صفحات ثقافية

حرب ذائقة أخرى: في رهان الزمن يبقى باربي هو المنتصر!

null
فيليب سوليرس
إن الكثير من الأسماء التي مجدها المجتمع ذابت في أتون النسيان وهذا إنذار للتاريخ: ما الذي يستمر وما الذي لا يمحي؟
الضجر هو الأفعوان الخرافي للحياة، عندما نقطع رأسه ينمو له رأسان.
في هذا المقال نصاحب واحدا من جيل الكبار في فرنسا: بارت، لاكان، ألتوسير، كريستيفا… وأحد مؤسسي مجلة ‘تيل كيل’ في بداية الستينيات التي كرست توجهها للدفاع عن كتابا خلافيين – وقتئذ – كما هو الشأن مع: آرطو وباطاي وجويس وديريدا وفوكو وبارت. نستضيف فيليب سوليرس كي يعود بنا القهقرى إلى الخنادق المظلمة للقرن التاسع عشر، من أجل مقاربة تجربة ظلت تشاكس – وقتئذ – وحدها هناك، إنها تجربة ‘باربي دورفيللي’ الذي بقي في رهان الزمن هو المنتصر بحسب فيليب سوليرس.
المترجم
من لا يزال يهتم بباربي دورفيللي (‘) 1808-1889 الذي قضى حياته في مشاكسة زمانه؟
روائي وقاص، ناقد وصحHفي، لكنه كان من أكبر عصاة القرن التاسع عشر الى جانب بودلير وبلوي (1) حتى لا نذكر غيرهما، بحيث كان يمقت كل امتثال للأعراف.
كان متناقضا ويعيش مفارقات، أعني كان حرا، ومن الصعب تصور ذلك. انه كاثوليكي على طريقة جوزيف دومستر(2)، غير أنه في المقابل كان يحيا حياة أنيقة وغير مرتبة في نفس الآن. كان متعدد المغامرات، كثير الادمان على الخمر ويتناول المخدرات الممزوجة بروح الافيون الى أن لقب بـ: ‘ملك الفساق’ و’السردنابال دورفيللي’! (3) هاجم مختلف أوجه النفاق الذي كان يمارسه الطرف الكاثوليكي، وبلا هوادة انتقد الوضعية والطبيعية. آمن بالخطيئة التي تنفسها من خلال رئتيه، واضعا بذلك الشيطان في خدمة الله ببراعة لا يمتلكها الا القليلون.
فلتفتحوا كتابه الأكثر شهرة: ‘الشيطانيون’ ولتقرأوا التقديم (الذي وضعه) في أيار (مايو) 1874، يقول: ‘لا يعبر الأدب ولو عن نصف الجرائم التي يرتكبها المجتمع يوميا خفية دون عقاب وبسرعة مذهلة’.
يعتقد باربي أن مرشدي زمانه يعلمون أكثر من البوليس (خاصة فيما يتعلق بارتكاب المحارم)، علاوة على أنه ليست هناك فقط جرائم دموية، بقدر ما هنالك ‘جرائم ثقافية’ عنيفة هي الأخرى، وقد تكون أشد عنفا من سابقاتها.ان المجتمع لهو صديق الجريمة؛ فهل الأدب في مستوى هذا الرهان..؟!
في هذا المقام، يجب أن نفتح العشرين مجلدا تحت عنوان ‘الأعمال الأدبية والرجال’. بشغف، يؤمن باربي بالأدب. وتشغله تحديدا المراسلات والمذكرات؛ البورتريهات وكل ما يغلي في الحوارات، كما تقول سيسيل ريمو وهي واحدة من مقدمي ديوانه :
كل ما يؤسس روح الحوار وفي نفس الآن أسلوب المراسلة اجتث من مجتمع ما بعد الثورة. النماذج الكبرى طبعا، هي: فولتير ومدام دي ديفان(4) والأمير دوليني، لكن أين هم ؟هل يمتلك القرن 20 مترسلا عبقريا..؟ أجل سيلين. لقد كان صراع باربي اليائس في الخنادق المظلمة للقرن التاسع عشر، وعمليا كان وحيدا هنالك.
ما الذي يستهوي باربي؟ بلزاك ولا شيء سوى بلزاك: ‘بلزاك هو جبال الألب’. كان بلزاك محتاجا وقتئذ لأن يدافع عنه أحد ما: ‘بلزاك عبقري كاسح. سحق أولئك الذين اقصوه وأولئك الذين أرادوا النيل من قامته’. كان يتميز بـ’مثابرة متوهجة’، لكن الناس لم يكن لديهم من الجود الثقافي الشيء الكثير كي ينحنوا أمام العقل الخالص الذي يختزل بلزاك قوته. توفي في الخمسين من العمر بشكل بطولي ‘كما سيكون شأن بروست لاحقا. يضعه باربي في مكانة مرموقة جدا الى جانب شكسبير. ومع ذلك غاب بلزاك دون أن يعيش مجده، كما تؤكد ذلك ملاحظة غوتيي (5).ان بلزاك في استراتيجية باربي على النقيض تماما من هوغو، لكنه (يقصد باربي- المترجم) كان شغوفا بستاندال، وهنا تتجلى رؤيته البعيدة يقول:(خاض ستاندال خلال حياته كلها حربا عامة وخاصة يحبها الضعفاء: انها ‘حرب’ الرأي.
إن ستاندال لهو ‘السمو الجوهري’ الذي ‘كان سيعشق الكاثوليكية لو عرفها’. وفي المقابل، يعتبر ميريمي (6) باربي: ‘شخصية جافة’ وهو جوهريا أقل من ستاندال.فيهاجم باربي قائلا:
قلبوه، وأعيدوا تقليبه عشرين مرة لن تجدوا فيه سوى قطعة خشب صلبة في هيئة شيطان… كما فتح باربي النار على ميشلي (7) ورينان وزولا. أما فيما يتعلق بجورج ساند، فالأمر كان أكثر فظاعة: ‘مقيت يرطن’ ليس من أجل المجد عزم على الكتابة، لكنه كتب من أجل القبح.

الضجر بعد الثورة:

في سنة 1874 تم حجز ‘الشيطانيون’ بدعوى الإساءة إلى الأخلاق العامة والآداب الخلقية السوية. لم يقاتل باربي هذه المرة، بل ترك الحبل على الغارب؛ إلا أن الحرب تواصلت تحت أشكال أخرى. ان الكثير من الأسماء التي مجدها المجتمع ذابت في أتون النسيان وهذا انذار للتاريخ: ما الذي يستمر وما الذي لا يمحي؟
إن رسائل مدام دو ديفان مثلا ‘هذه التي تمثل سيفينيي القرن الثامن عشر(8) تألمت للموت، لكنها لم تكن أبدا ضجرة بل كانت سعيدة’.
الضجر، هذا المشكل الميتافيزيقي الكبير للأزمنة المعاصرة، ألح عليه بودلير منذ افتتاحية ‘أزهار الشر’، أو لنقل بمنتهى الوضوح بتعبير باسكال: ‘الضجر، الفظاعة، الحزن، الشجن، الغم، اليأس’. بعد الثورة كان الضجر، لكن ما الذي سيكون أكثر ضجرا من المشهد الهذياني الحالي، تعتقد مدام دي ديفان أن الضجر هو الأفعوان الخرافي للحياة،عندما نقطع رأسه ينمو له رأسان.
فما الجدوى من قطع رؤوس عديدة، وهذه الآلاف من الرؤوس المكشرة في قلق القمقم.
تبقى الآثار الحية حكما وضابطا و’أمسيات سان بطرسبيرغ’ ‘عمل يقطع الأنفاس بفضل الأفكار والصور النابعة من ميتافيزيقا قوية’، أو كما يقول سان سيمون: ‘كل شيء جميل: الأسلوب والفكرة والحكم على الناس والأشياء. انه علم تاريخي استثنائي أو هو قطعة من زجاج تتلألأ من فينيسيا’.
وفي رهان الزمن، يبقى باربي هو المنتصر.
ترجمة: مصطفى بدوي

الهوامش:
(*) جيل باربي دورفيللي: 1808-1889 روائي فرنسي جمع الى جانب قناعاته المحافظة أناقة وذوقا رومانسيا قلما اجتمعا لأحد غيره من أعماله: خليلة عجوز 1851 – ‘الأعمال الأدبية والرجال’ كتبها في عشرين مجلداً – (راهب متزوج) – ‘الشيطانيون’.
1. بلوي (ليون): 1846-1917 كاتب فرنسي ومتطرف كاثوليكي، حاد الطبع، أشاد بالفضائل العميقة للمسيحية. من أعماله: (اليائس) 1886- ‘المرأة الفقيرة’ 1897.
2. جوزيف دومستر 1753-1821: رجل سياسي وكاتب، كان خصما للثورة ومناصرا للحكم المطلق والسلطة الروحية للبابا. من أعماله: (عن البابا) 1819- (أمسيات سان بطرسبيرغ) 1821- (رحلة حول غرفتي) 1795.
3. سردنابال: ملك خرافي آشوري انهزم في نينوى فحرق مع زوجاته وكنوزه.
4. مدام دي ديفان1697-1780: سيدة آداب فرنسية، فتحت صالونا أدبيا حوالي سنة 1740، حيث كانت تستقبل كبار الكتاب الموسوعيين، لديها مراسلات مع فولتير و’والبول’ تحديدا.
5. غوتيي (تيوفيل) 1811-1872: كاتب فرنسي، دافع عن فيكتور هوغو خلال المعركة الأدبية التي أشعلها هيرناني في 1830. كان مدافعا عن نظرية: الفن من أجل الفن. هاجم الالتزام السياسي في الأدب وكل احالة على الحياة الشخصية للفنان. أثرت أشعاره في البرناسيين، وحياه بودلير بقوة في اهدائه لأزهار الشر.
6. ميريمي (بروسبير)/1803-1870 كاتب فرنسي بدأ حياته مسرحيا، لكنه كتب الشعر والرواية. لديه ديوان بعنوان ‘موزاييك’/1833، أنهى حياته بترجمة الأدباء الروس: بوشكين وتورغينييف. وهو الذي ساهم في التعريف بهم في فرنسا.
7. ميشلي (جيل) 1798-1874 كاتب فرنسي من أعماله: ‘مقدمة للتاريخ الكوني’ 1831، وفيها يعكس بوضوح مواقفه على ضوء فلسفة التاريخ منتصرا للجمهورية.نذر حياته الفكرية لكتابة تاريخ فرنسا.
8. توكفيل (شارل ألكسيس) 1805-1859 مؤرخ و سياسي فرنسي من أعماله: (عن الديمقراطية في أمريكا) 1835-1840. ‘النظام القديم والثورة’ 1856. عين وزيرا للشؤون الخارجية سنة1849 واعتزل الحياة السياسية بعد كانون الأول (ديسمبر) 1851.
9. سيفينيي (ماري) 1626-1696 كاتبة فرنسية عرفت بمراسلاتها التي تعتبر شهادة عن عصرها، نشرت مراسلاتها سنة 1726.
المصدر: مجلة نوفيل أوبزرفاتور- عدد 2333.
من: 23 آب (أغسطس) الى 29 منه 2009. ص:58-59.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى