، عبر حكاية تمتزج فيها الميلودراما بالتفاؤل، وينتصر فيها الولد الطيب على الولد الشرير، ويتحول بطل الفيلم جمال، مليونيرا في ضربة حظ واحدة.
التركيبة مقنعة، على رغم خلل كبير في احد مقاطع السيناريو، حيث بدا التحقيق مع جمال مفبركا، كأنه مجرد ذريعة من اجل تبرير مشاهد الفلاش باك، التي تأخذنا الى ضاحية الفقر والتشرد في مومباي.
مشاهد اكواخ الصفيح، وحكايات الاولاد ساحرة بالفعل. مزيج من البؤس والاصرار على الحياة. حقيقة تشبه الخيال في عنفها وجمالياتها وسحر الطفولة الذي يصنعها. لكن السحر هو ابن المأساة، نذهب الى مآسي تحويل الاطفال الى شحاذين، عبر قطع اعضائهم وتشويههم وسمل عيونهم. قسوة الفقر ووحشية استغلال الاطفال الفقراء، تجتمعان لتقديم لوحة سينمائية حقيقية.
مشهد الاطفال في احتفال توزيع جوائز الاوسكار، احتل الشاشات الصغيرة. استبدل الاطفال اسمالهم بالثياب الأنيقة، وجاؤوا الى كاليفورنيا، من اجل ان يتوج فقرهم على عرش الحلم بالثروة على الطريقة الاميركية.
غير ان مسارات الفيلم تلجأ الى الحبكة التقليدية المتقنة. جمال، الذي ينجح في النهاية في الاستحواذ على الملايين، والفوز بحبيبته التي حاول متعهد الاطفال الشحاذين تحويلها مومسا، يعيش حكاية الصراع بين الخير والشر. شقيقه الكبير سليم الذي انقذه من سمل العينين، يلعب دور الشرير. الأخ يصير غنيا ويستزلم لأحد زعماء مافيات المال، ويختلف مع اخيه الذي يرفض الدخول في اللعبة، ويصر على حبه القديم لزميلتهما في رحلة الفقر والتشرد، لاتيكا. شقيقان يعيدان تمثيل ترسيمة قايين وهابيل، ومناخات تمتزج فيها القسوة بالحنان، وتحتلها طباقات لا عدد لها.
لكن الحكاية كلها تجري على شاشة التلفزيون. جمال يشارك في برنامج “من سيربح المليون؟”، وعندما يصل الى عتبة الربح النهائي، يُتهم بأنه مزوّر، ويقاد الى التحقيق.
طباق كامل بين شاشة التلفزيون وغرفة التحقيق. مكانان يفتحان ذاكرة الطفولة. اسئلة المحقق واسئلة مقدّم البرنامج تتناوبان على اخذنا الى الحكاية. المحقق يظهر تعاطفا انسانيا اكثر من مقدّم البرنامج الذي يحاول خداع البطل. لكن النهاية السعيدة سوف تأتي من مكان آخر: الأخ الشرير يساعد الحبيبة على الهرب، ويقتل زعيم العصابة ويموت، فاتحا المجال امام النهاية السعيدة، والرقصة البوليوودية في محطة القطار التي تنهي الفيلم.
الفقير يصير ميليونيرا. هذا هو الحلم الاميركي الذي يتحقق على الطريقة الهندية. فيلم يستدر الدموع وينتهي بالفرح، ومزيج من تحويل الخرافة حياة حقيقية، والتعامل مع الواقع في وصفه خرافة.
شاهدت الفيلم قبل نيله ثمانية اوسكارات، وشاهدت كيف عشق الجمهور الأميركي الحكاية الآتية من الهند.
هذه وظيفة هوليوود: التسلية والامتاع، وبث دماء جديدة في الايديولوجيا المسيطرة. وهذا ليس تبسيطا، ولا انتقاصا من جماليات الفيلم التي لا تحصى. انه وصف شبه محايد. منذ شهرين، والأزمة الاقتصادية الاميركية تثقل على صدري ايضا. صحيح ان تفاؤلي لا يشبه تفاؤل المليونير الهندي، الذي قفز من شاشة التلفزيون الى الثروة والحب والسعادة. فتفاؤلي آتٍ من مكان آخر. الأزمة التي دخلها النظام الرأسمالي العالمي تقرع جرس الانذار بأن الرأسمالية المتوحشة تقود العالم الى الهاوية، وبأن الحل يكمن في سياسة اجتماعية واقتصادية مختلفة جذريا، وهذا ما بدأ العالم يعيه، كمقدمة للاقلاع عن تحطيم الضمانات الاجتماعية، كي لا يتحول العالم غابة.
لكن المليونير القادم من بيوت الصفيح، والذي قفز عبر التلفزيون الى مكان اجتماعي جديد لن يقتنع برأيي، وسيلجأ الى الكلام المبتذل الذي سقط فيه الجمهوريون، في عجزهم امام هاوية اقتصادية كانت سياساتهم الداخلية والخارجية سببها المباشر.
لكن هوليوود لا تملك سوى الحلم، لذا لجأت الى الهند، جاعلة من مدن الصفيح اطارا لتجديد الحلم الأميركي، حتى لو اضطرت الى الاستعانة بفقراء الهند، والقبول بأن تسلّم بوليوود الراية، ولو لساعتين.
تخرج من الفيلم بمتعة من رأى قصة تشبه الحقيقة لكنها ليست حقيقية. لا شأن للمحاكاة او الموقف النقدي في الأمر. المرجع هو الحكايات الخرافية، وفانوس علاء الدين، الذي اتخذ في هذا الفيلم المسلّي شكل علبة التلفزيون.
متعة اللاحقيقة، تقيم الفارق بين هوليوود والحكايات الخرافية. فالحكاية الخرافية كانت شكلا لاكتشاف حقائق المجتمع والوصول الى اللاوعي بطرق مواربة، اما الخرافة الهوليوودية فلا شأن لها بالواقع. انها حكاية وهمية من اجل تأكيد الحلم، حتى ولو كان لا بد من الهند من اجل تركيبه على واقع يحطّم الاحلام.
ملحق النهار الثقافي