صفحات مختارة

الإسلام السياسي في خدمة التوسع الإمبريالي 1/2

سمير أمين
ترجمة : انتصار العزيزي
تنادي التيارات التي تتبنّى الإسلام السياسيّ، كلّها، بـ”خصوصية الإسلام”. وبحسب هذه التيارات فإنّ الإسلام لا يفصل بين الدين والسياسة، الأمر الذي يفترض تميّزه عن الديانة المسيحية. ولن يضيرنا تذكير هؤلاء، كما فعلت أنا شخصيا، بأنّ ملاحظاتهم منسوخة، كلمة كلمة تقريباً، عن ردود الفعل التي شهدتها أوربا في بدايات القرن التاسع عشر (حالة  “بونالد” و”دو ميستير”، مثلا ) في سياق إدانتها التمزّق الذي أنتجته الثورة الفرنسية و” الأنوار”  في تاريخ “الغرب المسيحيّ” (1 ).
وعلى أساس هذا الموقف، فإنّ كلّ تيّار من تيارات الإسلام السياسيّ يختار إدارة صراعه على أرضية الثقافة. هذا ولو أنّ ” الثقافة” تقلصت في الواقع الفعليّ إلى مجرد توكيد مبتذل على الانتماء إلى دين معين. وفي الحقيقة، فإنّ مناضلي الإسلام السياسيّ ليسوا معنيين في الواقع بمناقشة العقائد التي تشكل الدين. وتقتصر طقوس تأكيد العضوية في المجتمع على حصرية انشغالهم. ولا تعتبر مثل هذه الرؤية حول واقع العالم الحديث محبطة بسبب الفراغ الهائل في التفكير بأنها مخفية، بل أيضاً لانها تبرر الإستراتيجية الإمبريالية في إحلال ما يسمى بصراع الحضارات بين المراكز الإمبريالية وبلدان الأطراف الخاضعة لهيمنتها. وسمح التركيز الحصريّ على الثقافة للإسلام السياسيّ بالتخلص من كافة مناحي الحياة الإجتماعية الحقيقية التي تؤدي إلى المواجهات بين الطبقات الشعبية والنظام الرأسماليّ العالميّ الذي يضطهدها ويستغلها. ولا يملك مجاهدو الإسلام السياسيّ أيّ حضور حقيقيّ في المجالات التي تأخذ فيها الصراعات الإجتماعية مكانا لها، حيث يكرر قادتهم أن مثل هذه الصراعات غير مهمة. ويحضر الإسلاميون في هذه المناحي فقط لافتتاح مدارس ومراكز صحية  لا تمثل في واقع الحال سوى عمل خيريّ أو تعليميّ، وهي ليست وسائل دعم للطبقات الشعبية الكادحة في مواجهة النظام المسؤول عن فقرهم.
وعلى أرضية القضايا الإجتماعية الحقيقية يضع الإسلام السياسيّ نفسه في معسكر الرأسمالية التابعة والإمبريالية المهيمنة. فهو يدافع عن مبدأ الطابع المقدس للملْكية، ويشرعن اللامساواة وجميع متطلبات إعادة الإنتاج الرأسماليّ . ويعتبر الدعم الذي قدمه الأخوان المسلمون في البرلمان المصريّ [ العام الماضي] للقوانين الرجعية التي تعزز حقوق مالكي العقارات على حساب حقوق المزارعين المستأجرين ( وأغلبيتهم من الفلاحين الصغار) مجرد مثال واحد من بين مئات الأمثلة على ذلك. والواقع ليس ثمّة مثال حتى على قانون رجعيّ واحد في أيّ من الدول الإسلامية تعارضه الحركات الإسلامية. أكثر من ذلك ؛ إنّ مثل هذه القوانين يتمّ سنّها بالإتفاق مع قادة النظام الإمبرياليّ . فالإسلام السياسي ليس ضدّ الإمبريالية، حتى وإن كان أتباعه يفكرون على غير هذا النحو ! وهو حليف ثمين للإمبريالية، وهذه المعلومة جرى إدراكها مؤخراً. وهكذا يسهل فهم لماذا كان الإسلام السياسيّ يضع اعتماده دائماً على الطبقة الحاكمة في المملكة العربية السعودية وباكستان. حتى أن هذه الطبقات كانت من أكثر المروّجين له منذ البدايات. كما دعّم الإسلام السياسيّ بقوّة كلاّ من البورجوازيات الكومبرادورية المحلية والأثرياء الجدد والمستفيدين من العولمة الإمبريالية الراهنة. وقد تخلّى مؤخراً عن مناهضة الإمبريالية واستعاض عنها بموقف مناهضة الغرب (الذي يعني غالبا ” مناهضة المسيحية” )، والذي من الواضح أنه يقود المجتمعات إلى طريق مسدود، لكنه لا يشكّل عقبة أمام انتشار الامبريالية وسيطرتها على النظام العالميّ.
ولا يعتبر الإسلام السياسيّ رجعيا فقط فيما يتعلّق بمسائل محدّدة (خصوصاُ المتعلقة بوضع المرأة)،  بل ربما كان هو المسؤول أيضا عن التجاوزات المتعصّبة التي تمارس ضد المواطنين من غير المسلمين (مثل الأقباط في مصر) ؛ الأمر الذي يعتبر في أساس الرجعية . ولذلك من الواضح أنّ الإسلام السياسيّ لا  يستطيع المشاركة في عملية تحرير الشعوب.
ورغم ذلك ثمّة ثلاث حجج رئيسة تشجّع الحركات الاجتماعية ككلّ على الدخول في نقاش مع حركات الإسلام السياسي. الأولى هي قدرة الإسلام السياسيّ على القيام بتعبئة شعبوية واسعة لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها. والعديد من الصور الحالية تعزّز على نحو مؤكّد هذا الإدّعاء. ومع هذا ، يجب على المرء التأنّي عند التعاطي مع قضية ” التعبئة ” . فـ ” النجاحات”  الإنتخابية التي تم تحقيقها تأخذ مكانها الصحيح حالما تخضع للتحليل الدقيق. وأذكر هنا، على سبيل المثال، أنّ نسبة الإمتناع عن التصويت وصلت إلى أكثر من 75 في المئة (!) في الانتخابات المصرية الأخيرة . فقوة الشارع الإسلاميّ، في جانبها الأكبر، هي ببساطة الوجه الآخر وحسب لضعف اليسار المنظم  الغائب عن المجالات التي تحصل فيها وحولها الصراعات الاجتماعية الراهنة.
وحتى إذا كان هناك اتفاق على أنّ للاسلام السياسيّ القدرة على تعبئة أعداد كبيرة فعلا، فهل هذا يبرر الاستنتاج بأنّ على اليسار السعي إلى إدراج منظمات الإسلام السياسيّ في سياق تحالفاته من أجل العمل السياسي أو الاجتماعي؟ وإذا نجح الإسلام السياسيّ في تعبئة أعداد كبيرة من الناس، وهذا هو الواقع ببساطة، فإنّ على أيّ استراتيجية سياسية فاعلة أن تأخذ هذا الواقع بعين الإعتبار في بحثها وتحديد أطروحاتها وخياراتها. إلا أنّ السعي إلى إقامة تحالفات [ مع الإسلام السياسيّ] ليس بالضرورة أفضل الوسائل للتعامل مع هذا التحدّي . وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ منظمات الإسلام السياسي- والإخوان المسلمين بالتحديد – لا تسعى إلى تحالفات كهذه، بل ترفضها في الواقع . وإذا صودف أن توصلت بعض المنظمات اليسارية إلى الإعتقاد، مع الأسف، بأنّ تنظيمات الإسلام السياسي قد قبلتها كشريك، فإنّ أوّل قرار ستأخذه الأخيرة بعد نجاحها في الوصول إلى السلطة هو التخلص من عبء هذه التحالفات وتصفية هذا اليسار بعنف شديد، كما حصل في إيران مع “مجاهدين خلق ” و”فدائيين خلق” [ فضلا حن حزب ” توده ” الشيوعيّ ].
أما السبب الثاني الذي طرحه مناصرو “الحوار” فيقول إنّ الإسلام السياسيّ، حتى وإن كان رجعيا لجهة الأطروحات الاجتماعية ، فهو “مناهض للامبريالية”. وقد سمعت أنه أشير إلى أنّ المعيار الذي أقترحه أنا في هذا الصدد (الدعم غير المشروط للكفاح من أجل التقدّم الإجتماعيّ) إنما هو معيار “اقتصادويّ economistic” يهمل الأبعاد السياسية للتحديات التي تواجه شعوب الجنوب. من جهتي ، لا اعتقد أنّ هذا النقد صحيح فيما يتعلق بما قلته عن الديمقراطيه والأبعاد الوطنية للردود المطلوبة من أجل معالجة هذه التحديات.
كما أنني أوافق على أنّ الممارسة العملية التي تقوم بها قوى الإسلام السياسيّ  في سياق ردها على  التحديات التي تواجه شعوب الجنوب، لا تتسق بالضرورة مع نهجها في التعامل مع الأبعاد الاجتماعية والسياسية. وبالتالي من الممكن أن نتصور أنّ الاسلام السياسيّ هو مناهض للإمبريالية، رغم تراجعه عن الركب الإجتماعيّ. وهنا يتبادر إلى الذهن على الفور كلّ من إيران و”حماس” في فلسطين و”حزب الله ” في لبنان، إلى جانب بعض حركات المقاومة في العراق. وهذه الحالات سأناقشها بالتفصيل لاحقاً. لكن ما أودّ تبيانه هو أنّ الاسلام السياسيّ ككل هو ، ببساطة متناهية،  ليس مناهضاً للإمبريالية، وإنما يصطفّ كلياً وراء القوى المهيمنه على الصعيد العالميّ.
الحجة الثالثة تسترعي انتباه اليسار إلى ضرورة مكافحة ظاهرة “الخوف من الإسلام” ( الـ Islamophopia ). إنّ أيّ يسار جدير باسمه لا يستطيع تجاهل قضية الضواحي la question des Banlieues  ، أي المعاملة التي تلاقيها الطبقات الشعبية من أصول مهاجرة في حواضر الرأسماليه المتطورة المعاصرة. وتبقى جميع التحليلات وردّات الفعل التي تبديها المجموعات المختلفة حول هذا التحدّي، (الأحزاب المعنية نفسها، اليسار الانتخابيّ الأوربيّ، واليسار الراديكالي) ، خارج موضوع هذا النص . وسأكتفي هنا بإبداء وجهة نظري من حيث المبدأ : لا يمكن أن تقوم الإستجابة المتدرجة على أساس إضفاء الطابع المؤسّساتي على المشتركية communitarianism (2) التي ترتبط حتماً وبالضرورة مع عدم المساواة، وتعمل في نهاية المطاف على إرساء ثقافة عنصرية. والواقع ثمّة ناتج  أيديولوجيّ معيّن لثقافة الولايات المتحدة السياسية الرجعية، وأعني المشتركية  communitarianism التي سبق أن انتصرت في بريطانيا العظمى، بدأ بتلويث الحياة السياسية في القارة الأوروبية. فالخوف من الإسلام، الذي يروّج منهجيا من قبل أقسام هامة من النخبة السياسية والإعلام، هو جزء من إستراتيجية لإدارة تنوع المجتمع لصالح رأس المال، بالنظر لأن هذا الاحترام المزعوم للتنوع هو في واقع الحال مجرد وسيلة لتعميق الانقسامات داخل الطبقات الشعبية..
ويقود تحديد مسألة ما يسمّى مشكلة الجيران( أو الضواحي banlieues) وخلطها بمسألة الإمبريالية (على سبيل المثال الإدارة الامبريالية للعلاقات بين المراكز الإمبرياليه المهيمنة وسائر المحيطات المهيمَن عليها)، وكما يحدث أحيانا، إلى عدم إحراز أيّ تقدم على أيّ من هذه الأراضي المختلفة. ويعتبر هذا الخلط جزءاً من أدوات الرجعية  ويعزز ظاهرة الخوف من الإسلام، الذي بدوره، يجعل من الممكن إضفاء الشرعية على الهجوم ضد الطبقات الشعبية في المراكز الإمبريالية والهجوم ضدّ شعوب المناطق المهيمين عليها، على حدّ سواء. ويوفر هذا الخلط وظاهرة الخوف من الإسلام، بدورهما، قيمة خدماتية للإسلام السياسيّ الرجعيّ، ويمنح المصداقية للخطاب المعادي للغرب. وهنا أقول إنّ الحملتين الأيديولوجيتين الرجعيتين المسوّقتين، على التوالي، من قبل كلّ من اليمين العنصريّ في الغرب والإسلام السياسيّ، تؤازر إحداهما الآخرى على نحو متبادل، وذلك بالضبط لأنهما تناصران الممارسات المشتركية.
الحداثة، الديمقراطية، العلمانية والإسلام
تنبثق الصورة التي تقدمها المناطق العربية والإسلامية عن نفسها اليوم من المجتمعات التي يعتبر الدين (الإسلام) فيها حاضراً في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية؛ وذلك إلى الحدّ الذي يبدو معه من الغريب التمييز بينهما. وقد خلصت غالبية المراقبين الأجانب (الزعماء السياسيين ووسائل الإعلام) إلى أنّ الحداثة، وربما الديمقراطية، يجب عليها التكيف مع الوجود القويّ للإسلام، بقوة الأمر الواقع De Facto الذي يعوق العلمانية. فإمّا أن تصبح هذه المصالحة ممكنة وسيكون من الضروريّ دعمها، أو أنها غير ممكنة وسيكون من الضرورى التعامل مع هذه المنطقة من العالم كما هي. أنا لا أوافق على الإطلاق هذه النظرية التي تسمّى “الرؤية الواقعية”. فالمستقبل- من وجهة نظر الإشتراكية العالمية البعيدة- هو لشعوب هذه المنطقة كما هو للآخرين، وهو ديمقراطيّ وعلمانيّ. ورغم أنّ هذا المستقبل ممكن في هذه المناطق كما في أيّ مكان أخر، إلا أنّه لا توجد أيّ ضمانات أو تأكيد في أيّ مكان.
تشكّل الحداثة، التي بدأت في أوربا خلال القرن السادس عشر، انقطاعا أو قطيعة (Rupture) في التاريخ العالمي. وتدعي الحداثة أنّ البشر، أفرادا وجماعات، مسؤولون عن تاريخهم، وبالتالي القطع مع الأيديولوجيات ما قبل الحداثية المسيطرة. فالحداثة، إذن، تجعل الديمقراطية ممكنة، مثلما تطالب بالعلمانية، من خلال فصل الدين عن السياسة. وبعد تكوينها من قبل حركة الأنوار في القرن الثامن عشر، وتطبيقها من قبل الثورة الفرنسية، شكّل الجمع بين الحداثة والديمقراطية والعلمانية، بتقدمه وتراجعه، ملامح العالم المعاصر منذ ذلك الحين. إلا أنّ الحداثة في حد ذاتها ليست فقط ثورة ثقافية، فهي تستمد معناها فقط من خلال العلاقة الوثيقة التي انبثقت لدى ولادة ونمو الرأسمالية المتسارع. هذه العلاقة اشترطت الحدود التاريخية لـ”للوجود الواقعيّ” للحداثة. ويجب اعتبار الأشكال المادية للحداثة والديمقراطية والعلمانية، إذن، نواتج محددة من التاريخ المادّيّ لنموّ الرأسمالية. وهذه النواتج تتشكل في ظروف محددة تكون فيها هيمنة رأس المال واضحة – حيث المساومات التاريخية التي تحدد المضامين الاجتماعية للكتل المهيمنة (وهو ما أُطلقُ عليه “السياق التاريخيّ للثقافات السياسية “).
هذا العرض المكثّف لفهمي الطرقَ المادية َ التاريخية َهو ببساطة للاستشهاد بالطرق المختلفة للجمع بين الحداثة الرأسمالية، والديمقراطيه والعلمانية في سياقها النظريّ.
طرحَت حركةُ الأنوار والثورة الفرنسية نموذجا للعلمانية الراديكالية. فللفرد ( في حالتنا هنا المعني هو ” المسيحيّ” ) حرية الإختيار بين أن يكون ملحدا أو لا أدريا، ربوبيا أو مؤمنا، أما الدولة فليس لها أن تعلم شيئا عن ذلك. وفي القارة الأوروبية، كما في فرنسا مع بداية الثورة،  مثلت التراجعات والمساومات، التي جمعت ما بين سلطتي البرجوازية والطبقات المسيطرة في أنظمة ما قبل الحداثة، قاعدة لأشكال مخفّفة من العلمانية تُفهم على أنها تسامح، دون استبعاد الدور الاجتماعيّ للكنائس من النظام السياسي. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد أفضى مسارها التاريخيّ الخاصّ إلى تشكيل ثقافة رجعية على نحو أصوليّ لا وجود للعلمانية الحقيقية فيها. فالدّين هنا معترف به كفاعل اجتماعيّ، أما العلمانية فتختلط بتعددية في الأديان الرسمية (أيّ دين – أو حتى طائفة – هو رسميّ !).
ثمة صلة واضحة بين درجة صلابة العلمانية الراديكالية ودرجة دعم تشكيل المجتمع بالتوافق مع الموضوع المركزي للحداثة. ويمثّل اليسار، سواء أكان راديكاليا أم معتدلا، والذي يؤمن بفعالية السياسة في توجيه التطوّر الاجتماعيّ في اتجاهات مختارة، المدافع القويّ عن مفاهيم العلمانية. هذا بينما يدعي اليمين المحافظ أنه ينبعي السماح للأمور بأن تتطور بنفسها سواء أكانت القضية اقتصادية أو سياسية أو إجتماعية. فعلى الصعيد الاقتصادي يبقى ” السوق “، دون ريب، الخيار المفضّل لرأس المال. أما على المستوى السياسيّ فإنّ الديمقراطية “منخفضة القوة” تصبح هي القاعدة، ويستعاض عن تداول السلطة ببديل من الصنف السياسيّ نفسه. وفي المجتمع، وضمن السياق نفسه، لا تحتاج السياسة إلى علمانية فعالة، فـ ” المشتركات ” communities  /مكرر) تعوّض عجز الدولة. هذا بينما يتولّى السّوق والديمقراطيه التمثيلية صناعة التاريخ، ويتوجّب أن يسمح لهما القيام بذلك ! وفي اللحظة الراهنة من انسحاب اليسار، تسود النسخة المحافظة من الفكر الإجتماعيّ على نطاق واسع، حيث تستدرج الصياغات من أفكار تورين Touraine ونيغريNegri 3 . وتذهب الثقافة السياسية الرجعية للولايات المتحدة حتى إلى أبعد من ذلك في إنكار مسؤولية العمل السياسيّ. فتكرار التأكيد الغبيّ على أن الله يلهم الأمة “الأميركية”، والإلتزام الكبير بهذا “الإيمان”، يقلّص مفهوم العلمانية الفعلية ليوصلها إلى …لا شيء. والقول إنّ الله يصنع التاريخ هو، في الواقع، من أجل السماح للسوق وحده القيام بذلك.
أين تقع شعوب منطقة الشرق الأوسط من وجهة النظر هذه؟
تقود صورة الرجل الملتحي ذي القامة المنحنية ومجموعة النساء المحجّبات إلى استنتاجات متسرّعة حول حجم الإلتزام الدينيّ للأفراد. فالأصدقاء الغربيون ” الثقافويون Culturalist ” ، الذين يدعون إلى احترام المعتقدات على اختلافها، نادرا ما  يرون الإجراءات التي تنفذها السلطات لتقديم صورة تكون مريحة لهم. هناك بالتأكيد ” مجانين الله ” (fous de Dieu)  ،  ولكن هل هم، نسبيا، أكثر عدداً من الكاثوليك الإسبان الذين يسيرون في مواكب عيد الفصح،  أو من الحشود الهائلة  التي تستمع لمبشّري أجهزة التلفزيون في الولايات المتحدة [ كما يجري عندنا مع يوسف القرضاوي  وعمرو خالد وقبلهما متولي شعراوي ]؟
على أية حال، لم تقدم هذه المنطقةُ نفسَها على هذه الصورة دائما . فبعيدا عن الاختلافات بين بلدانها ثمّة إمكانيات لايمكن الاستخفاف بها لتطوّر العلمانية في هذه المنطقة الممتدة من المغرب إلى أفغانستان، بما في ذلك الشعوب العربية جميعها ( باستثناء شبه الجزيرة العربية )، والأتراك والأرمينيون والأفغان وشعوب جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية السابقة. هذا ولو أنّ الوضع يختلف بالنسبة للشعوب المجاورة الأخرى، سواء في شبه الجزيرة العربية [ دول الخليج] أم باكستان.
لقد طـُبعت التقاليد السياسية في هذه المنطقة الواسعة على نحو قويّ  بالتيارات الحداثية الراديكالية: فأفكار الأنوار، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية وشيوعية ” الأممية الثالثة ” كانت حاضرة في أذهان الجميع، وكانت، على سبيل المثال، أكثر أهمية بكثير من الحياة البرلمانية في قصر ويستمنستر [  مجلسي العموم واللوردات البريطانيين]. وقد ألهمت هذه التيارات المهيمنة النماذج الرئيسة للتحوّل السياسيّ الذي قامت به الطبقات الحاكمة، والتي يمكن وصفها، من بعض جوانبها، بأنها أشكال من الاستبداد المستنير.
هذا بالتأكيد ما كان عليه حال مصر زمن محمد علي أو الخديوي إسماعيل، وكذلك حال “الكمالية” [ نسبة لكمال أتاتورك]  في تركيا وعملية التحديث في إيران، الشبيهتين بهما. وتنتمي الشعبوية الوطنية في مراحل التاريخ الأخيرة الى عائلة المشاريع السياسية الحداثوية نفسها. وأشكال هذا النموذج عديدة، ( “جبهة التحرير الوطني الجزائرية “، و”البورقيبية” التونسية، و”الناصرية”  المصرية، و”البعثية ” في سوريا والعراق)، إلا أنّ اتجاهها العامّ كان واحدا. ومن الواضح أنّ التجارب المتطرّفة – المسماة أنظمة شيوعية في جنوب اليمن سابقا وأفغانستان – لم تختلف كثيرا في واقع الأمر. وهذه الأنظمة جميعها أنجزت الكثير؛ ولهذا السبب كانت تمتلك تأييداً شعبياً كبيراً. ولهذا أيضاً، وعلى الرغم من أنها لم تكن ديمقراطية في الواقع، فتحت الطريق لتطوّر ديمقراطيّ ممكن في هذا الاتّجاه. وفي ظروف معينة، كتلك التي كانت موجودة في مصر خلال الأعوام 1920 – 1950، كان مجرّد محاولة إجراء انتخابات ديمقراطية، بدعم من مركز الاعتدال المناهض للامبريالية (حزب الوفد)، يواجَه بمقاومة السلطة الامبريالية (بريطانيا العظمى) وحلفائها المحليين (القصرالملكي ). والعلمانية، التي طبقت بأشكال معتدلة، لم يجر ” رفضها ” من قبل الشعب.
في الواقع، لم تكن التجارب الحداثوية، من الاستبداد المستنير إلى الشعبوية الوطنية الراديكالية، منتجات المصادفة، بل نتاج الحركات القويّة التي كانت تهيمن في أوساط الطبقات الوسطى . وبهذه الطريقة عبّرت تلك الطبقات عن رغبتها في أن ينظر إليها كشريك كامل الأهلية في العولمة الحديثة. وهذه المشاريع، التي يمكن وصفها بأنها بورجوازية وطنية، كانت حداثوية ومتعلمنة  وحوامل محتملة للتطور الديمقراطيّ. لكنّ هذه المشاريع، وبالضبط لأنّها تعارضت مع مصالح الإمبريالية المهيمنة، حاربتها هذه الأخيرة بلا هوادة وحشدت القوى الظلامية في وجهها  بصورة منهجية لهذه الغاية.
إنّ تاريخ الاخوان المسلمين معروف للجميع. فقد نشأت هذه الحركة في العشرينات من القرن الماضي على أيدي البريطانيين والنظام الملكيّ بهدف قطع الطريق أمام حزب الوفد الديمقراطيّ والعلمانيّ. ويعلم الجميع أيضاً أنّ السادات ووكالة المخابرات المركزية الأميركية نظّما عودة جماعية لعناصر الحركة وجمهورها من أماكن لجوئهم في السعودية بعد وفاة جمال عبد الناصر. ونحن جميعا على بيّنة من تاريخ حركة طالبان التي شكّلتها وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة في باكستان لمحاربة “الشيوعيين” الذين فتحوا مدارس للجميع، ذكوراً وإناثاً. بل إنه معروف جيداً أنّ الإسرائيليين ساندوا “حماس” في البداية من أجل إضعاف التيارات العلمانية والديمقراطية في المقاومة الفلسطينية.
في الحقيقة كان الإسلام السياسيّ سيواجه صعوبة بالغة في الإنتشار خارج حدود العربية السعودية وباكستان لولا الدعم المتواصل والقويّ والحازم من قبل الولايات المتحدة الأميركية. فمجتمع السعودية لم يكن بدأ بعد الخروج من التقاليد حين اكتشف النفط في أراضيه. وعقد التحالف الذي تمّ إبرامه على الفور بين الإمبريالية والطبقة التقليدية الحاكمة أعطى الإسلام السياسيّ الوهّابيّ فرصة جديدة للحياة. ومن ناحيتهم، نجح البريطانيون في كسر الوحدة الهندية من خلال إقناع القادة المسلمين بإقامة دولتهم الخاصة [ باكستان] التي سقطت في شـَرَك الإسلام السياسيّ منذ ولادتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ النظرية التي تمّ من خلالها شرعنة هذه “التحفة الفقهية ”  المنسوبة لـلمودودي، إنما وضعت بكاملها، وبشكل مسبق، من قبل مجموعة المستشرقين الإنكليز خدمة ً لصاحب الجلالة (4) .
هكذا، بالتالي، يصبح من السهل إدراك  مبادرة الولايات المتحدة إلى كسر جبهة الدول الآسيوية والأفريقية المتحدة التي تأسست في باندونغ العام 1955، من خلال انشاء منظمة “المؤتمر الاسلاميّ” في العام 1957، المدعومة من قبل السعودية وباكستان . وبهذه الطريقة تغلغل الإسلام السياسيّ في المنطقة  .
إنّ أقلّ الاستنتاجات التي ينبغي استخلاصها من الملاحظات التي تمّ وضعها هنا  هو أنّ الإسلام السياسيّ ليس النتيجة التلقائية الناجمة عن القناعات الدينية الحقيقية للشعوب المعنية، أو عن رغبة هذه الشعوب في تأكيد قناعاتها من خلاله . فالإسلام السياسيّ جرى تخليقه من خلال  العمل المنهجيّ للإمبريالية ، المدعومة ـ بالطبع ـ من قبل القوى الرجعية الظلامية والطبقات الكومبرادورية التابعة. ولا ينفي ذلك ، بطبيعة الحال، أنّ هذا الوضع هو أيضا مسؤولية قوى اليسار التي لم تر ولم تعرف كيف تتعامل مع هذا التحدّي الذي لم يزل مستمرا دون أدنى ريب .
أسئلة تتعلق بدول الخط الأمامي (أفغانستان، العراق، فلسطين وإيران)
يقوم مشروع الولايات المتحدة، المدعوم بدرجات متفاوتة من قبل حلفائها الأساسيين في أوروبا واليابان، على إرساء سيطرة عسكرية على كوكبنا بكامله. وانطلاقا من هذا المنظور تم اختيار الشرق الأوسط ليكون منطقة “الضربة الأولى” . وذلك لأربعة أسباب: (أوّلا) ـ إمتلاك منطقة الشرق الأوسط أكثر مصادر النفط وفرة في العالم، وسيطرة الولايات المتحدة المباشرة عليه من خلال قواتها المسلحة يعطيها وضعاً امتيازياً، ويضع حلفاءها (أوروبا واليابان )، ومنافسيها الصينيين المحتملين،  في موقف غير مريح لجهة عدم استقلاليتهم في التزود بالطاقة. ( ثانيا) ـ تقع هذه المنطقة عند ملتقى طرق العالم القديم، الأمر الذي يسهل خلق تهديد عسكريّ دائم ضدّ الصين والهند وروسيا. (ثالثا ـ تشهد المنطقة لحظة ضعف وارتباك يسمحان للمعتدي بالوثوق من إمكانية تحقيق انتصار سهل، مؤقّتا على الأقل. (رابعا) ـ وجود إسرائيل، الحليف المطلق لواشنطن، في المنطقة.
هذا العدوان جعل الدول والشعوب الواقعة على خط الجبهة الأماميّ، (أفغانستان، العراق، فلسطين وإيران)، في حالة دمار محقّق (بالنسبة للدول الثلاث الأولى)، أو مهدّدة بالدمار ( كما في حالة إيران).
أفغانستان
شهدت أفغانستان أفضل فترة في تاريخها الحديث حين كانت في ظلّ ما يسمّى بالجمهورية الشيوعية. وكانت تلك فترة نظام الاستبداد الحداثويّ المستنير الذي فتح النظام التعليميّ أمام الأطفال من الجنسين كليهما. وكان عدوّ الظلامية، الأمر الذي منحه دعما حاسما داخل المجتمع. وكان الإصلاح الزراعيّ الذي اضطلع به النظام، في جزئه الأكبر، مجموعة من التدابير التي ترمي الى الحدّ من الصلاحيات الاستبدادية لزعماء القبائل. وكفل الدعم، الضمني على الأقلّ،  للغالبية العظمى من الفلاحين انطلاقة جيّدة نحو التغيير. وهو ما صوّرته بروباجندا الإعلام الغربيّ، فضلا عن بروباجندا الإسلام السياسيّ، على أنه شيوعية شمولية ملحدة مرفوضة من جانب الشعب الأفغانيّ. وفي الحقيقة كان النظام أبعد من أن يكون غير شعبيّ، مثله في ذلك  مثل نظام أتاتورك في بدايته.
في الواقع لم يكن أمرا مفاجئا أنّ قادة هذه التجربة، وخصوصا منهم المنتمين لفصيلي “خلق ” و”بارشام” ، وصفوا أنفسهم بالشيوعيين. فالنموذج الذي أنجزته الشعوب المجاورة في آسيا الوسطى السوفييتية، مقارنا بالكوارث الاجتماعية التي تسبّبت بها الإدارة الاستعمارية البريطانية في دول أخرى مجاورة ( الهند،  وباكستان حين كانت جزءا منها) ، كان له  (رغم كل ما قيل حول هذا الموضوع، ورغم الممارسات الاستبدادية للنظام السوفييتي ) الأثر الأكبر في تشجيع الوطنيين، هنا كما في العديد من بلدان المنطقة الأخرى، على إجراء تقويم للمدى الكلي للإعاقة التي شكلتها الإمبريالية بوجه أي محاولة للتحديث. ومن المؤكد أنّ الدعوة التي وجهتها إحدى الفصائل الى السوفيات للتدخل بهدف تحرير أنفسهم من الآخرين، كان لها أثر سلبيّ، ورهنت إمكانيات قيام المشروع الشعبيّ الوطنيّ الحداثويّ.
كانت الولايات المتحدة بشكل خاصّ، و” ثالوث ” حلفائها [ السعوديين والباكستانيين والمحليين] بشكل عام، معارضين أشداء للمجددين الأفغان، سواء كانوا شيوعيين أم لا. فهي التي عبأت القوى الظلامية من الإسلام السياسيّ ذي الطراز الباكستاني (طالبان)، وأمراء الحرب من زعماء القبائل الذين تم تحييدهم بنجاح من قبل ما يسمّى بالنظام الشيوعيّ في أفغانستان؛ وهي التي أمّنت لهم التدريب والسلاح. وحتى بعد الانسحاب السوفياتي [ في شباط / فبراير من العام 1989 ]، أثبتت حكومة نجيب الله قدرتها على المقاومة. وكان من المرجح أن تصبح يدها هي العليا لولا الهجوم العسكري الباكستانيّ الذي جاء لدعم حركة طالبان، ثم دعم هجوم القوات المعاد تشكيلها في وقت لاحق من أمراء الحرب [ لاسيما أحمد شاه مسعود ]، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من الفوضى (5 ).

لقد تم تدمير أفغانستان بسبب تدخل الولايات المتحدة وحلفائها وعملائها، لاسيما الإسلاميين منهم. ولا يمكن إعادة بناء أفغانستان تحت سلطتهم التي تتلطى وراء مهرّج [ حامد قرظاي ] جرى إنزاله بالمظلة من وراء المحيطات من قبل ” التكساسي ” الذي استخدمه دون أن تكون له أية جذور في هذا البلد . وكانت “الديمقراطية” المزعومة، التي دعت واشنطن وحلف الناتو والأمم المتحدة إلى إنقاذها  ، وبررت باسمها  استمرار وجودها ( أي الاحتلال في واقع الأمر)،  مجرد كذبة منذ البداية ، قبل أن تصبح مهزلة كبرى في نهاية المطاف.
في الواقع ليس هناك سوى حلّ واحد للمشكلة الأفغانية:  وجوب خروج جميع القوى الأجنبية من البلاد، وتوقّف جميع القوى عن تمويل وتسليح حلفائها. ولأولئك الذين يعبّرون بحسن نية عن خشيتهم من أنّ الشعب الأفغاني سيغفر لديكتاتورية الطالبان (أو أمراء الحرب)، أقول إنّ الوجود الأجنبيّ القائم حتى الآن يبقى أفضل أنواع الدعم لهذه الديكتاتورية! لقد كان الشعب الأفغانيّ يسير باتجاه آخر ـ واعد في أغلب الإحتمالات- عندما كان الغرب يبدي أقل اهتمام بشؤونه. وفيما يتعلق بالاستبداد المستنير الذي شكله ” الشيوعيون ” ، أقول إنّ الغرب المتحضّر كان على الدوام يفضّل استبداد القوى الظلامية لأنّها، وعلى نحو مطلق، أقل خطورة على مصالحه!
العراق
كان هدف الدبلوماسية الأميركية المسلّحة، قبل قيامها بذلك فعليا، هو تدمير العراق بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكن بعد أن توفرت لها الذرائع في مناسبتين مختلفتين: غزو الكويت عام 1990 ثم في أعقاب أحداث 11 ايلول / سبتمبر 2001، واللتين تم استغلالهما لهذا الغرض من جانب بوش من خلال اللجوء إلى استخدام أسلوب وزير الدعاية النازي غوبلز، القائم على النزعة الكلبية Cynicism المشفوعة بالأكاذيب ( “اذا قلت كذبة كبيرة بما فيه الكفايه وبقيت ترددها، سيصدقها الناس في نهاية المطاف”). والهدف من ذلك بسيط ولا علاقة له بخطاب الدعوة لتحرير الشعب العراقي من ديكتاتورية صدام حسين الدموية ( وهي، حقا، ديكتاتورية بما فيه الكفاية). فالعراق يمتلك جزءا كبيرا من أفضل موارد النفط على هذا الكوكب. ولكن الأهم من ذلك هو أنّ العراق نجح في تدريب الكوادر العلمية والتقنية القادرة، بفضل أعدادها الكبيرة والمؤهلة، على دعم مشروع وطنيّ كبير ومتماسك. هذا الخطر كان لا بدّ من القضاء عليه من خلال حرب وقائية  أعطت نفسها الحق بخوضها في الوقت والمكان اللذين تقررهما، دون أدنى احترام للقانون الدولىّ.
خلف هذه الملاحظه الواضحة يكمن عدد من المسائل الخطيرة الواجب فحصها : أوّلا ـ  كيف أمكن لخطة واشنطن أن تبدي – ولو لبرهة تاريخية صغيرة – نجاحا مذهلا على هذا النحو؟ ثانيا ـ  ما هو الوضع الجديد الذي تمّ خلقه وتواجهه الأمة العراقية اليوم؟ ثالثا ـ  ما هي ردود فعل العناصر المختلفة للشعب العراقي تجاه هذا التحدي؟ رابعا ـ ما هي الحلول التي يمكن للقوى الديمقراطية والتقدمية العراقية والعربية والدولية أن تقدمها؟
لم تكن هزيمة صدام حسين مفاجئة. فالشعب العراقيّ، الذي واجه عدوّا تكمن ميزته الرئيسة في قدرته على تنفيذ إبادة جماعية، محصّنة ضد العقاب، من خلال القصف الجويّ (واستخدام الأسلحة النووية سيأتي )، لديه ردّ واحد فعّال ممكن: إطلاق المقاومة في أرضه المحتلة . ذلك لأنّ نظام صدام كرّس جهده للقضاء على كافّة وسائل الدفاع الموجودة في متناول شعبه من خلال التدمير المنهجيّ لجميع المنظمات والأحزاب التي صنعت تاريخ العراق الحديث، بدءا من الحزب الشيوعي العراقيّ، وانتهاء بحزب البعث نفسه، الذي كان واحدا من الأطراف الفاعلة الرئيسة في هذا التاريخ. لذلك ليس من المستغرب في ظلّ هذه الشروط أنّ الشعب العراقيّ سمح بتعرّض بلاده للغزو دون أن يقوم بمواجهته. ولا تبدو سلوكات معينة ( مثل المشاركة الواضحة في انتخابات نظّمها المحتلّ،  أو اندلاع القتال بين الأشقاء الأكراد والعرب السنة والعرب الشيعة) على أنها بوادر إمكانيه قبول بالهزيمة (وهو ما بنت عليه واشنطن حساباتها ). لكنّ ما هو جدير بالملاحظة هو أنّ المقاومة على الأرض تزداد قوّة كل يوم (رغم  كلّ نقاط الضعف الخطيرة التي أظهرتها مختلف قوى المقاومة).
مع ذلك، أوجد الإحتلال العسكريّ الأجنبيّ وضعا جديدا. فالأمّة العراقية مهدّدة جدّيا. ذلك أنّ واشنطن غير قادرة على الحفاظ على سيطرتها على البلاد ( لنهب موارده النفطية، وهو ما يعتبر هدفها الأوّل) من خلال وسيلة تتمثل بما يبدو أنه حكومة وطنية. وبالتالي فإنّ الطريقة الوحيدة التي بإمكانها الاستمرار من خلالها في مشروعها هو تقسيم البلد. وربما يكون تقسيم البلاد الى ثلاث دول على الأقلّ (كردية وسنية ـ عربية و شيعية ـ عربية) هدف واشنطن منذ البداية بالتنسيق مع إسرائيل (سيكشف الأرشيف عن حقيقة ذلك في المستقبل). واليوم تلعب واشنطن ورقة “الحرب الأهلية” لإضفاء الشرعية على استمرار احتلالها. ومن الواضح انّ الاحتلال الدائم كان – وما يزال – الهدف: فهو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تضمن سيطرة واشنطن الدائمة على الموارد النفطية. ومن المؤكد أنه لا يمكن إعطاء أيّ مصداقية  لنوايا واشنطن المعلنة من قبيل  ” إنّنا سنرحل عن البلاد  فور الإنتهاء من إعادة تأهيله” . إذ ينبغي أن نتذكّر أنّ البريطانيين كانوا يقولون دائماً عن احتلالهم مصر، الذي بدأ في العام 1882، إنه أمر مؤقت (وهو الذي استمر حتى عام 1956!). في غضون ذلك، وبطبيعة الحال، تستمرّ الولايات المتحدة في تدمير البلد: مدارسه، مصانعه وقدراته العلمية، عبر استخدام الوسائل جميعها،  بما فيها الأكثر إجراما.
ولا يبدو، حتى الآن على الأقلّ، أنّ الردود التي يقدمها الشعب العراقيّ على هذا التحدي بمستوى مواجهة خطورة هذا الوضع. وهذا أقلّ ما يمكن أن يقال. فما هي أسباب ذلك؟
تكرر وسائل الإعلام الغربية المهيمنة ، وعلى نحو مثير للقرف، القول إنّ العراق بلد فسيفسائيّ وإنّ الهيمنة الغاشمة التي مارسها نظام صدام “السنّيّ” على الشيعة والأكراد هي أصل حتمية الحرب الأهلية (التي لا يمكن إخمادها ربما إلا من خلال مواصلة الاحتلال الأجنبيّ). وبناء على هذا الادّعاء تكون المقاومة مقتصرة على عدد قليل من مؤيّدي صدام ونواتهم الصلبة المكونة من مسلمي المثلث السنّيّ. وإنه لأمر صعب علينا، دون ريب، تجميع وإيراد أكاذيب أكثر من ذلك.
واجه البريطانيون في أعقاب الحرب العالمية الأولى صعوبة كبيرة في التصدّي لمقاومة الشعب العراقيّ. وبانسجام كامل مع تقاليد الإمبراطورية البريطانية، استورد البريطانيون النظام الملكيّ، وخلقوا طبقة من كبار ملاك الأراضي لدعم سلطتهم من خلال منح أهل السنة مكانة مميزة. لكنهم انتهوا إلى الفشل  رغم مساعيهم المنهجية في ذلك . وكان الحزب الشيوعيّ وحزب البعث أهمّ القوى السياسية المنظمة التي هزمت السلطة الملكية “السنية” التي يكرهها الجميع:  سنة وشيعة وأكرادا. وقد رحّبت القوى الغربية بالمنافسة العنيفة التي جرت  بين هاتين القوتين واحتلت مسرح الأحداث خلال الفترة 1958 ـ 1963، قبل أن تنتهي بفوز حزب البعث الذي رحّبت به القوى الغربية باعتباره منحة من السماء. وفيما حمل المشروع الشيوعيّ بذاته إمكانية تطوّر ديمقراطيّ، لم يكن هذا حال حزب البعث. فهذا الأخير كان قوميا عربيا من حيث المبدأ، معجباً بالنموذج البروسيّ في بناء الوحدة الألمانية. وقد جنّد أعضاءه من العلمانيين، والبرجوازية الصغيرة الحداثوية المعادية للتعبيرات الدينية الظلامية. لكن وما إن أصبح في السلطة، وكان تكوينه يسمح أساسا بالتنبؤ بما سيؤول إليه وضعه، حتى تطوّر إلى ديكتاتورية نصف معادية للإمبريالية؛ بمعنى إمكانية قبوله مساومتها والوصول معها إلى حلول وسطية مقبولة من قبل الشريكين ( بقاؤه على رأس السلطة في العراق واستمرار هيمنة الإمبريالية الأميركية على المنطقة) . وهو ما حصل فعلا.

شجّعت هذه الصفقة صدام حسين على اقتراف المزيد من التجاوزات التي تندرج في إطار جنون العظمة، لاسيما وأنه تخيّل أن واشنطن ستقبل به حليفا أساسيا لها في المنطقة. وجاء دعم واشنطن له في حربه الحمقاء والاجرامية ضد ايران خلال الفترة 1980 ـ 1989 ،(والدليل على ذلك تسليمه أسلحة كيميائية )، ليضفي مصداقية على حساباته الجنونية. ولم يتصوّر صدام أبدا أنّ واشنطن يمكن أن تخدعه؛ كما أنه لم يدرك أنّ تحديث العراق كان أمراً غير مقبول بالنسبة للإمبريالية.  ولذلك كان قرار تدمير البلاد قد اتخذ بالفعل. وسقط صدام في الفخّ المفتوح عندما أعطى الضوء الأخضر لضمّ الكويت (وكانت في الواقع جزءا من الأقاليم العراقية في ظلّ العثمانيين قبل أن يقتطعها الإمبرياليون البريطانيون لجعلها واحدة من مستعمرات النفط).  ومنذ ذلك الحين أخضع العراق لعشر سنوات من العقوبات بهدف إضعاف البلاد وتسهيل الغزو المجيد الذي ستشنه القوات المسلحة الأميركية.
على أيّ حال، يمكن اتّهام أنظمة البعث المتعاقبة، بما فيها نظام صدام نفسه في فترة انحطاطه، بكلّ شيء عدا قيامه بتأجيج الصراع بين السنة والشيعة. فمن هو المسؤول إذاً عن الاشتباكات الدامية بين الطائفتين؟ يوماً ما سنعلم بالتأكيد كيف نظمت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (ومما لا شك فيه الموساد أيضاً) العديد من هذه المجازر. ولكن، وبعيدا عن ذلك، علينا الاعتراف بحقيقة أنّ التصحّر السياسيّ الذي خلقه نظام صدام، والمثال الذي قدمه عن الأساليب الانتهازية عديمة الأخلاق ، شجعا مختلف أشكال وألوان الطامحين إلى السلطة من خلفائه، المحميين في كثير من الأحيان من قبل المحتل، على انتهاج  الطريق نفسه. بل إنهم، وفي بعض الأحيان، ربما وصلت بهم سذاجتهم إلى حدّ الاعتقاد بأنّ قوّة المحتلّ يمكن أن تكون في خدمتهم. وهؤلاء الطامحون، وهم زعامات دينية ( سنية أو شيعية ) يُفترض أنهم ” وجهاء ” شبه قبليينPara-Tribal، أو رجال أعمال فاسدون يتصفون بسوء السمعة صدّرتهم الولايات المتحدة، لم يكن لهم أيّ مكانة سياسية في البلاد . وحتى تلك الزعامات الدينية التي يحترمها أتباعها لم يكن لها أيّ نفوذ سياسيّ مقبول لدى الشعب العراقيّ. ولولا الفراغ الذي أوجده صدام لم يكن لأحد أن يعرف كيف ينطق أسماءهم . فهل سيكون لدى القوى السياسية الأخرى الموثوقة شعبياً ووطنياً، وربما ديمقراطياً أيضا، والتي يواجهها العالم السياسيّ الجديد الذي خلقته إمبريالية العولمة الليبرالية، وسائل لإعادة بناء نفسها؟
لقد عرف العراق فترة من الزمن كان فيها الحزب الشيوعيّ العراقيّ البؤرة التي تستقطب أفضل ما يمكن أن ينجبه الشعب العراقي. وكان وجود الحزب يغطّي أرجاء البلاد كلها؛ بل إنه كان صاحب النفوذ الأكثر قوة في عالم المثقفين الذين غالباً ما كانوا منحدرين من الوسط الشيعيّ. ولا بدّ لي هنا من إيراد ملاحظة هامة، لكنها في منتهى الأهمية، وهي أنّ الشيعة [ العراقيين] أنجبوا ثوريين أو زعماء دينيين، ولكنهم نادرا ما كانوا  بيروقراطيين أو كومبرادورا !
كان الحزب الشيوعي العراقي حزبا شعبيا على نحو أصيل وحقيقيّ، مناهضا للإمبريالية، يميل قليلا الى الديماغوجية ومن المحتمل أنه كان ديمقراطيا. فهل كتب للحزب أن يختفي من التاريخ بعد المذبحة التي نفذتها الديكتاتوريات البعثية ضد الآلاف من خيرة مناضليه، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ( الذي لم يكن مستعدا له )، وبعد سلوك مثقفيه الذين اعتقدوا بأنه من المقبول أن يعودوا من المنفى في ركاب أتباع القوات المسلحة الأميركية ؟ للأسف إن هذا ممكن جدا، لكنه ـ ورغم ذلك كله ـ  ليس حتميا.
فيما يتعلق بالقضية الكردية يجب القول إنّها قضية حقيقية في العراق كما هي في إيران وتركيا. وفي هذا الموضوع يجب أن يشار أيضا إلى أنّ القوى الغربية مارست دائما، على نحو كلبيّ فاقع، معايير مزدوجة. فالقمع الذي طال المطالب الكردية في العراق وإيران لم يصل أبدا إلى مستوى القمع البوليسي والعسكري والسياسي والأخلاقي الذي مارسته أنقرة. كما أنّ الأمر لم يصل أبداً بإيران أو العراق إلى حدّ إنكار الوجود الكرديّ. وعلى أيّ  حال، يجب إيجاد العذر لتركيا على كلّ ما قامت به ، لا لشيء إلا لأنّها عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي ومنظومة الأمم الديمقراطية، كما تذكرنا وسائل الإعلام دوماً. فمن بين الديموقراطيين المرموقين الذين أعلنهم الغرب كان سالازار في البرتغال، أحد الأعضاء المؤسسين لمنظمة حلف شمال الاطلسي، والذي لا يقل عنه إعجاباً بالديمقراطية وحماسا لها  كولونيلات اليونان [ السابقين] وجنرالات تركيا!
في كل مرة كانت تتشكل الجبهات الشعبية العراقية حول الحزب الشيوعيّ والبعث خلال البرهات التاريخية الأكثر هدوءا من تاريخه المضطرب، من أجل ممارسة السلطة السياسية، كان هؤلاء  يجدون دوما مساحة اتفاق مع الأحزاب الكرديه الرئيسة. أكثر من ذلك : لقد كانت هذه الأخيرة حليفهم دائما .
من المؤكد أنّ نظام صدام مارس تجاوزات وجرائم حقيقية ضدّ الشيعة والأكراد. وأبسط مثال على ذلك ما قام به جيشه من قصف لمنطقة البصرة بعد هزيمته في الكويت العام 1990، واستخدامه  سلاح الغاز الكيماوي ضدّ الأكراد [ قبل ذلك في حلبجة العام 1988] . وقد جاءت تلك التجاوزات والجرائم ردّا على مناورات الديبلوماسية المسلحة التي قامت بها واشنطن حين حرّكت صبيان المشعوذ [ جورج بوش ] من الشيعة والأكراد. وتبقى هذه التجاوزات هي الأكثر إجراما وغباء، بالنظر لأنّ نجاح استغاثات واشنطن [ بصبيانها] كان محدودا جدا. ولكن هل يمكن أن نتوقع أي شيء آخر من الطغاه أمثال صدام؟
تبدو قوة مقاومة الاحتلال الأجنبيّ، غير المتوقعة في ظل ظروف كهذه، بمثابة عمل إعجازيّ خارق. وهذه ليست القضية، بالنظر لأنّ الحقيقة الأساسية هي أنّ الشعب العراقيّ ككلّ ( عربا وأكرادا ، سنة وشيعة) يمقت المحتلين، لكنه أصبح ” متآلفا ” مع جرائمهم اليومية (اغتيالات، تفجيرات، مذابح وتعذيب). ويمكن تصوّر تشكيل جبهة موحدة للمقاومة الوطنية (سمّها ما تريد) وإعلانها من خلال نشر قوائم بأسماء الأشخاص والمنظمات والأحزاب المنضوية تحتها وبرنامجهم المشترك. إلا أن هذا ليس للأسف واقع الحال في الوقت الحاضر، نظرا للأسباب المبينة أعلاه، بما في ذلك تدمير النسيج الاجتماعي والسياسي الذي سببته قيادة صدام الدكتاتورية والاحتلال. وبغض النظر عن الأسباب، فإن هذا الضعف عقبة أساسية من شأنها تسهيل تقسيم السكان وتشجيع الانتهازيين، بل جعلهم متعاونين مع الاحتلال، ونشر بلبلة أكبر حول أهداف التحرير.
ولكن من ذا الذي سينجح فى التغلب على هذه العوائق؟
ينبغي أن يكون الشيوعيون أفضل من يقوم بذلك؛ لكنّ مناضلي الحزب الشيوعيّ الموجودين الآن على الأرض منفصلون عن قادة الحزب المعروفين وحدهم على المستوى الإعلامي المهيمن، والذين يحاولون، على نحو مرتبك ومشوش، إعطاء تحالفهم مع الحكومة العميلة مظهرا ما من مظاهر الشرعية ؛ بل ويزعمون أنهم يقدمون فاعلية إضافية للمقاومة المسلحة بسلوكهم هذا ! لكن، وفي  ظل ظروف من هذا النوع، ثمة العديد من القوى السياسية الأخرى التي يمكنها القيام بمبادرات حاسمة باتجاه تشكيل جبهة من هذا النوع . ورغم نقاط ضعفها، تبقى القضية هي أنّ مقاومة الشعب العراقيّ تمكنت بالفعل ( سياسيا إن لم يكن عسكريا بعد ) من إلحاق الهزيمة بمشروع واشنطن. وهذا على وجه التحديد ما يقلق الأطلسيين في الاتحاد الأوربي ـ حلفاء الولايات المتحدة الأوفياء . وما يخشاه هؤلاء اليوم هو هزيمة الولايات المتحدة، الأمر الذي من شأنه تعزيز قدرة شعوب الجنوب على مواجهة قوى رأس المال المعولم والعابر للقوميات وإرغام الثالوث الإمبريالي على احترام مصالح أمم وشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية .
لقد عرضت المقاومة العراقية مقترحات تجعل من الممكن الخروج من الطريق المسدودة ومساعدة الولايات المتحدة على الانسحاب من الفخّ. وتضمن مقترحاتها : ( أولا ) ـ تشكيل سلطة إدارية انتقالية  بدعم من مجلس الأمن في الأمم المتحدة؛ ( ثانيا) ـ الوقف الفوريّ لأعمال المقاومة والتدخلات البوليسية والعسكرية التي تقوم بها قوات الاحتلال؛ ( ثالثا ) ـ رحيل جميع السطات العسكرية والمدنية الأجنبية في غضون ستة أشهر. وقد نشر تفصيل هذه المقترحات في عدد كانون الثاني / يناير [2007] من مجلة ” المستقبل ” العربي المرموقة التي تصدر في بيروت .
إنّ الصمت المطبق الذي لزمته وسائل الإعلام الغربية إزاء هذه الرسالة، وهو ما يعني معارضتها لانتشارها، يعتبر شهادة على تضامن الشركاء الإمبرياليين فيما بينهم. ويتوجّب على القوى الديمقراطية والتقدمية الأوربية النأي بأنفسها عن سياسة الثالوث الإمبريالي هذه، ودعم مقترحات المقاومة العراقية. فليس خياراً مقبولاً ترك الشعب العراقيّ يجابه خصومه وحده، إذ أنّ سلوكا من هذا النوع يدعم الفكرة الخطيرة القائلة بأنه لايمكن توقع أي شيء من الغرب وشعوبه، ويشجّع ـ بالتالي ـ على التجاوزات غير المقبولة، وحتى الإجرامية، التي تنطوي عليها أنشطة بعض حركات المقاومة.
إنّ الرحيل الأسرع لقوات الاحتلال الأجنبيّ عن البلاد، وزيادة دعم القوى الديمقراطية في العالم وفي أوربا للشعب العراقيّ، من شأنهما زيادة فرص وجود مستقبل أفضل لهذا الشعب الشهيد . وكلما طال أمد الاحتلال، ستكون عقابيل نهايته المحتمة أكثر مأسوية.
هذا النص فصل من كتاب / مخطوط : ” الإمبريالية والإسلام السياسي ” ، تحرير ومراجعة وتقديم نزار نيوف . وهو مترجم عن الإنكليزية كما نشر في العدد 7 ، مجلد 5، من شهرية ” مونثلي ريفيو” الأميركية اليسارية العريقة ، ومدقق استنادا إلى الأصل الفرنسي الوارد كفصل أول في كتاب سمير أمين Pour la Cinquième Internationale    ( من أجل الأممية الخامسة) ، تحت عنوان “L’Islam politique au service du déploiement impérialiste  ، منشورات Temps des Cerises  في باريس.
انتصار انتصار العزيزي :  صحفية أردنية.
الهوامش:
(1)ـ المقصود : لوي دو بونالد (1754 ـ 1840 ) : سياسي وفيلسوف فرنسي كاثوليكي متطرف ناهض الثورة الفرنسية وناصر الملكية . عين بعد عودة آل بوربون إلى السلطة في العام 1841 قنصلا (وزيرا) مسؤولا عن التعليم ثم عضوا في الجمعية التشريعية فوزير دولة ، و عضوا في الأكاديمية الفرنسية خلال الفترة ذاتها . من أشهر أعماله Theorie du pouvoir politique et religieux  ( نظرية السلطة السياسية والدينية ) الذي صدر في العام 1796 في ثلاثة مجلدات .[ ملاحظة من المحرر : ن . نيوف ].
… و جوزيف دو ميستير (1753 ـ 1821) : محام وديبلوماسي وفيلسوف كاثوليكي فرنسي . يعتبر من أكثر مناهضي الثورة الفرنسية شهرة وتأثيرا في حقبة ما بعد الثورة . دعا إلى عودة ملكية آل بوربون إلى السلطة ، وإلى سيطرة  الفاتيكان غير المباشرة على فرنسا . من أشهر أعماله ، على صغر حجم العمل ، كتيبه  Essai sur le principe générateur des constitutions politiques et des autres institutions humaines  ( مقال في الأساس النشوئي للدساتير السياسية والفوانين البشرية الأخرى ) الذي صدر في العام 1809 . ويركز فيه على فكرة أن الدساتير ليست نواتج يصنعها البحث والدراسة  ، وإنما استحقاق زمني ونواتج لظروف مناسبة يقررها الله . [ ملاحظة من المحرر: ن . نيوف ].
(2)ـ  آثرنا ترجمة تعبير  communitarianism بـ ” المشتركية ” . وتقوم  المشتركية على نظرية ” الهويات الثقافية الجماعية” بوصفها فكرة محورية في فهم الواقع الاجتماعي المتحرك . وقد اشتقينا ذلك بالقياس إلى مفهوم ” المشترَك ” كمرادف عربي  لـ Community   وضعه  المفكر والمؤرخ المصري المبدع أحمد صادق سعد في كتابه ” تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في ضوء نمط الإنتاج الآسيوي ، دار ابن خلدون 1979″ . [ ملاحظة من المحرر : ن . نيوف].
(3) ـ المقصود : آلان تورين ( 1925 ـ …) : أحد أهم علماء الاجتماع المعاصرين في فرنسا وأوربا والعالم الفرانكوفوني ، والأنكلوفوني إلى حد ما ، وكبير باحثي  مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس. عرف ببحثه الضخم ذائع الصيت ” سوسيولوجيا العمل ” ( 1965)  المكرس  للمجتمع مابعد الصناعي ( أصدرته وزارة الثقافة السورية في الثمانينيات بترجمة لصفوح الأخرس . وهو الكتاب الوحيد المترجم له إلى العربية في حدود علمنا) . كما ودرس الحركات الاجتماعية المعاصرة في أوربا وأميركا اللاتينية ، مع تركيز على ” نقابة التضامن ” البولندية  التي كرس لها في العام 1983 عملا خاصا بها بعنوان ” حركة التضامن : تحليل حركة اجتماعية ” . ويعتبر تورين من مثقفي الحزب الاشتراكي الفرنسي ، حيث ، وفي لفتة منه غير عادية كمثقف كبير ، نشر مؤخرا بالاشتراك مع رئيسة الحزب ، ومرشحته الرئاسية ،  سيغولين رويال  ، كتابا بعنوان ” إذا ما أراد اليسار أفكارا ” . ومع ذلك فإن الفيلسوف الفرنسي الماركسي جورج لابيكا لا يتردد في وصفه على نحو ساخر ، في مجالسه الخاصة طبعا ، بأنه  ” المخبر السوسيولوجي ” لدولة رأس المال ومرشد أجهزة مخابراتها إلى تفكيك وتفتيت معارضيها بطريقة …علمية ! ( طبعا يبقى الأمر أفضل من تفكيكها بالكرباج على طريقتنا العربية !) . [ ملاحظة من المحرر: ن . نيوف ] .
… أما نيغري ، فالمقصود به توني نيغري ، والمعروف أحيانا بأنطونيو نيغري ( 1933 ـ ..) : فيلسوف ” ماركسي ”  إيطالي يعتبر من أكثر مثقفي أوربا إثارة للجدل في القرن العشرين ، سواء على مستوى سيرته الشخصية  أم الثقافية ـ السياسية . فقد بدأ حياته العملية عضوا في منظمة إيطالية شبه فاشية مشبعة بالأفكار الأصولية الكاثوليكية ، لينتهي عضوا في العديد من الأحزاب والمنظمات الاشتراكية  والماركسية الراديكالية الفرنسية والإيطالية و … مبشرا بـ ” أممية الفاتيكان ” و البابا يوحنا بولس الثاني ـ وكيل مشاريع المخابرات الأميركية ، بوصفه زعيما للطبقة العاملة ومؤسس ” الأممية الخامسة ” كما يجتر من ورائه أيضا الصحفي اللبناني وسام سعادة الذي بدأ مريدا من مريدي سمير قصير والماركسية وانتهى مريدا من مريدي سمير جعجع والبطريرك صفير ! وكان نيغري اتهم بالضلوع في اغتيال رئيس الوزراء الإيطالي ألدومورو في العام 1978 ، وبالعلاقة مع منظمة ” الألوية الحمراء ” . وقد اعتقل وحكم عليه بالسجن ثلاثين عاما ، وانتخب ـ وهو رهن الاعتقال ـ عضوا في البرلمان الإيطالي ( العام 1983 ) عن إحدى المنظمات اليسارية . وأطلق سراحه بعد ذلك ليحاكم وهو خارج السجن. وعلى الفور غادر إلى فرنسا ليبقى فيها 14 عاما ، عمل خلالها أستاذا في جامعة باريس الثامنة ( جامعة سان دينيز أو جامعان فانسن ) التي أسسها ميشيل فوكو . وقد خاض أصدقاؤه الفلاسفة الفرنسيون ( ميشيل فوكو ، جيل دلوز وآخرون) معركة إعلامية من أجله . كما أنه حظي بحماية الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران الذي كان أطلق ما عرف بـ ” عقيدة ميتيران ” في مواجهة المحاكم والقوانين الإيطالية  ” المضادة للإرهاب ” التي  وصفها ـ أي ميتيران ـ بأحط النعوت التي لا تنطبق إلا على محاكم الديكتاتوريات الإرهابية . وكان نيغري  أسس في العام 1969 منظمة Potere Operaio  ( سلطة العامل) . كما أنه حصل على درجة الأستاذية في الجامعة في فترة مبكرة من حياته عن أطروحته dottrina dello Stato ( عقيدة أو مذهب الدولة) . له مؤلفات عديدة ، بعضها بالاشتراك مع ميشيل هاردت ، من أشهرها ” الحرب والديمقراطية في عصر الإمبريالية ” ، ” سبينوزا” ، ” سلطان ميتافيزيقية و سياسة سبينوزا” ، ” ديكارت السياسي : العلة ، الأيديولوجية و المشروع البرجوازي” ، ” سياسة التدمير : بيان من أجل القرن الواحد والعشرين ” وغيرها . [ ملاحظة من المحرر: ن . نيوف] .
(4) ـ المقصود  أبو الأعلى المودودي ( 1903 ـ 1979 ) : ولد في مقاطعة حيدر باد الهندية ، ويعتبر الأب الروحي للإسلام  السياسي الجهادي والفكر التكفيري قي العصر الحديث ، أو ” ابن تيمية المعاصر” ، فيما تعتبر ” الجماعة الإسلامية ” التي أسسها في العام 1941 الأم الروحية للجماعات التكفيرية التي ظهرت لاحقا . وأشار إليه فقهاء إسلاميون آخرون بوصفه ” أمير الدعوة الوهابية في شبه الجزيرة الهندية ” . وتشير وثائق أميركية نشرت بعد وفاته في نيويورك إلى أنه أقام  علاقات وثيقة بوكالة المخابرات المركزية الأميركية و الـمخابرات الخارجية البريطانية ، أي المخابرات العسكرية (MI6 ) ، وكان ينسق معهما في ما يسمى بـ ” مكافحة الشيوعية ” في آسيا . أما ما قصده الكاتب بـ ” صاحب الجلالة ” ، فهو الملك جورج السادس ، ملك بريطانيا خلال الفترة 1936 ـ 1952 . [ ملاحظة من المحرر: ن . نيوف] .
(5) ـ حين مجيئي إلى فرنسا صيف العام 2001 للعلاج ، بعد إطلاق سراحي من سجون النظام السوري ، كان وزير الصحة الفرنسي برنار كوشنير ( وزير الخارجية الراهن ) يزورني بين الحين والآخر في مشفى ” بيتييه سالبترييه ” بباريس  فنتناقش في قضايا  شرق أوسطية مختلفة ، رغم  قصر وقت زيارته . وقد كشف لي خلال إحدى النقاشات عن أن عددا من أصدقائه المثقفين الفرنسيين تولوا التنسيق مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية  وجهاز الموساد الإسرائيلي  والأمير بندر بن سلطان لمساعدة إرهابيي الطالبان  وأحمد شاه مسعود على إدارة حربهم الإعلامية ضد نظام نجيب الله  ، سواء من خلال إعداد نشرات الأخبار أو البرامج الموجهة أو حتى تزويد عصابات الطالبان وأحمد شاه مسعود بوسائل البث التقنية ( إذاعات محلية و محطات تقوية .. إلخ ) . وكشف لي كوشنير أن أحمد شاه مسعود كان من أصدقائه الشخصيين . كما وذكر لي بالاسم ” الفيلسوف ” والصحفي الفرنسي  برنار هنري ـ ليفي ، الوثيق الصلة باللوبي الصهيوني في فرنسا و الأشهر من أن يعرّف ، وشخصيات ثقافية  وإعلامية فرنسية أخرى نسيتها من الذين كانوا يدعمون الأصوليين ميدانيا في أفغانستان بالتعاون مع ضباط الـ CIA و المخابرات السعودية  . وقد أكدت هذه المعلومات في السنوات اللاحقة وسائل الإعلام الغربية التي كشفت عبر تحقيقات وتقارير موثقة عن الدور القذر الذي لعبه مثقفون وصحفيون فرنسيون في دعم الطالبان بدعوى ” نشر الليبرالية والديمقراطية في وجه نفوذ النظام الشمولي السوفييتي “! وهي “الليبرالية الوهابية ”  نفسها التي يتولى الأمير بندر بن سلطان و ديفيد وولش نشرها اليوم في لبنان وسوريا وأماكن أخرى ! ومن المعلوم أن برنار هنري ـ ليفي لم يكن يتردد  ( قبل  ” غزوة نيويورك الليبرالية ـ الوهابية ” بالطبع ) في كتابة المقالات الداعمة لجورج بوش والطالبان ، بل وأسامة بن لادن شخصيا ، بشكل دوري في أسبوعية ” دير شبيغل ” الألمانية  و Atlantic Monthly  الأميركية التي يديرها المحافظون الجدد! [ ملاحظة من المحرر : ن . نيوف ].
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى