صفحات ثقافية

محمد مظلوم : السيرة الشعرية المختنقة

null
إبراهيم حسو
(لكي تكون شاعرا يجب أن تكون عرّافا.. رائيا) هذه الجملة الصاعقة لرامبو في إطار بحثه المضني لكشف المستقبل واقتحام المجهول ونبش وغوص في الحياة الإنسانية الغامضة، بالرؤيا الصوفية المحمومة الحالمة التي تقترب من حالة ذوبان اللاوعي في جليد الذات.
ضمن هذا الوعي الاستباقي نجد شعريات عربية تحاول الوصول وفتح معابر شعرية تمتحن الآتي (القادم) عبر تنويعات لغوية تجريبية جديدة تستشف كونيات شعرية لم تستكشف من قبل، ولعل تجربة كتجربة الشاعر العراقي محمد المظلوم عبر (ستة كتب شعـرية أصدر معظمها في سورية) ما تشبه تنقيبات شعرية محدثة للأشياء والكلمات والعالم تكتشف للمرة الأولى، حتى تلك الأشياء البديهية والمعروفة والمتآلفة عليها نجدها في أشكال تعبيرية جديدة مرسومة بفوقية واستثنائية ملحوظة وكأن الشاعر هنا يعرض واقعيته بقلق ذاته، ليفطر في الأخير ثقافة موازية لهذه الذات، مؤسسة على فتوحات شعرية لاقتحام المستقبل.
ومن يدخل في أجواء (النائم وسيرته معارك) كتابه الشعري الرابع، حيث الغربة الأبدية والتيه السرمدي لشاعر ألهمه حبه لوطنه العراق، ليتحول هذا الوطن إلى مشروع آخر أكثر ثورية وكشفا للحياة والمستقبل، وذلك عندما يصبح الوطن قصيدة أو نصا أو جسدا، ويتقمص الشاعر هنا دور المحرر والثوري والهائم على وجهه لا يعرف طريقا للخلاص سوى طريق الشعر، ولعل تقصي الكون ومحو السواتر بين الذات والموضوع ومعاملة جديدة مع العالم حوّل نصه في (المتأخر عابرا بين مرايا الشبهات) 1994 إلى ما يشبه حالات خلق إبداعي نادرة كشفت الكثير عن التشاركات في الرؤى مع العالم الخارجي، ووجدت حلولا شعرية مع الأشياء والواقع والإنسان، لكن بالمقابل تجد ان هذه التبدلات هي في السطح في القشرة بعيدة عن ذلك العمق الفكري الذي يحمل على متنه قسمات المستقبل المنشود:

تنام المرأة
وتحلم بالذين نسوا شجراتهم في السماء
والسرير
يحلم أو يحن
إلى موته في الغابة.
ماذا لو جسدان حنا
على سرير أمام مرأة
إلى صورتهما في النسيان.
وفي (بازي النسوان) الإصدار السابع وقبلها (اسكندر البرابرة) تتبدى بنية شعرية ايروتيكية مذهلة، شبقية، اغوائية تغني بالفحولة، تقوم على فعل شهواني تلذذي تنتج خصوبة بصرية مشهدية واستكشافية تنبع من تشكلات (اغترابية) معذبة ولا نقول (محرمة) وكذلك العزل الاختياري الذي تنفصل فيه الشهوة عن جسدها وتتوحد مع الجسد الشعري في لعبة لغوية أدواتها اكتشاف متاهي الجسد والغوص في جوهره (العميق) المتشابك المحير، كما ان (بازي النسوان) هو كتاب ذكوري خاص لشاعر له خاصية ملتبسة حادة، والأصح حياة معاشة على السرير وتفاصيل جد مثيرة تجري على هذا السرير (احتفالية السرير) تنكشف هذه الحياة السرية بكل تصنيفاتها (اللهاثية) لقارئ لم يتعود على هذه (الإباحية الشعرية) المعلنة والمحضة، كأن الشاعر يتعرى أمام القارئ في سبيل إنتاج معرفة (جنسانية) دسمة، وفي سبيل تقديم واتقاد الجسد بكل شهواته الحارة المتدفقة: (فرائس أجمعها من سفوح شتى اكتبها على زخارف أعماقك الذائبة كموجة صيف على ظهرك الموشوم بالأنهار المختفية والفراشات على صدرك المكتنز باليفاعة اكتبها على وجهك الذي يتذكر صورتي).
ويأتي إصداره الأخير (كتاب فاطمة) مفجعاً بكل معنى الكلمة، ومن المعروف أن الشعرية اتسمت منذ انطلاقتها بالفجائعية أو كما يقال في العراق بالشعر السواد الذي غطى مرحلة كاملة من شعرية امتدت على أكثر من 60 سنة ولونتها بالسواد والمواويل والمعاتبات وأحياناً بلون الدم، فجائع محمد مظلوم في (كتاب فاطمة) شخصية جدا ومؤلمة، أخذت منه زوجته وابنيه التوأمين اللذين لم يفتحا عيونهما بعد للحياة، وهو في غمرة آلامه وخسارته لفاطمة لا تعرف أن كان يرثيها أو يعاتبها على رحيلها بهذه الصورة الفجائعية، فاللغة عند مظلوم مرتعدة ومشحونة بطاقة هي طاقة ألم جارحة لا تستكين والصور لا تتوقف في طغيانها للون واحد هو لون الحزن، لون سواد المنفى، تحضر اللغة مع محاولة استرجاع الماضي أو التقرب منه عبر وصف الأشياء الحميمية المشتركة أو عبر سرد حكائي لمجريات يومية تركت علامة عميقاً في داخل الشاعر، وتغيب اللغة أحياناً أمام بساطة المواقف الحياتية العابرة التي تقوم على حواريات داخلية بين الرجل والمرأة وتتنامى الحوارات إلى سياقات شعرية تقترب من المناجاة والبوح السري الداخلي لذات الشاعر:

هيا انهضي
أحب الصباح معك
صباحي يتأخر لأجلك
هيا قومي وأيقظيه
فحين تستيقظين
يبدأ الصباح من جديد. مكياجك يا حبيبتي
يبكي في الأدراج
وألوانه شاحبة وتائهة
فساتينك الصيفية تهوي في الخزانة
كحشد نساء منتحرات
معطفك الجلدي يرتجف في زاوية كانون
أحذيتك تبكي بلا قدمين
وتتعثر بلا طريق.
نص (كتاب فاطمة) من النصوص النثرية الطويلة ذات النسق الواحد المنتظم، مكتوبة بوتيرة واحدة ونفس لم تتقطع أو تتوقف عند جملة أو مفردة، انسياب لغوي تجمّله تلك اللوعة الحارقة، ويعمقّه ذلك الحب الغريق الذي يصل إلى حد فقدان الروح، والتماهي مع الموت كطريق نحو الخلاص الفردي، الذي نجده في سرديات وشعريات النصوص السومرية القديمة، كما جاء مقطع منها في بداية الكتاب.شاعر من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى