صفحات العالم

رحلـة مثيـرة لتسـاؤلات بـلا إجـابـات

سمير كرم
حكاية توريث جمال مبارك رئاسة مصر أقرب ما تكون الى السر العلني .. فهي حكاية يعرفها الجميع ولكنها كقرار لا تزال سراً.
أقرب مثال اليها حكاية الترسانة النووية الإسرائيلية ..سر لكن ليس هناك من لا يعرفه. في الحالتين هناك شعور لدى صاحب الشأن بأنه يستطيع ان يستفيد من إبقاء الأمر بعيداً عن التأكيد وعن النفي. مع ذلك ففيهما ما يفشي شعوراً بأن الإعلان الرسمي عن السر ينطوي على خطر.
في ما وراء ذلك لا يوجد أي شبه بين الحكايتين.
وقد اكتسبت رحلة جمال مبارك الأخيرة الى واشنطن بعض سمات السر المعروف… فهي كانت نصف علنية ونصف سرية شأن كل تحركات جمال مبارك خاصة الخارجية… سواء تكلم او تسلح بالصمت. فإن لغز التوريث يظل ماثلاً وإن لم يقترب منه. ربما تكون هذه مسؤولية الشعب المصري الذي يؤكد في كل لحظة انه يعرف حتى ما لا يريد المسؤولون له أن يعرفه. وليس بإمكان احد ان يقنع المصريين بأن رحلة جمال مبارك الأخيرة الى واشنطن لا علاقة لها بمسألة التوريث. فالواقع ان حجم هذا اللغز يتضاءل امام اعين المصريين وانتباههم بمرور الوقت، وبصورة اخص بارتفاع معدل نشاط مبارك الإبن داخلياً وخارجياً.
بل يمكن القول إن لغز التوريث يزداد وضوحاً في كل زيارة يقوم بها جمال مبارك للولايات المتحدة بوجه خاص عن المرة التي سبقتها… حتى لقد اصبح من العسير إقناع أحد بأن للزيارة أهدافاً أخرى، وحتى لو سيقت هذه الأهداف الأخرى من السياق المنطقي والزمني للزيارة. لقد استطاعت زياراته السابقة للولايات المتحدة أن تحتفظ بقدر من السرية… حتى انه لم يكد يعرف انه قام بها الا بعد ان كان قد عاد.
هذه المرة يبدو الأمر مختلفاً…حتى وإن بدا أن السلطة ما كانت تريد أن تعلن.
ككل الزيارات السابقة لم يصدر بيان رسمي بموعدها وبرنامجها عن رئاسة الجمهورية ولا عن رئاسة الحزب الوطني ولا حتى عن أمانة السياسات التي يتولى جمال مبارك رئاستها. إنما كانت مهارة صحافية هي التي أزالت السرية عن الزيارة قبل يوم واحد من موعدها. صحيفة «الشروق»، الوجه الجديد في الصحافة اليومية المصرية، انفردت بالنبأ من خلال مراسلها في واشنطن. أي أن «مصادر اميركية مطلعة» هي التي سربت النبأ. بعدها تداعت الصحف المصرية ـ قومية (اي موالية) ومعارضة لمعالجة النبأ من زاوية او اخرى. ونتبين ان هناك حرصاً رسمياً من الجانب المصري سواء في القاهرة او في واشنطن على نفي وجود التوريث على جدول أعمال الزيارة … إنما حرص على ذكر أسباب ودوافع اخرى للزيارة:
÷ التمهيد لزيارة الرئيس الأب لواشنطن لأول لقاء مع الرئيس الأميركي الجديد باراك اوباما. بما في ذلك اقتراح جدول اعمالها تأكيداً لإمساك مصر بزمام الامور في منطقة الشرق الاوسط: من الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، الى الصراع الإيراني ـ العربي، الى المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية، الى مسألة مستقبل البشير السوداني التي ألقت على عاتق الرئيس مبارك عبئاً جديداً.
÷ التأكيد للجانب الأميركي الرسمي وخاصة الكونغرس بأن أوضاع حقوق الانسان في مصر بألف خير، وأن تقرير وزارة الخارجية الاميركية الاخير الى الكونغرس متضمناً انتقادات حادة للسلطات المصرية ينطوي على مبالغات وحتى أخطاء، وأن تقدم الكونغرس نحو قرار يربط المساعدات الاميركية الاقتصادية، وربما العسكرية ايضاً، بأوضاع حقوق الإنسان فيها، يمكن ان يضر بصورة أميركا التي تريد إدارة أوباما تحسينها في المنطقة، خاصة بعد أن استجابت القاهرة لطلبات الإدارة الاميركية بالإفراج عن المعارض ايمن نور ووعدت بإجراءات إيجابية بشأن بعض السجناء السياسيين الآخرين.
÷ التأكيد للجانب الاميركي بأن مصر وحدها ـ ودعوكم من البدائل التي تطرح نفسها في المنطقة ـ هي القادرة على قيادة المسيرة الى شرق اوسط جديد مرحب فيه بإسرائيل، إنما ليس بإيران… وهو ما يتفق وأهداف إدارة أوباما الساعية الى تغيير اسلوب التعامل مع المنطقة العربية والعالم الاسلامي.
…ولا كلمة عن التوريث، ولا عن محاولة من جانب الوريث لمعرفة موقف ادارة اوباما من الفكرة. فقد ذهبت الى غير رجعة ادارة بوش التي لم تبد في اي وقت منذ عام 2002 اى قبول للفكرة، وعندما استقبلت جمال مبارك في البيت الابيض كان ذلك بأحد ترتيبات الصدفة في احد اروقة القصر.
لكن عناد المصريين يصور لهم ويثبت في أدمغتهم ان لا شيء يهم في زيارة مبارك للولايات المتحدة اكثر من بند التوريث وموقف الادارة الجديدة في واشنطن منه… وإلا لما عهد بالأمر الى جمال مبارك نفسه ومؤسسات مصر الرسمية غنية بذوي الخبرات وأصحاب الصلات الجيدة القوية مع واشنطن. ويبدو للمصريين ان جمال مبارك يبدي إصراراً على تولي شؤونه التي تخصه بنفسه ولا يتركها للغير أياً كانوا.
مع ذلك تتواصل وتستمر أسئلة كثيرة عن زيارة جمال مبارك لأميركا في هذا الوقت بعد إطلاق سراح ايمن نور من السجن بمعجزة من السماء (ربما المقصود هنا سماء واشنطن) وبعد اسابيع من تنصيب باراك اوباما وبعد ايام من تقرير حقوق الانسان السنوي… أسئلة كلها من غير نوع الأسئلة التي يهتم الجانب الرسمي المصري بالرد عليها:
1) هل يعتقد جمال مبارك ان زيارة للولايات المتحدة تفيده ـ تقربه الى أفئدة المصريين وعقولهم ـ تفيد مركزه لدى الرأي العام المصري؟ هل يظن ان المصريين واقعون في غرام اميركا الى حد ان زيارة اخرى اليها تبرر طموحه الى وراثة عرش الرئاسة المصرية؟
مهما كان الرأي السائد في حدود خبرات امين السياسات في الحزب الحاكم فإنه ليس متديناً الى حد الظن بأنه لا يعرف أن زيارة أميركا لا تؤذيه في عيون المصريين (عدا قلة لا بد من الاعتراف بوجودها وبمدى حبها وولائها للولايات المتحدة،حتى بعد كل ما جرى منها ومن إسرائيل في غزة مؤخراً).
2) هل يعتقد أن موقف الرأي العام الاميركي والناخبين الاميركيين تمتد أهميته ويمتد تأثيره الى مصر ويتفوق على الرأي العام المصري والناخبين المصريين حين يأتي وقت التوريث؟
3) لماذا لم يظهر جمال مبارك في مؤتمر صحافي في القاهرة بعد عودته ليرد على التساؤلات عن الزيارة وملابساتها وأهدافها؟ أم أن الامر يحتاج الى مزيد من الوقت لإعداد دقيق يجعل كل شيء ـ بما في ذلك الأسئلة ومن يوجهونها ـ تحت السيطرة؟
4) هل يشعر جمال مبارك بارتياح اذا استدعى الى ذاكرته ما قاله الرئيس اوباما في خطاب يوم التنصيب عن «أولئك القادة الذين يتشبثون بالسلطة عبر الفساد والخداع وإسكات المنشقين، والذين تعرف شعوبهم أنهم في الجانب الخطأ من التاريخ»؟. ام ان التوريث في تقديره نوع من التخلي عن السلطة وليس التشبث بها؟
5) اذا كان جمال مبارك قد ذهب في مهمة تهدف الى تحسين صورة مصر الرسمية لدى ادارة اوباما، فكيف يمكن تبرير كشف الحسابات الخاسر الذي يحتوي على نسبة بطالة تصل الى 18 في المئة، وأربعين مليوناً من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، وواحد من اعلى المعدلات لعمالة الأطفال، وواحد من اعلى المعدلات في العالم للأمية بين النساء …الخ.
6)هل استطاع جمال مبارك ان يطمئن الادارة الاميركية الجديدة الى مستقبل الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر في ضوء الإحصاءات والبيانات المنذرة بالأخطار التي تصدر دورياً عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؟ ام انه ربما اعتقد ان كلمة منه في أذن اي مسؤول ستكون اوقع وأكثر صدقية؟
7) وماذا عن العلاقات المصرية الأميركية في حد ذاتها؟ الى أين هذا التحالف الذي وضع مصر ضد فلسطين والمقاومة وضد الحق والعدل، مع الشروط الإسرائيلية ومع التسليم بالأمر الواقع الإسرائيلي الذي لا يكف عن الاتساع والتوسع في المستوطنات والاعتداءات؟ هل استطاع جمال مبارك ان يضع ـ فضلاً عن ان يفرض ـ شروطاً مصرية للعلاقات مع اميركا؟ هل استطاع ان يقدم اعتراضات مصرية على السياسات والممارسات الإسرائيلية في المنطقة… حتى على الحدود المصرية؟
هذه الأسئلة وكثير غيرها لا تلقى إجابات لدى أمين السياسات ولا لدى أي من المسؤولين المصريين، سواء في الحكومة او في الحزب الحاكم… ولكن لها إجاباتها لدى المصريين، لأنهم هم أنفسهم الذين يطرحونها، وفي اغلب الأحوال فإن من يطرح الأسئلة يعرف إجاباتها (…)
في الوقت نفسه فإن الأجهزة الأميركية ترقب عن كثب وباهتمام ما يجري في مصر قريباً من التوريث او بعيداً عنه. وهي ـ على سبيل المثال ـ قد راقبت مجريات مؤتمر الحزب الوطني في العام الماضي والدور الذي لعبه جمال مبارك فيه… وكانت هي ـ اميركا ـ التي وصفت المؤتمر بأنه كان بمثابة انقلاب داخلي لصالح جمال مبارك ضد الحرس القديم الذي خدم الرئيس الأب على مدى 27 عاماً بكل تفان. وتعرف هذه الاجهزة الاميركية الرأي الصريح والواضح للرأي العام المصري في هذا الحزب باعتباره مركزاً للفساد ولإدارة السلطة بعيداً عن مصالح غالبية الشعب، قريباً اكثر وأكثر من نخبة اصحاب المليارات.
[[[
لعل التحول الايجابي الوحيد الذي ناله جمال مبارك طوال السنوات الماضية هو ما ابداه زعماء جماعة الأخوان المسلمين (المحظورة!) من استعداد لتأييد توليه الرئاسة وريثاً لوالده شرط رفع كل القيود على العمل السياسي عن الجماعة والإفراج عن السجناء والمعتقلين من قادتها. ولكن هذا التحول، الذي يبدو في ظاهره مكسباً، يمثل محنة إضافية في الوقت ذاته. هل يستطيع ان يتقدم الى الرئاسة وأن يمارسها في وجود جماعة الأخوان المسلمين طليقة من اي قيد؟ ام انه سيجد نفسه في النهاية مضطراً لرفض قبولهم له؟
ترى هل تطرقت زيارته الأخيرة لأميركا لهذا الموضوع وماذا كان موقف الأميركيين؟
([) كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى