صفحات العالم

ظاهرة أوباما في الأدب السياسي العالمي

جهاد الزين
تتحوّل خطب الرئيس الاميركي باراك اوباما الى ظاهرة في الادب السياسي العالمي إن لم يكن قد تكرست. فهذا السياسي الاميركي الذي لفت انظار القادة الكبار في الحزب الديموقراطي بسبب خطاب تحول الى حدث في مؤتمر الحزب لاختيار مرشحه الرئاسي عام 2004 وكان السيناتور جون كيري… سيواصل جذب الاهتمام ببعض خطبه خلال الحملة الانتخابية التي سيخوضها عام 2008 ولاسيما خطابه حول العنصرية في اميركا.
ليست كل خطب باراك اوباما الكبيرة او الطويلة في المستوى نفسه. وهذا طبيعي. حتى ان خطابه في مؤتمر “الايباك” (المسمى “اللوبي الاسرائيلي” في واشنطن) خلال الموسم الانتخابي كان دون المستوى الذي عهدناه في خطب سابقة بحيث جاء خاليا من افكار لامعة كالتي عودنا عليها… واعتقد ان السبب الرئيسي في ذلك هو انه – مع مستشاريه – كانوا يخشون اخذ اي مبادرة وطرح اي فكرة غير عادية تحت ضغط الرقابة الذاتية الشديدة امام “اللوبي الاسرائيلي”… لكن سيمر عام ونيف تقريبا، ويلقي باراك اوباما كرئيس جديد للولايات المتحدة خطابه اللامع والمركّب والدقيق في القاهرة الذي توجه به الى العالم الاسلامي متحدثا بقدر عال من الشجاعة الفكرية عن النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي… الى جانب موضوعات عديدة اخرى اتت بعد خطابه المميز ايضا في انقرة ولكن بنسبة اقل.
وبمعزل عن تجربتي الشخصية في ممارسة تقليد مهني يقوم على دراسة نصوص رؤساء دول نافذين في احداث ذات اهمية والسعي للخروج باستنتاجات سياسية من صياغات لغوية محددة… لم يسبق بحدود علمي منذ انتخاب جون ف. كينيدي ان استأثرت مجموعة خطب القاها رئيس واحد – اميركي  او غير اميركي – لم تمض سوى بضعة اشهر على توليه الحكم، بهذا الاهتمام المتواصل، ليس فقط بسبب المواقف التي تنطوي عليها وانما ايضا بسبب قوتها في مستوى التعبير وذكائه.
لم اتابع بطبيعة الحال معظم خطبه الموجهة الى الداخل منذ دخوله البيت الابيض في حين تابعت كل او معظم خطبه الموجهة الى الخارج او في الخارج. ربما يهتم الداخل الاميركي برصد نتائج سياساته اكثر من رصد بلاغة كلماته. “نحن” ايضا في دول العالم، من اوروبا الى الشرق الاوسط، الى روسيا الى افريقيا معنيون بانتظار نتائج التوجهات الاميركية الجديدة في ظل قيادته للبيت الابيض، غير ان ضغط الازمة الاقتصادية على الاميركيين لا يعطيهم الآن لا الوقت ولا “ترف” المراقبة، وانما الانتظار الحثيث لتغيير التدهور الذي طرأ على حياتهم كما على بنى اقتصاداتهم المالية والصناعية. هذا لا يعني ان نخب وحكومات (وشعوب) الشرق الاوسط لا تريد من ادارة اوباما الاسراع في معالجة حاسمة لقضية النزاع العربي – الاسرائيلي. فهنا ايضا – اي في العالم العربي تحديدا – يحاول “الجميع” مرة اخرى تنبيه “المرجعية” الاميركية الى ان الاستخفاف بالوقت في النزاع العربي – الاسرائيلي سيؤدي الى خسارة فرص كبيرة إن لم يكن – كما حصل مرارا – الى تدهور دراماتيكي خطر على وضع المنطقة ككل.

• • •
ها هو باراك اوباما في خطابه الخارجي الكبير الاخير في غانا في اول اطلالة على العمق الاسود للقارة الافريقية يتقدم بصياغات مؤثرة وغير مألوفة وعميقة.
لقد كانت شمس افريقيا تسطع بكل قوتها ومداريتها ومعاناتها بين كلمات باراك اوباما في العاصمة أكرا. روى للأفارقة كيف اصر البريطانيون ايام استعمارهم لكينيا على مناداة جده – لوالده – بـ”الصبي” حتى بعد ان اصبح شيخا متقدما في العمر ورغم مكانته التي حصل عليها في قريته، لكنه في الآن معا وهو يدين الحدود المصطنعة التي رسمها العهد الكولونيالي لدول افريقيا، ذكرهم بان مسؤولية الانهيارات الاقتصادية – خصوصا في العقد المنصرم – تقع على الحكومات الوطنية وليس على الغرب؟ واعطى مثلا محددا على ذلك: زيمبابوي، معتبرا الفساد والزبائنية وطغيان المصلحة الشخصية عوامل مسببة للانهيار. حتى انه ربط مباشرة – وهذا صحيح على مستوى “الدول الفاشلة” في العالم الثالث رغم بساطته كمثل – بين الفساد في ذلك الزمن الاستقلالي الاول في كينيا وبين هجرة والده الى الخارج. وعاد اوباما الى لازمة مهمة تتكرر في كتابات المؤرخين السياسيين والاقتصاديين في معظم العشرين عاما المنصرمة منذ استخدمها منهجيا المؤرخ بول كينيدي في كتابه “تحضيرا للقرن العشرين” وهي لازمة التذكير بان الدخل الفردي لبعض دول افريقيا في اوائل الستينات كان اعلى من الدخل الفردي لدول مثل كوريا الجنوبية. اوباما قارن كوريا الجنوبية بكينيا واين اصبح كل منهما الآن؟
واذ وصف شخصيات افريقية راحلة مثل كوامي نكروما وجومو كينياتا بـ”العمالقة” قال ان “مصير افريقيا لن يقرره” امثال هؤلاء، ومستخلصا بعمق ان “افريقيا ليست بحاجة الى رجال يمارسون القوة بل الى مؤسسات قوية”.
كمثقف يعرف معنى الكلمات التي ينطقها، قال للافارقة “اننا جميعاً لدينا هويات متعددة”، ليذكّر بزيارة ابي حركة الحقوق المدنية للسود الاميركيين، الدكتور مارتن لوثر كينغ الى غانا يوم استقلالها، وليجعلنا نفهم اكثر احد المعاني الثلاثة لاختياره غانا كأول دولة يزورها في ما وراء الصحراء: وجود مركز تجارة رقيق تاريخي فيها ابان تصدير “العبيد” الى اميركا، كونها ديموقراطية نسبية ثابتة رغم اشارته الى الخلافات حول نتائج الانتخابات، وثالثا لمدلول زيارة الدكتور كينغ اليها قبل 52 عاما، وعلينا ايضا ان نضيف خلف هذه الاسباب بعدا كشفه اوباما وهو اتساع الثروة النفطية فيها!
تنطوي “الجملة” الواحدة التي يستخدمها الرئيس اوباما غالبا على مدلولات متعددة: فهو في معرض دعوته الى عدم اعتماد اي اقتصاد على سلعة تصديرية واحدة، مذكرا بحقبة تحولت الى ذاكرة نهب للعديد من دول افريقيا فهو هنا يقول ان “البترول” المتزايدة عائداته في غانا لن يتحول الى “كاكاو” جديد، ومضيفا: “فالتاريخ اثبت انه من كوريا ج. الى سنغافورة فان الدول تزدهر في الاستثمار في طاقاتها البشرية وبناها الاساسية”.
باراك اوباما ايضا كما في خطبه الرئيسية الخارجية الاخرى لا يعدم تسجيل نوع من النقد الذاتي لاداء الحكومات الاميركية. وفي مجال العلاقة مع افريقيا هو يعترف بان “اميركا يمكن ان تتحلى بقدر اكبر من المسؤولية وهي تمد يد المساعدة” وهو يحدد بوضوح: “اننا نريد تخفيض النفقات التي يتقاضاها المستشارون والاداريون الغربيون”، لكنه في مجال التحفيز على توسيع الاسواق وعدم الاكتفاء بتطوير المدن ومد التحديث الى الارياف، “ستكون هناك اسواق جديدة تفتح لمنتجاتنا وبضائعنا نحن ايضا”.
• • •
لا اتكلم هنا عن تقييم سياسات واستراتيجيات، وانما عن نمط جديد من الخطاب السياسي يتعلق بسياسات واستراتيجيات!
وباراك اوباما بدون شك “نفَس” جديد يمنح ظاهرته الاجتماعية السياسية في التاريخ الاميركي، كأول رئيس أسود، عمقا ثقافيا جديدا موازيا… ايا تكن نتائج المدى الابعد… ولا بد من ان شيئا مختلفا سيحدث؟
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى