من صمت الطفولة.. حتى الكتابة التي جعلتني أصدّق الحياة
يمنى العيد
لست من أصحاب الحنين الى الماضي. لكنها الذاكرة، حمالة معان، وشاشة صور، ومرآة لعيش مضى، ولطرح الأسئلة على زمن نود ان نعيش.
لا وجود لنا بدون هذه الذاكرة، ولا ذاكرة بدون ذاك الزمن الذي يمضي، أبداً يمضي وتختزنه الذاكرة.
[ [ [
ها أنا اقف أمامكم لأحكي، ربما لأول مرة!، كيف جئت الى الكتابة.
من الصمت جئت الى الكتابة.
من الصمت الذي لف عالم طفولتي، صمت الفقراء والأغنياء الذين تجاورت بيوتهم في حيّنا القديم. الأغنياء الذين لم اكن اسمع نطقهم، والفقراء الذين لم يكونوا يعبّرون.
هو الصمت. صمت الأمكنة والناس، الطرق والزواريب والأقبية، الوجوه والشفاه والجسد. صمت احمد وبهية والعشباوي ونفيسة والست نسيمة ونور الجبين، الأهل والجيران. صمت امين ابن خالتي منيفة وصديق طفولتي يوم جاؤوا به جثة هامدة… وكان ضحية الجهل وعناد الجهل وادّعاء المعرفة.
من صمت البحر الذي كنت أرى موجه يتكسر باستمرار على شاطئ بحر المدينة ولا ادري اين ينتهي الأفق القادم منه، الأفق البعيد الغائب في الضباب والذي تغرق فيه الشمس ويختفي خلفه القمر.
من ذاك الصمت، من سرّه جئت الى الكتابة. ومن صمت والدي الذي بدأ حياته إدارياً في الجيش التركي، ثم معلماً (شيخاً) في مدرسة المدينة، ثم تاجراً حراً انتقل من الاكتفاء الى الثراء، لينتقل بنا من الدار التي ضمت اهله وعشيرته وكان فيها بئر ماء وطرمبة، وفناء مفتوح على السماء نلعب فيه، وسطح نصيّف عليه، وفل وياسمين وقرنفل تغمرنا روائحها، وسماء نعد نجومها، ونسوة لا نصغي الى ثرثراتهن التي يبددها ضوء النهار ومشاغله المضنية.
من تلك الدار الكبيرة التي هدمت قناطرها وتشتت أناسها انتقلنا الى بيت خارج المدينة القديمة، في حي كانوا يسمونه حي الأشراف، وقد اصر والدي على ان يكون بيتنا الذي اشتراه مطلاً على البحر. البحر الذي اصيغت الى هديره الصامت، وموجه الذي يضرب الجدار اسفل نافذتي.
تركنا المدينة القديمة وبقي والدي صامتاً. اصبح ثرياً وبقي صامتاً، ولم يقل شيئاً يوم تراجعت حركة العمل في مطاحنه… وكنا نعيش زمن الانتقال الى حداثة الآلة، الى زمن الاحتكار ومركزية العاصمة. اهملت المدن الصغيرة، والى فقر الصناعيين الحرفيين اضيف فقر العمال وبطالتهم.
[ [ [
من ذاك الصمت الذي تعبّر عنه سمات الوجوه، ونظرات العيون وحركة الأجساد برغبتها النقية في الحياة، من صمت انتهى بوالدي شيخاً مسناً، عاجزاً، يدير وجهه للبحر ويحفر بأظافره سرّه فوق الجدار، تحت النافذة، نافذة غرفة نومه المفتوحة على الأفق، الأفق الذي يصغي ولا يحكي، الأفق البعيد الذي صبوت إليه، الى اكتشاف ما يخفي… من كل ذاك الصمت أتيت الى الكتابة ولم اكن اعرف ان موت والدي في نهاية عام 1975 كان صرخة في الصمت تعلن، مع بداية الحرب، موت الطبقة التي كان ينتمي إليها.
[ [ [
اود ان اعرف، اود ان اقول، وأود ان يعرفوا، ان يقولوا… وفي سرّي وددت لو يصرخوا، لماذا لا يصرخون؟
لماذا بقيت أمي صامتة يوم قلت لها إني اكره خالتي منيفة لأنها لم تخبئ أمين في خزانتها الكبيرة، وتركت الرجال الذين اكرههم يحملونه في صندوق صغير الى مكان بعيد.
سألت، ربما في سرّي، عن معنى ذاك الغياب، ولا احد اخبرني يومها بأنه الموت، ولا احد كان يقول شيئاً عن معنى الموت، عن الـ«هناك» التي كانت تؤرقني، عما بعد الـ«هناك» حيث يذهب اطفال دارنا الصغار ضحية الجهل، وأنتظر عودتهم ولا يعودون.
سألت، ثم سألت لماذا يموت الأطفال في بلادنا، في هذا العالم العربي، في هذا العالم الثالث. باكراً يموتون ويبقى السؤال معلقاً.
لماذا؟
لماذا ذات يوم صوّب العسكر بنادقهم علينا، وسدت دباباتهم طريقنا، نحن اطفال المدارس، لم نفعل شيئاً. سرنا مع الكبار ولم نعرف الى اين، وهتفنا مثلهم: بدنا بشارة بدنا عادل بدنا الصلح… رددنا الهتاف ولم نكن نعرف ماذا يعني الاستقلال، وماذا يعني الوطن، وماذا يعني الاستعمار.
لماذا ما زال الأطفال يقتلون، او يكبرون ويقتلون؟
فهل نعرف؟
ولم نكن نعرف.
لم نكن نعرف لماذا حرّم على شقيقتي الكبرى متابعة دراستها رغم تفوقها. ولماذا لم يسمح لي بالسفر الى فرنسا لمتابعة دراستي العليا، فرنسا التي وراء الأفق، فرنسا اللغة التي تخولني ان اقرأ غير قصائد امرئ القيس وغير قصص الجاحظ.
لم اكن اعرف لماذا يهددني اخي بالقتل اذا تكلمت مع صديق في الجامعة، او ذهبت في رحلة مع الشباب، او الى السينما دون إذن منه.
ولم اكن اعرف لماذا حين التزمت العدالة وناضلت من أجل الحرية هُدّدت بالقتل.
لماذا يريدون قتلي، أنا الطفلة، أنا الفتاة، أنا الأم، أنا المواطنة والإنسان!
مفارقة
من هذه الـ«لماذا» التي لم تنم في الذاكرة اتيت الى الكتابة أنشد المعرفة، سبيلي الى ان اكون أنا، لي حريتي ولي ذاتي. ذات الإنسان في هذا الوطن الكبير.
من هذه الـ«لماذا» بدأت رحلتي في عالم القراءة والكتابة، وكان زواجي من صديقي في الجامعة بداية هذه الرحلة الطويلة، هو الذكر ولكن المختلف، معه صرت كائناً ولم اعد مجرد أنثى في محيط ران عليه الصمت وافتقد وعياً معرفياً يكشف ويحرّر ويدفع الى الحياة في معناها العادل والجميل.
وكان المسار صعباً وطويلاً، كان مسار حكاية ليست هي فقط حكايتي. إنها حكاية أناس كثر يشاركونني الأسئلة ويصبون الى المعرفة، بل إنها حكاية وطن يعاني قيامته، وتحققه الحديث ونعاني معه وجوده ووجودنا الذي لا بد وأن ينبني على المفارقة والاختلاف.
ولكن ما معنى هذا الاختلاف، وما هو المقصود بالمفارقة.
تعود الأسئلة وكأنها لا تنتهي، وتعود بي الذاكرة الى ما عشته، الى واقع هو مرجع اعدت قراءته في ضوء حاضر اعيشه.
في صيدا وحتى نهاية المرحلة التكميلية تعلمت في مدارس المقاصد الاسلامية، وحدها ماري عون كانت المسيحية بيننا. ماري تعرف الفرنسية وأنا اتقن العربية وأعاني من فرنسيتي.
وفي بيروت، العاصمة، اكملت دراستي الثانوية في مدارس الراهبات، وكنّا ثلاث مسلمات في القسم الداخلي على ما اذكر.
ما هذه القسمة، ولماذا! ألسنا أبناء وطن واحد، هل نحن في وطن واحد، اين هي المدرسة التي تجمعنا وترفع حدود الطائفة والمذهب؟
كنت أتساءل في سرّي وأسعد بتعلمي الفرنسية، وبالتعرف الى أخريات اكثر حرية في عيشهن مني.
غير اننا في الجامعة اللبنانية التي كانت يومذاك تسمى بـ«دار المعلمين»، اجتمعنا. كنا معاً: ميشال ومحمود، ومحمد، وإدوار، وإسبرنس، ورضى، ونزيه، وماري، وسامية، وإيلي، وسليم، وجان، ومادونا، وعبد اللطيف…
كان المكان صغيراً، والغرف والقاعات محدودة، بلا ملعب، بلا مطعم، بلا كافيتيريا… ومع هذا بدا لي هذا المكان الذي جمعنا رحباً امتد فيه خارج حواجز الجنس والطائفة. كنت كمن يخرج من قفص، يفك قضبانه الحديد، يكسرها، ويرمي بها بعيداً في الهواء ويضحك.
دار معلمين عليا: أدب وفلسفة وتاريخ وجغرافيا… لا اختصاصات اخرى، لا هندسة، لا حقوق، لا طب… هذه ليست جامعة تلبي طموحاتنا المتنوعة، صرنا نقول. هناك الجامعة، جامعة بهوية وانتماء. هناك الجامعة الاميركية، والجامعة اليسوعية. اين هي الجامعة اللبنانية التي بلا طائفة، التي تجمع، التي لها هوية لبنانية وانتماء لبناني.
عودة الأسئلة
هكذا عادت الأسئلة. ولم تكن اسئلتي وحدي، كانت اسئلتنا، نحن الجامعيين/الجامعيات. كنا نجهر بها، وكانت تتحول الى شعارات، الى نضال…
الكتابة التي مارستها طويلاً في مجلة «الطريق» نضال، والعمل قبل الكتابة نضال. اقول «نضال» وأعني فعل تغيير تذكيه الذاكرة، وهذا التبصر في الواقع الذي نعيش.
بنضال اللبنانيين/اللبنانيات صارت دار المعلمين العليا جامعة، وبنضال متخرجي دار المعلمين العليا، نهضت المدارس الثانوية الرسمية، مدارس التعليم الوطني، في كل لبنان.
يوم طلب مني ان اكون مديرة ثانوية رسمية، أي وطنية، للبنات في مدينة صيدا، تركت بيروت على مضض، بيروت التي احببت، وعشقت، بيروت التنوع، بيروت المكتبة الوطنية، السينما، بيروت الثقافة الثرية، بيروت المدينة المفتوحة على الآخر بلا تعصب يومذاك، بلا حواجز قاتلة.
تركت بيروت وكان عليّ ان اترك، فقد كنت الفتاة الوحيدة، الصيداوية، التي تحمل شهادة الليسانس والكفاءة… وكنت بصفتي هذه اشعر بمسؤوليتي اتجاه ثانوية ناشئة. واتجاه فتيات يرغبن، كما رغبت ذات يوم، في متابعة الدراسة.
وكان سؤال:
كيف أكون مديرة أنا التي لم يمض على تخرجي ووجودي في الوظيفة اكثر من اربع سنوات؟
كيف اكون مديرة حين يأتي الأهل ينظرون إليّ ويسألونني اين هي المديرة؟
كيف اكون مديرة وهذه المدرسة لا تضم سوى صفين وطالبات لا يتجاوز عددهن الثلاثين؟
وكان نضال. نضال من اجل ان يكون هذا المكان ثانوية ومن اجل ان تكون الثانوية وطنية، ثانوية تجمع فتيات صيدا والمحيط، المسلمات والمسيحيات. هكذا كنت ارفض تعبئة الجداول التي كانت ترسلها مديرية التعليم الثانوي لتحديد عدد التلميذات المسلمات وعدد المسيحيات. وهكذا طلبت من مدرّسي/ مدرّسات مادة التعليم الديني التركيز على ما يجمع ولا يفرّق (الإيمان والأخلاق)، والسماح لمن ترغب من هذه الديانة حضور حصة الديانة الأخرى.
كان ذلك أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي. كان لبنان ينهض: صناعة وعمالاً وطبقة وسطى ونقابات، وحركة طلابية للإعلاء من شأن التعليم الجامعي الوطني.
ويوم تركت الثانوية للتعليم في الجامعة اللبنانية، كانت ثانوية صيدا الرسمية للبنات تضم 40 شعبة، وكانت قائمة على نظرية تقول: كل القاعدة الى القمة، كل تلميذة هي اولاً مواطنة لبنانية. والتعلم حق لا منّة فيه لأحد. أما الواجب فهو المساهمة في إعلاء شأن هذا الوطن على اساس انه للجميع، وبعدالة، وبلا تفرقة بسبب الانتماء الى طائفة او مذهب.
الفن والإبداع
لكنها الحرب، الحرب على لبنان وفي لبنان. الحرب التي أشعلت نار الطائفة واستهدفت في ما استهدفت تدمير المدينة وتدمير قيمها الثقافية. تدمير أسواقها، ومكتبتها وجامعتها الوطنية، او اسس ان تكون الجامعة اللبنانية ما يجمع على اساس وطني لا طائفي.
لقد دمرت الحرب الجامعة الوطنية، كما دمرت المدينة وفكرة المدينة، وروح المدينة، وفكرة المواطنية في المدينة، وفكرة المكان والوطن.
وبدا سؤال المعرفة أكثر إلحاحاً عليَّ:
كيف نكون مواطنين؟
كيف تكون الثقافة العربية ثقافة وطنية، متميزة بطابع خاص بها؟
كيف نتعامل مع المعيش بصفته مرجعاً هاماً من مراجع ثقافتنا وتعبيراتنا الأدبية؟
وبدا لي المنظور النقدي مفهوماً هاماً يطرح سؤاله على مجموعة من العلاقات:
÷ العلاقة بالواقع المعيش، او ما سميته، اصطلاحاًٍ، بالمرجع الحي.
÷ العلاقة بالذاكرة وعلاقة الذاكرة بمرجعياتها الثقافية العامة والخاصة بما فيها المرجع الحي.
÷ العلاقة بالمتخيّل، بالتعبير، بالفن والإبداع.
هكذا رحت أقرأ، وأقرأ. وأكتب، أقرأ وأكتب وأناقش مع الأصدقاء والرفاق: مهدي عامل، محمد دكروب، حسين مروة، ومع نزيه رفيق الدرب الطويل. أكتب وأبحث، أستكمل أدوات بحثي وأستمر في طرح أسئلتي:
ما هي الشعرية في نتاجنا الإبداعي العربي؟
كيف تتشكل البنى الأدبية، بنى العالم الروائي المتخيّل باعتبار علاقتها بالمرجع الحي، من دون ان يعني ذلك انغلاقها على هذا المرجع؟
ما علاقة الخاص، الذاتي، بالعام الإنساني؟
أسأل مسكونة بهمٍّ وطني، ثقافي وإبداعي. همٍّ لا يغلق روحي على المكان الضيِّق، همٍّ يستجيب لهواجس طفولتي المتأملة في الأفق البعيد، السائلة عما وراء الأفق. هناك وراء البحر الذي كنت أصغي الى موجه يتكسَّر تحت نافذة بيتنا العتيق.
أسأل ليكون الاختلاف في وطني مصدر ثراء لحياتنا وثقافتنا، لا سبباً لتدمير البلد فوق رؤوسنا.
أسأل، أنا التي جئت من الصمت، لكن لا لأحكي الحكايات او لأنقذ فقط بنات جنسي، بل لأكتب من موقع الإنسان الذي لا يقف عند حدود الأنوثة، بل يتجاوزها ليشملها، يتجاوزها دون ان يُغفل معاناتها التاريخية المضاعفة.
إن كتابتي هي أنا الذات، هي ما عشته، هي ما استقرَّ في لا وعيي، هي الأمل والقصد، وربما الوهم، الوهم الذي يجعلنا نصدِّق الحياة، ونحتمل زمننا فيها. نعيش ونحن نعرف، او نعرف ونودُّ ان لا نعرف، بأن عيشنا ليس سوى اقترابنا من نهاية حياتنا.
([) الكلمة التي ألقتها الناقدة والأديبة يمنى العيد في يوم تكريمها مساء الأربعاء الماضي، في إطار أنشطة المهرجان اللبناني للكتاب الـ28 في أنطلياس.