صفحات ثقافية

ديريك والكوت.. وايتمان الكاريبي: الشــاعر المتَغضّــن المُلْتَحــي بالزوبعــة

null
لينا شدود
بعض الجماجم عليها أن تحكّ ذاكرتها بالرّماد
بعض العقول عليها أن تقعي وتنبح في غبارك
بعض الأيدي عليها أن تزحف وتعيد جمع نفاياتك
«ما الشّعر إن كانت قيمتهُ ملحه»
والكوت المولود 1930 في سانت لوشيا, إحدى جزر الهند الغربية, يدرّس الآداب والكتابة الإبداعية في جامعة بوسطن وعضو فخري في الأكاديمية الأميركية، حاز على نوبل عام 1992, وقبلها حصل على الميدالية الذهبية لجائزة الملكة 1998.
بالنّسبة له الكتب الجيدة نادرة لذلك دائماً يعود لقراءة الشّعراء الكبار, وليس آخر كتاب شعري. يصرّ على التّمييز بين القديم والجديد, ولكن لا مانع من ظهور أصداء القديم، أو لنقُلْ رغبة جمع ما تكسّر واندثر، مُستخدماً مفردات الحوار الموسيقية، وأحياناً كثيرة عناصر الرواية.
عندما تقرأ والكوت سيطالك حذق البحّار المحارب بصوره المُبتكرة، الموغلة في الحقيقة, ولكن ليس على حساب القصيدة, مع كل ما يحمله من تعب جزر الهند الغربية، في لوحات خيالية، مُتخَمَة بتلميحات كلاسيكية.
لا يملّ والكوت من إنهاك القارئ بأسلوبه الأنيق الذي يجمع بين الرّقة والرّصانة، مع مهارة المزج بين الشعر والنثر… سرعان ما سيشدّك إلى ذكريات حفرتْ عميقاً, ويفرش أمامك مفردات الكاريبي المليئة بثمار البحر, ومُلوحة الهواء وأشجار اللوز النحاسية المجدولة.
قد لا يكون هناك تماثيل مرمرية في ترينداد, لكن والكوت يعتبر منطقة الكاريبي أكثر إغريقيةً من أوروبا, بما هي خليطٌ من أعراق مختلفة, ومنطقة صراع بحري وعسكري. لذلك نشعر أن الثقافة اليونانية تصفر جيداً في رأسه, بألوانها وناسها, بقديمها وجديدها… معه، ربما تفقد ذاكرتك في بحر من قصب، أو تبكي بعيون دبقة.
سيصدمك تجذّر الرّق والعنف إلى جانب الجمال… تجار، عبيد، وقراصنة؛ وحالة اغتراب تلد إحساساً دائماً بالنّفي والوحدة. أيضاً ستتألم مع الأشجار المقطوعة، والأرواح الطّليقة، وستجفل من الفكوك التي لا ترتاح أبداً، وهي تلتهم وتبيد كلّ شيء.
يحب والكوت أن يصف نفسه بأنه «شاعر متغضّن, مُلْتحٍ بالزّوبعة, أوزانه كالرّعد».. مع أنه مستخدم ماهرٌ للصمت.
كما قال عنه شون أوبراين»: والكوت وفيّ لأصوله فيما يخاطب العالم».
كأي كاتب من جيله يكتب بالإنكليزية, يدرك أن النّاقد الكاريبي سيتهمه بأنه يحاول أن يكون إنكليزياً, في حين أن الإنكليزي سيرحب به.
من حطام حياته الذي يوازي الاهتراء السياسي في الكاريبي، كتب والكوت قصائده بوضوحٍ قدر الإمكان, كما يصرّح دائماً، بلغةٍ نستشفّ منها الكثير من شكسبير والإنجيل؛ لغةُ تسللت إليه من قراءات طالما سحرته بها أمه الممثلة التي جرّته للكتابة للمسرح في عمرٍ صغير.
في قصيدته «صراخ بعيد من أفريقيا» يُظهِر ولاءه لأفريقيا وبريطانيا معاً، وبلهجةٍ مُلحّة ومتوترة تعكس حالة اللاإستقرار، والاغترب عن أفريقيا:
أنا المسموم بدمهما معاً,
كيف أعود, أنا المقسّم حتى الوريد؟
أنا الذي لعنت
الضابط الثمل للقيادة البريطانية, كيف أختار
بين أفريقيا والإنكليزية التي أحب؟
أأخونهما معاً, أو أعطيهما ما قدّماه؟
كيف لي أن أواجه وحشية كهذه وأبقى بارداً؟
كيف لي أن أنكص من أفريقيا وأحيا.
يأتي العنف في القصيدة من ذكره لانتفاضة الماوماو في كينيا، ومعركتها الدّامية عام 1950 حيث:
«الدّود سيد الجيف» .
ولكنه إلى جانب العنف يسحرنا بوصف الطّبيعة البكر … الفضة المنثورة على الموج, الأثداء الدّائرية للخلجان الحليبية, والليل الذي يأتي ليزّنر الأطفال السّود بجماله، ويحررهم من أغاني الفقد.
العنف والجمال
العنف والجمال في قصائده في حركة دائمة ومتواترة كما في قصيدة «أنقاض البيت الكبير»:
سيرتطم الرفش تحت الأوراق الميتة بعظام
بعض الحيوانات الميتة أو أشياء آدمية
سقطت في أوقات شيطانية, من أيام شيطانية»
ثمة عين نهمة تنهش دائماً عند والكوت:
«العين النّهمة تفترس المشهد البحري رغبة
في إبحارٍ ضئيل».
لكنه كثيراً ما يؤكد أن العقل النّاضج سيتلف كبندقة صفراء.
في قصيدة «أنقاض البيت الكبير» يأتي البيت كرمز للحالة الاقتصادية القائمة على الرّق. تبدأ القصيدة بسؤال من الذاكرة التّاريخية عن الثأر, مع أننا نلمح انعكاساً للبراءة، حيث جمال البيت الكبير إلى جانب تجذر العنف والرّق.
في قصيدة «الطّربون»: يستفزه ألم الطربون…
في سدروس .. الطربون، مدهوشاً, مُتقلصاً ومصدوماً
على الرّمل الميت,
«بعين ذهبية يغرق
مسوطاً بألم وحشي».
ومن ثمّ تلفحه نار الهجرة إذ يُوقظ الشّرقَ ليَشهدَ عنف الهجرة من العقل…
قبضة الشتاء تشدُّ على الطيران الواهن
للبط البري والنهري ذي الرّيش الأزرق في طيرانه
من بين أقواس القصب المحنية بالريح,
سهامَ رغبةٍ لسمائنا المختلفة.
ثورة الفصل تشحذ حاسّتها,
هدفها شمسنا الاستوائية, بينما
أوقظتُ هذا الشروق لقسوة
صور تهجر العقل.
ودائماً لأشجار اللوز الحضور الأخّاذ, حيث المحيط المخضوض، والتاريخ اللامرئي، وأشجار اللوز المجدولة النّحاسية المَحْنية على الماء؛ الكهلة منها سَتُحشَد لتشوى في فرن، عارية إلا من أسمائها, بينما سمراوات دافنيس يقمّرن أجسادهنّ على الشّاطئ.
ربما تقف قليلاً لتتأمل كيف سَتُتلفُ السيجارة المُدخنة بعمق الفتوّة التي ولّت، أو ستشمّ رائحة الشحم الذي كتبت فيه حكاية مدينة احترقت.
وإذا ما تبعته إلى توباغو أواسط الصّيف حيث رتابة الزّبد الواهن, تهدّج البوم وقصب البحر اللامع بين الفضي والأخضر, الشّطآن المرجومة بالشّمس والنخلات الصّفراء المشوية.
وسيلذ لوالكوت إقناعك أن الصّمت أعتى من الرّعد وأنك غالباً ما تتهيأ لبلوى فتأتيك أخرى.
شجرة اللوز صديقة والكوت لا تجفل تحت الرّذاذ وهذا لحكمة منها؛ لا ريب أنّه يحسدها على ذلك.
الهند بالنّسبة لروحه بعيدة جداً، لكن الزّمن الذي يهدر في أذنيه كنهرٌ يذكره «بالدّيوالي»(١).
سيعبر والكوت هؤلاء البشر عبور غيمة, أو ربما كطائر أبيض ليقهر بحر القصب. مُقتفياً أثر التّاريخ، ذلك أن «البحر تاريخ»، تاريخٌ لرجال غرقوا من دون أضرحة, لعظام(٢) انطحنت بطواحين الرّيح:
«هناك الكثير من اللاشيء هنا»
غيمة حقودة
ربما هذا اللاشيء، الأصوات التي تخدش الشفق كسعف نخيل مُجففة، أو الظهورات الرّمادية التي تقلقه في قصيدة «الشرفة» أو ربما أزمنة التاريخ المُندثرة.
سترافقك دائماً عبر القصائد غيمة حقودة وألسنة نوارس صدئة، لتدلّك على الظلم المتَفشي، بينما كل شيء يدور في عاصفة من المواثيق والأوراق البيضاء.
يشير والكوت في قصيدة «بلوز» إلى العنف في إقصاء السّود، لا لشيء إلا لأن الحياة منحتهم ركلات كثيرة, وها هم يقلدون أميركا الفتية.
تصل الآلام أحياناً عنده لدرجة الصّفر, الدموع مُتجلّدة وأنين المجاعة مثل مِنجَل:
«ثم رأيت أولاداً
ينقضّون على لحمٍ أخضر بضراوة الجرذ».
يُهدي والكوت قصيدته الآسرة «غابة أوروبة» لصديــقه «جــوزيف بروديسكي» الشاعر المَنفي من أوروبــا السّوفــياتية إلى الولايات المُتحدة.. من النيڤا المتجــمّدِ إلى تَدَفُّــقِ الهدسون،
تحت قباب المطار، رجْع صدى المحطّات،
رافد المهاجرين الذينَ جُعِلَ منفاهُم
حقيراً كابتذالِ البردِ،
مواطنوّ لغةٍ هي لغتكَ الآن.
حيث قضيا الشتاء معاً في كوخ بني في أوكلاهوما. شبّه والكوت الأشجار بأغصانها العارية بالنّوتات الموسيقية، فيما شبّه القصيدة بندف الثلج..
ثلج أكيد ستمتصه أرواحنا عند قراءة ديريك والكوت.
(كاتبة سورية)

(١) «مهرجانات الأضواء والشّموع» في الدّيانات الهندوسية والملاحم السنسكريتية.
(٢) إشارة لمدينتي عمّورة وسدوم، المدينتان اللتان دمرهما الرب كما جاء في الإنجيل

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى