كتاب يثرون اللغة الفرنسية
الطاهر بن جلون
هل ينبغي لك أن تكون زنجيا كي تحصل على جائزة أدبية في فرنسا؟ هو ذا السؤال الذي طرحه أحد الصحافيين على إدموند شارل رو رئيسة أكاديمية غونكور يوم الاثنين 10 تشرين الثاني (نوفمبر) وهو التاريخ الذي شهد تسليم أرفع جائزة أدبية إلى عتيق رحيمي الكاتب الأفغاني الذي أبدع رواية عنوانها ‘حجر الصبر’ باللغة الفرنسية. وكما يقال، فالأمر يتعلق بفرانكفوني أي أجنبي اختار لغة فولتير وسيلة للتعبير. وليست هذه المرة الأولى التي تتوج فيها أكاديمية غونكور كاتبا من أصل غير فرنسي. كان ثمة الكاتب اللبناني أمين معلوف والكاتب الروسي أندري ماكين والمارتينيكي شامواسو والأمريكي جوناثان ليتيل وكاتب هاته السطور. وفي كل مرة، كان الحدث يستقبل بطريقة خاصة ومرضية بشكل عام. أتذكر أن كاتبا فرنسيا معروفا بما يكفي بادر إلى القول على سبيل التفكه عقب حصولي على الجائزة عام 1987: ‘ينبغي من الآن فصاعدا لمن يرغب في الحصول على هذه الجائزة أن يدعى بن…’
تم تضخيم أثر الفرانكفونية هاته السنة بفعل منح جائزة رونودو ـ وهي ثاني أهم تتويج أدبي بعد غونكور ـ في اليوم نفسه للكاتب الغيني تيرنو مونينيمبو عن روايته ‘ملك كاحيل’ مثلما جرى مع أحمادو كوروما وآلان مابانكو قبل سنوات. كان ذلك سببا كافيا لإثارة حفيظة بعض الكتاب الفرنسيين الذين كانوا يتوقعون الحصول على هذه الجائزة أو تلك. غير أنه ينبغي الاعتراف بأن ذلك تم دون تواطؤ مسبق من لدن أعضاء لجنة التحكيم أو قرار مباغت حيال ما يكتب باللغة الفرنسية و لمجرد الاحتفاء بالغرابة وازدراء الإنتاج الأدبي ذي الأصول الفرنسية.
تشاطر بريطانيا التي تتوفر على عدد هام من الكتاب ذوي الأصول الهندية والباكستانية والإفريقية والآسيوية فرنسا هذه الخصوصية. غير أن وسائل الإعلام البريطانية لا تحدث مثل هذه الضجة ولا يندهش أحد حين حصول بريطاني من أصول أجنبية على البوك برايز. كان على فرنسا أن تنتظر طويلا قبل أن تحيط علما بأن لغتها منطوقة أكثر خارج حدودها. ثمة آداب تكتب باللغة الفرنسية وبالاحتكام إلى رؤى وأشكال من المتخيل تتسم بتنوعها واختلافها. ويشمل ذلك عدة بلدان من إفريقيا والعالم العربي وتحديدا منطقة المغرب وكندا وبلجيكا وسويسرا دون أن ننسى جزر الأنتيل. ويشكل ذلك بداهة ثراء لا ينكر وأساسا لتطوير اللغة وحضاراتها وضخ الحياة في أوصالها. تعتبر الفرانكفونية والزنوجة على درجة سواء في الثقافة والسياسة؛ ذلك أن فرنسا التي ترغب في الحفاظ على علاقاتها مع مستعمراتها السابقة تعمد إلى تصنيفها في خانة الفرانكفونية. غير أن العامل السياسي يمارس تأثيرا كبيرا بالمقارنة مع الثقافي. وتأسيسا على ذلك، يتم تقليص سياسة التعاون الثقافي مع هاته البلدان إلى أدنى مستوياتها؛ لأن الاعتمادات المالية المخصصة لذلك توشك أن تنعدم. وما تفتأ الميزانيات المخصصة للمعاهد الثقافية الفرنسية عبر أنحاء العالم تتضاءل باطراد إلى درجة وجه فيها المعهد الثقافي الفرنسي في برلين طلب مساعدة عاجلة تحول دون إفلاسه و إغلاق أبوابه. ويستعد معهد غرونوبل الشهير الذي افتتحه في مدينة نابولي الإيطالية جون دين أبوابه. والشأن نفسه بالنسبة لمعهد سراييفو الذي لا يجد المال اللازم لضمان اشتغاله. ثمة أيضا عدد آخر من المراكز والثانويات سوف يغلق أبوابه في عدد من البلدان. إنها هزيمة للغة والثقافة الفرنسيتين. وتشكل هذه السياسة نقيضا لمزاعم فرنسا. ذلك أنها ما تفتأ تشتكي من الانتشار المتسارع للغة الانكليزية في كل مكان، لكنها عوض أن تضاعف الاعتمادات المالية المخصصة لتطور اللغة الفرنسية تؤثر التراجع والانسحاب والتواري آنا بعد آن.
رغم هذا الاختيار البائس الموسوم بقصر النظر وبصرف النظر عن هذا البخل، فإن بعض الكتاب القادمين من بلدان بعيدة أو قريبة يؤثرون التعبير بهذه اللغة، ويقومون بتجميلها وتحويلها وجعلها وسيلة تواصل رئيسية وسبيلا إلى الحلم وحث القراء الفرنسيين أو غيرهم عليه. أفلح بعض هؤلاء الكتاب في تحقيق النجاح والتميز، وتمكنوا بالاعتماد على مواهبهم والقيمة الاستثنائية لكتاباتهم من لفت انتباه أعضاء لجان تحكيم الجوائز الأدبية الرئيسية لفصل الخريف. ويكفي أن ننظر إلى لائحة أفضل المبيعات لكي نحاط علما بأن قطاعا واسعا من الجمهور يحبهم ويقرأهم. ينضاف إلى ذلك أنهم يترجمون إلى لغات عدة؛ وهو ما يعني أن وجودهم يقدم خدمات كثيرة للغة الفرنسية وفرنسا التي هوجمت بقسوة في السنة الفارطة في تحقيق لجريدة ‘التايمز’ اللندنية أعلن فيه ‘موت الثقافة الفرنسية’.
أثار هذا المقال ضجة كبيرة، لكنه لم يقنع صانعي القرار السياسي في بلورة وتطوير التعاون الثقافي في العالم. لقد انتابهم الغضب، لكنهم يمعنون في عدم الاعتقاد في إمكانيات وقدرات اللغة والثقافة على ضمان حضور الحضارة الفرنسية في باقي أنحاء العالم. حيال هذه الوضعية، لا يشكل انحسار التأثير الفرنسي في العالم مفاجأة أو ظلما. ذلك أن فرنسا أسهمت بسياستها الاقتصادية المتقشفة في قطاع الثقافة في خلق هذا الانحسار؛ وهو ما يثير الأسف.
ترجمة: عبد المنعم الشنتوف
القدس العربي