صفحات ثقافية

كتاب القلادة للشاعر الكردي شيركو بيكه:مانيفستو ضد الـذكورية؟

null
مازن معروف
ماذا يبقى من عمل أدبي يمزج بين الشعر والرواية والسرد المقتضب والنثر والمسرح، عندما تحيله الترجمة على لغة أخرى؟ وماذا يتبقى من المرتكزات الأدبية والفنية التي يتكئ عليها عمل كتابي، حينما يتم نقله إلى لغة أخرى؟ وهل أن نقل عمل أدبي من لغة إلى أخرى، هو التزام أخلاقي في ذاته، بما يجيز للمترجم في بعض الأحيان عدم الوقوف أمام المكونات الأدبية، والمفاتيح الدقيقة للغة الأم المنقول عنها؟ وهل يمكن صوغ عجينة لغوية، تغلف النص الشعري، وتضمن ألا تتأكله النبرة الخطابية، أو الإحتجاجية، وخصوصا إذا حُمِّل على أكتافه موضوع اجتماعي أو سياسي؟ وهل يكفي التنويع في الأشكال الكتابية داخل مؤلف واحد، لتشكيل عجينة لغوية من نوع واحد، وإن تحت مظلة التجريب؟
هذه الأسئلة هي من جملة محفزات عديدة، يطرحها علينا “كتاب القلادة”، آخر أعمال الشاعر الكردي شيركو بيكه س، الصادر عن “دار الجمل”، ترجمة هيوا عزيز، مراجعة محيي الدين زه نكه نه. لنبدأ من العنوان نفسه. فهناك القلادة، وهناك كتابها. تسمية كهذه، تشبه أنبوبا ذا هواء من مكون واحد، غير مستحب. يوضع القارئ فيه كأنه مناخ مفروض، وقاس. هذا الأمر يمثل جَلدا للقارئ نفسه قبل أن يكون جلدا للتاريخ الذكوري برمته، الذي هو موضوع العمل. ما يزيد من ثقل هذا المناخ، أن الكتاب لا يحمل في داخله تبويبات، وتالياً يأتي على شكل طبق رئيسي فخم، يحتم على القارئ إلتهامه بجلسة واحدة، ومن دون راحة، إما بسبب حساسية موضوعه، وإما بسبب كونه ندا للقارئ الجائع. هذا المناخ الوحدوي، والأسطواني، غير المتنوع، وإن نوّع الكاتب في أسلوبيات الكتابة فيه، يحتم على المترجم مراعاة شديدة لخصوصيات اللغة الكردية، التي تبدو ترجمتها مجازفة. فليس أمام القارئ من خيارات سوى المعنى، بخلاف الزخرفة اللغوية، والخصوصية التجريبية التي يتمتع بها شعر بيكه س، واللتين تبقيان بعيدتين في الجوهر. ما تنجزه الترجمة في مثل هذه الحالة، ليس سوى إسعاف طارئ، لأنقاض القصيدة، ومن شأن ذلك أن يبقي القارئ بمعزل عن الإشارات اللغوية، فيقع في الخانة الخطابية والإحتجاجية التي لا تضيف شيئا جديدا حول معاناة المرأة، وانتقاص حقوقها في المجتمع الذكوري. وهو القارئ الذي سيعكس المؤَلف صورته وكأنه غير مستعد لاستقبال كتاب شعري، يدور حول شيء كالقلادة مثلا. في مثل هذه الحالة، فإن العذوبة أو الرومنطيقية سمة مجتزأة، لا يمكن التعكيز عليها، لبناء قصيدة ذات نفس ملحمي طويل ومكثف.
لسنا في معرض الانتقاص من قدرات المترجم هيوا عزيز، الذي بذل جهدا وافيا لتعريفنا بآخر أعمال شيركو، أكثر الشعراء الأكراد شهرة، إنما هو تأمل مقتضب في خصوصية لغة كردية، وإشارة إلى التشكيل اللغوي في هذا الكتاب، مما جعل منه مؤلفا متواضعا عند نقله إلى لغة أخرى بسبب فقدانه عذرية اللغة الأصلية المكتوب بها.
هذا الأمر لا يخفي عن القراء الموجودات الجمالية في العمل. فالمزج بين لغة الشعر والسرد والنثر والقص والمسرح، يشكل أرضا مرنة ومتذبذبة في الوقت نفسه، لكنه يمثل اختصارا لأشكال لغوية تتبلور متأثرة بالبيئة والمتغيرات السوسيولوجية والشعبية والمعارك الكبرى، منذ قرابة الألف عام، إضافة إلى التناوب الشرس على الحكم في المنطقة العربية وتركيا وإيران، حيث شكّل الأكراد في كل هذه المناطق قومية لم تنعزل بتاتا عن التراث العربي من جهة، وعن التراثين الفارسي والتركي من جهة أخرى. ونظرا الى التقارب الجغرافي بين هذه الدول، والمعارك الكبرى التي شهدتها امتدادا من العراق حتى تركيا، فإن الأكراد ظلوا منضوين تحت لواء الحكم الإسلامي العربي. وحتى في ظل نشوء الدولة الأيوبية على يد صلاح الدين، الذي هو كردي، فإنه لم يكن للأكراد دولة أو نظام اجتماعي خاص بهم، إلا أنهم استلهموا تقاليدهم الخاصة بهم كعيد النيروز، الذي هو تقليد متبع أيضا في إيران، واستطاعوا لاحقا أن يكوّنوا تقاليدهم الخاصة بهم، وذلك لخصوصية المناطق الجغرافية التي سكنوها. تالياً، فإن علاقة الرجل بالمرأة عندهم، لم تختلف صورتها عن التمايز الذي فرضته ذهنية ذكورية لطالما تباهى بها الرجال العرب، متذرعين بالإسلام حينا وبالتقاليد والأعراف الإجتماعية حينا آخر.
لا شك في أن التاريخ الحديث الخاص بالأكراد يمثل جزءا من ذاكرة شعرية عامة، ويستدعي ثقافة خاصة بالشعب الكردي للتعبير، مما يصعب المهمة أمام إمكان استقلال مشروع كتابي رومنطيقي بالكامل، أو حداثوي لناحية المضمون. فالأفق الملحمي يتربص دائما بالنص. وسواء أكان هذا الأفق عاما أم شخصيا، فإنه لا بد أن ينسحب على الشعب الكردي وليس فقط على الشعراء، ولا بد أن تتم “فلترة” التاريخ للتركيز على المظلومية التي لحقت بهذا الشعب خلال حكم نظام صدام حسين (حملة الأنفال بشكل خاص، التي قتل فيها وشرِّد الآلاف من الأكراد، ولم يستثن الشيوخ والأطفال والنساء من الإبادة). هذه الواقعة تؤمن للشاعر عودة إلى التراجيديا في نهاية الكتاب من خلال التشديد على إعادة كرمسير إلى الواجهة، وهي منطقة سهلية جنوب كردستان، تعرضت لحملات الأنفال بشراسة. “لكن قلادة أخرى كانت أشجع مني، حيث فقدت في السابق عشر حبات من أقاربها وذويها في حملات الأنفال”. وهذا هو أحد الخطوط الخفية للنص، الى جانب الانتقاد الواضح للهيئة الدينية وما يمارس باسم الإسلام، من دون المساس بالنص. إضافة إلى التعدد في شخصيات القلادات بسبب تنوعها الفني، وسهولة وضعها ونزعها بحسب ما يلائم الثياب، ولأن القلادات تحكي تاريخا سريا ومتواريا للمرأة. ذلك كله يشكل ما يمكن تسميته الخط النفسي النسوي بشكل خاص.
تلجأ اللغة في “كتاب القلادة” إلى التاريخ. تتوارى خلفه، وتدفعه من دون أن تمتصه أو تستولد عبره نسيجا شعريا عاليا. من هنا يأتي تفعيل شيركو بيكه س، لهذا التاريخ بتكديسه واختزاله، وتوظيفه لاستعراض أحد “الجوانب الثانوية” الاجتماعية، وهو علاقة الرجل بالمرأة، من خلال تصنيف العالم إلى جزء ذكوري، تنضوي فيه كل الأدوات التي يستخدمها الرجل، وجزء أنثوي ينضوي فيه كذلك كل ما تستعمله المرأة في حياتها اليومية.
هذا التخصيص لمقتنيات العالم وجعلها إما ذكورية وإما أنثوية، يعتمد على أساس بعدها الوظيفي وليس اللغوي، ويغمز من قناة إحتكار الرجل لأشياء شريرة خشنة وغير لطيفة، والمرأة لأشياء أخرى، ناعمة ووديعة ومهدئة. فالشفرة مثلا عنصر ذكوري، وكذلك فرشاة الحلاقة والمسدس والقبعة والسروال والمئزر والقميص وفرشاة الحلاقة. أما قلم الحواجب فهو أنثوي، وكذلك مقلم الأظافر وأحمر الشفاه والقرط والغاية من هذا التصنيف، إختراع مسافة بين الذكر والأنثى، مما يفسح لصوت الأخيرة حيزا يبقيها مستقلة ومسموعة. وفي ظل اختيار الشاعر للقلادة التي هي من أقدم المقتنيات الأنثوية، يتم في المقابل تشييء الإنسان الذكر وأنسنة أشيائه. هذا ما يعيد إلى النسيج البشري والإنساني شيئا من التوازن عن عمد، إذ إن اقتران الذكر “المهيمن” بأشيائه، يحط من قدره، وينزل مرتبته. هذا الإنقلاب على الذات الذكورية، يتعزز من خلال احتلال القلادات المختلفة، للصوت الأساسي في العمل، بل وغياب الصوت الذكوري المباشر. فهناك القلادة الصالحة، والقلادة المومس، وهناك قلادة ترتضي العيش مكرهة في كنف الرجال السراويل، وقلادات أرامل وبائسات، وقلادات يبعن أجسادهن، وقلادات شاعرات، وقلادة تلميذة فقيرة، والقلادة الطبيبة، وقلادات يعاقبن على أفعالهن…إلخ.
نرى أن التكوين السوسيولوجي لا يمكن أن يحصل من دون أن تتفاوت أصوات القلادات في المستوى والنبرة والخلفية الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى الكم الثوري لكل منها. وهي في كل حال، أصوات أنثوية، تتأرجح خفيفة بين غضب وتمرد وحقد وأسى وانكسار وأمل وترقب وقلق واستذكار. فالقلادات تتباين في ما بينها عبر حالات وجودية ملتبسة. وبعضها تسعى من خلال قدرية، نحو أحلام مستحيلة أو توهمات تبدو كأنها عصية “لو كانت قسمتي قد قادتني إلى دولة مثل إيطاليا/ شرط أن أعيش في فلورنسا/ فلربما كنت الآن معلقة في رقبة راقصة فاتنة في أحد النوادي الليلية/ يهزني نسيم رقصة التانغو”.
تحوّل القلادات كائنات ناطقة وأشياء ترصد العالم، يرسم ظلالا كثيفة حول الأحياء بالمعنى البيولوجي والإيكولوجي للكلمة، كما يؤلف عالما شيئيا لكنه حيوي.
لكن شيركو بيكه س لا يكتفي هنا، بل يمد في بعض الأحيان خيوطا احتجاجية تتخطى صوت القلادات، فيتدخل صوته الخاص والمنفعل بشكل ظاهري حيث يزلقه داخل العمل على رغم محاولته النأي بذاته عنه: “في موطن الذكور وفي منازل الرجال/ أشياء من المكنسة وحتى القدور/ كلها نساء/ من الأطباق والمواعين وصولا إلى الأقداح وأطباق الشاي والملاعق/ وحتى الموت كلها نساء/ أما الذكور في البيت فهم الأجراس وساعات الجدران والمفاتيح والأقفال والسياط/ والأرائك… تتبوأ المقام العالي حتى الممات”. هذا الإنزلاق يغلب الصوت الإحتجاجي لشيركو على حساب صوت الشاعر، مما ينسحب على تعزيز الكيان الخطابي في النص على حساب الكيان الجمالي الفني، فيؤخر وصول الكيان الشعري، ويحول العمل مانيفستو ضد الذكورية.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى