صفحات مختارة

عندما يتذكر تقرير الأمم المتحدة مكوّناً منسياً من الليبرالية

محمد الحدّاد *
كان برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية قد قرّر أن يخصّص كل تقرير من تقاريره السنوية لمعالجة ما يراه مشكلة من المشاكل الأساسية في مستقبل النظام العالمي الجديد، طارحاً على نفسه تجديد الرؤية للعديد من القضايا التي تهمّ مجموع سكان المعمورة. وعلى هذا الأساس، فإن تقريره الصادر في الخامس من الشهر الحالي قد أوفى بوعوده، إذ مثل مفاجأة كبرى للمراقبين. وبما أننا نعلم أن التقارير السنوية للتنمية البشرية هي من جملة التقارير التي تعتمد في وضع سياسات الكثير من الدول، فإن من المهم أن نتأمل محتوياته ونتساءل حول خلفياته وأبعاده.
وأول ما يثير الاهتمام في هذا التقرير هو موضوعه، فلم يختر المسؤولون عنه الاهتمام بالعولمة أو الأزمة المالية أو التغييرات المناخية بل اختاروا تخصيصه لموضوع الهجرة. وهو موضوع قد يبدو ثانوياً لكنّ الحقيقة أن البلدان المتطورة ما فتئت منذ فترة تهتم به اهتماماً خاصاً وتبني سياستها الخارجية، فضلاً عن الداخلية، بمقتضى ما تتخذه فيه من خيارات. وهناك فكرة سائدة فد استقرت منذ عقود مفادها أن الحكومات اليسارية تتخذ مواقف مرنة من المهاجرين بينما تتخذ الحكومات اليمينية مواقف متشددة، وعلى هذا الأساس فإن تراجع نفوذ اليسار سيؤدي إلى مزيد من محاصرة ظاهرة الهجرة. وهذا ما تؤشر إليه الأحداث اليومية التي يبرزها الإعلام، وآخرها فضيحة الطائرة الفرنسية – الإنكليزية التي خصصت لإعادة مهاجرين أفغان غير شرعيين إلى بلادهم، مع أن القانون الدولي يحرّم إعادة اللاجئين إلى بلد في حالة حرب. لكن الحقيقة أن الأحداث اليومية قد لا تعكس دائماً التوجهات العميقة للسياسات الدولية، ومنها تراجع أهمية التقابل بين اليسار واليمين لفائدة العودة إلى نظريات ليبرالية «أصلية» كانت قد غابت على مدى نصف قرن.
تقتضي الليبرالية «الأصلية» أن تمنح الحرية للأشكال الثلاثة من التنقل: تنقل رؤوس الأموال وتنقل المعلومات وتنقل البشر. ومما لا شك فيه أن العودة إلى الليبرالية كما تجلت منذ سقوط المنظومة الشيوعية في نهاية القرن العشرين قد تزامنت مع دعم كبير للشكلين الأولين، بينما كانت أكبر الانتقادات الموجهة إليها تغافلها عن مكونها الثالث وهو حرية تنقل البشر. فمن أكبر مفارقات العقود الأخيرة تطور وسائل النقل في تواز مع تطور العوائق الإدارية الموضوعة أمام تنقل الأشخاص، وأبرزها سياسات منح التأشيرات. إن مفاجأة التقرير الأخير أنه يطرح هذا الموضوع بقوة وبقدر كبير من المشاكسة، ويكفي لتبين ذلك أن نستعرض التوصيات الست التي انتهى إليها وهي التالية: أولاً، فتح الحدود للعمال المهاجرين بمن فيهم أصحاب المهارات المهنية الضعيفة!! ثانياً، ضمان حقوق المهاجرين وهي تشمل إضافة إلى حق التعلم والخدمات الصحية، حق التصويت! ثالثاً، التخفيض في النفقات الضرورية لإعداد ملفات طلب الهجرة. رابعاً، اعتماد سياسات تحاورية بين البلدان المستقبلة للهجرة والبلدان المصدرة لها. خامساً، رفع كل العراقيل أمام الهجرة الداخلية. سادساً وأخيراً، إدراج الهجرة في استراتيجيات التنمية.
لاشك في أن كل قارئ سيفاجأ بهذه التوصيات الصادرة عن منظمة رسمية تابعة للأمم المتحدة. ولكن ما هي خلفيات ذلك؟ إنّ اللافت للانتباه أن التقرير لا يكتفي بهذه التوصيات المثيرة لكنه يعتمد جهازاً مفهومياً جديداً، فكلمة مهاجرين تحيل عادة على بضعة ملايين من البشر حملتهم قسوة العيش إلى الانتقال إلى بلدان غنية قصد الارتزاق، وقد تحيل في أحسن الأحوال إلى حوالى 150 مليون شخص تصنفهم الإحصائيات الرسمية للأمم المتحدة على أنهم مهاجرون لأسباب مختلفة، وهذا الرقم لا يمثل أكثر من 2.5 بالمئة من مجموع البشرية. لكن التقرير الذي يحمل العنوان المثير: «لنرفع الحواجز – الحركية والتنمية البشرية» يعتمد تعريفاً موسعاً جداً للمهاجرين يصبح بمقتضاه عددهم في العالم مليار نسمة، أي واحد على ستة من سكان المعمورة. فالهجرة بالمفهوم الجديد تتضمن أيضاً 740 مليون شخص يتنقلون داخل أوطانهم أو داخل الفضاءات الموحدة مثل السوق الأوروبية. ويشير التقرير إلى أن هجرة العمالة نحو البلدان الغنية لا تمثل أكثر من 30 بالمئة من حركة الهجرة بمعناها الواسع، ما يعني أنها لا تمثل إلا الجزء الأصغر من الظاهرة. وعادة ما يتصور الناس المهاجر في صورة الأفريقي الذي يفرّ من أوضاع أكثر القارات فقراً وبؤساً ليحاول الدخول بصفة شرعية أو غير شرعية إلى بلد غني، لكن هذه الصورة السائدة لا تمثل حسب التقرير إلا 3 بالمئة فقط من الحالات!
وفي نبرة ليبرالية «أصلية» يشير التقرير بجرأة إلى أن السماح لكل البشر بحرية التنقل والهجرة يمثل جزءاً أساسياً من الحرية الإنسانية، ويؤكد أن منافع الهجرة أكبر من مضارها على المهاجرين وبلدانهم والبلدان التي تستقبلهم على حد السواء، وأن المهاجرين يقدمون من المنافع أكثر مما يستفيدون. وينفي محررو التقرير أن يكون مقصدهم جعل الهجرة حلاً لمشكلة التنمية أو أن يدافعوا عن وجهة نظر ليبرالية مثالية، ويرون أن الوضع الحالي المتميز بالأزمات سيكون حاسماً. فإما أن تعتمد الحكومات سياسات الانغلاق أو أنها تسعى إلى فتح مجال الهجرة وإعادة ترتيب سياساتها الداخلية والخارجية بحسب هذا المعطى الدولي الجديد.
الحلّ حينئذ هو «رفع الحواجز»، كما يرد في عنوان التقرير، وخلفيات ذلك في تقديرنا أمران: أولهما أن العديد من البلدان الغنية تدرك أن مشكلتها المستعصية هي شيخوخة شعبها، وأن ذلك سيؤدي إلى تفاقم نفقاتها الاجتماعية وتزايد عجز صناديق المرض والشيخوخة ومنح التقاعد، والأزمات المالية قد عمقت مديونياتها وعجز موازناتها وستمنع عنها لعقود عدة رفع اعتماداتها الاجتماعية، فلا حلّ غير التعديل السكاني وتوسيع قاعدة العمال ودافعي الضرائب باستقبال المهاجرين. ثانيهما أن هذه البلدان تدرك أنها لم تعد قادرة على الالتزام بوعودها بخصوص تطوير مساعداتها للبلدان النامية، ومن الحلول التعويضية الممكنة هي استغلال التحويلات المالية للمهاجرين في تمويل التنمية. فهذه التحويلات تصرف حالياً لإعانة الأسر، مع أنها تقدر بحوالى40 مليار دولار. وكي نتبين أهميتها ينبغي أن نشير إلى أن مجموع الإعانات الرسمية المقدمة للتنمية هي في حدود 50 مليار دولار، من هنا نفهم الفائدة المترتبة على تحويل وجهتـها إلى مجال الاستثمار وإقامة المشاريـع بدل الاستـهلاك الأسري البسيط.
يبقى أن نشير إلى أن العديد من البلدان العربية، وليس فقط النفطية منها، قد تتعرض مستقبلاً إلى ضغوط مهمة بمقتضى هذه التصورات الجديدة. والوجه الأول للضغوط هو إدراج سياساتها في الهجرة ضمن محددات نموها البشري المقتصر إلى حد الآن على التعليم والصحة والنهوض بالمرأة. والوجه الثاني هو دعوتها إلى توقيع كل معاهدات الأمم المتحدة المتعلقة بالهجرة، وبخاصة المعاهدة الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين وأسرهم (1990) التي لم توقعها أغلب البلدان العربية وتحتوي على بعض الالتزامات المشكلة مثل تشريك العمال المهاجرين في السياسات المحلية. أما الربح المتوقع، فهو سيختلف طبعاً بين دولة عربية وأخرى.

* كاتب تونسي
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى